|
|
الصفحة السابقةسُنّة الله تعإلی في الجزاء ليست جزافاًمَن كَانَ يُريدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ و فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ و جَهَنَّمَ يَصْلَـ'هَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ وَسَعَي' لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـ'ئِِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـ'´ؤُلإ وَهَـ'ؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. [1] أي أ نّنا نعطي مَن يشاء ما يشاء بقدر معيّن، ولا نبخل في عطائنا، ودأبُنا هو أن نفيض الرحمة والوجود علی أساس نوايا الناس وطلباتهم وظرفيّاتهم، فمن شاء الآخرة أعطيناها له، ومن شاء الدنيا منحناها إيّاه، إلاّ أنّ لكلٍّ من هذه الرغبات وهذه النعم العاجلة والآجلة جزاءً سيلحق الناس تبعاً لتلك الرغبات والطلبات. ولو بذرتم في الارض بذرة تفّاح، لانتجت شجرة تفّاح، ولاثمرت تلك الشجرة تفّاحاً، علی أنّ لكلّ نوع من التفّاح بذر خاصّ، فهناك التفّاح الاحمر، والتفّاح الاصفر، واللبنانيّ، والخراسانيّ، وغير ذلك من أنواع التفّاح. ومن المحال أن نبذر بذر التفّاح الاصفر، فيعطي تفّاحاً أحمراً؛ أو أن نبذر بذر التفّاح المدعو بتفّاح «گلاب» فيثمر تفّاحاً خراسانيّاً. كما أنّ من المحال أن يبذر المرء بذر تفّاح، فيعطي شجرة كمثّري أو شجرة قراصيا أو شجرة مشمش. ومن المحال كذلك أن يبذر المرء بذر إلیقطين، فيعطي باذنجاناً. أو أن يبذر بذر البطّيخ الاحمر فيثمر بطّيخاً أصفراً. وهي سُنّة من سنن الله الثابتة التي لا تتغيّر. نعم، يمكن أن ينمو برعم ما علی إثر التطعيم بالبراعم، فينتج من تطعيم برعم شجرة لوز حلو علی شجرة لوز مرّ، لوزٌ حلو ذو مذاق جيّد مقبول. كما يمكن تطعيم برعم شجرة التوت المعروف بـ «كَن» أو «وَنك» [2]علی شجرة التوت «نَرَك» فتثمر توتاً كبيراً حلواً ذا عصارة. يقول الشاعر المولويّ: گر تو اين انبان ز نان خإلی كني پر ز گوهرهاي اجلإلی كني طفل جان از شير شيطان باز كن بعد از آنش با مَلك انباز كن تا تو تاريك و ملول و تيرهاي دانكه با ديوِ لعين همشيرهاي [3] لقمهاي كان نور افزود و كمال آن بود آورده از كسب حلال روغني كايد چراغ ما كُشد آب خوانش چون چراغي را كشد علم و حكمت زايد از لقمة حلال عشق و رقّت زايد از لقمة حلال تو ز لقمه چون حسد بيني و دام جهلو غفلت زايد آن را دان حرام هيچ گندم كاري و جو بَر دهد ديدهاي اسبي كه كرّة خر دهد لقمه تخم است و بَرش انديشهها لقمه بحر و گوهرش انديشهها زايد از لقمة حلال اندر دهان ميل خدمت عزم رفتن آن جهان زايد از لقمة حلال اي مه حضور در دل پاك تو در ديده نور [4] وبطبيعة الحال فإنّ الماهيّات قابلة للترقّي والتكامل، ويمكن للإنسان أن يوصل بالتعلیم والتربية جواهر قابليّاته المكنونة إلی منصّة الظهور، وإيصالها إلی مقام الفعلیة، إلی أن تصبح بأجمعها فعلیة محضة. هيچكس از پيش خود چيزي نشد هيچ آهن خنجر تيزي نشد هيچ حلوائيّ نشد استاد كار تا كه شاگرد شكر ريزي نشد [5] لا بخل في إفاضة الفيض من قِبل الحقّ تعإلیإنّ الله سبحانه يمنح القوابل الإمكانيّة قوّة وقدرة، ويهب الوجود والرحمة، ويمنّ بالفيض والعطاء. فالله عزّ وجلّ يقوّي نيّة كلّ شخص وينمّيها، وهو الممدّ والمقوّي. فإن أنت توجّهت إلی المعصية وجعلتَ قلبك مظلماً مدلهمّاً، أمدّ الله ذلك وقوّاه. وإن سعيتَ إلی الطاعة وأنرت قلبك، أمدّ الله ذلك وقوّاه. فهو سبحانه يعطي كلّ ما يسعي إلیه الشخص ويطلبه. كُلاًّ نُمِدُّ هَـ'´ؤُلآءِ وهَـ'´ؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ. نحن نمدّ الجميع بالقوّة والقدرة والعلم والحياة من جانبنا فحسب، ونفيض بعطائنا بلابُخل علی عالم الوجود والماهيّات بالإمكانيّة، ونرسل أمطار الرحمة التي لا حدّ لها، فتستمدّ كلّ أرض من ذلك المطر بقدر سعتها وظرفيّتها، وتسيل الوديان بالماء كلاّ بحسب سعته. ولو أمسكنا إناءً بلّوريّاً نظيفاً تحت ذلك الماء، لانصبّ فيه الماء الطاهر الزلال. أمّا لو أمسكنا إناءً ملوّثاً متّسخاً متعفّناً تحت ذلك الماء، لاتّسخ ذلك الماء الطاهر وتعفّن في ذلك الإناء. وليس الذنب ذنب الماء، بل ذنب الإناء. الذنب ذنب النيّة، وذنب النفس الامّارة الطاغية. باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست در باغ لالـه رويـد و در شـورهزار خس [6] وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. إنّ نور الشمس الوضّاء يصل إلی البلّور الشفّاف المتلإلی وإلی المصابيح البلّوريّة الوضّاءة، فيكون مضيئاً نورانيّاً. أمّا حين يعبر خلال الاواني السوداء المظلمة فإنّه يبدو أسوداً داكناً مظلماً. وإذا سقط علی الزجاج الاسود المعتم بدا أسوداً معتماً. فلجج النور تأتي من السماء طاهرة، لكنّها تبدو في الاوعية المختلفة بجلوات مختلفة. والاختيار لدي البشر أشبه بالاواني النظيفة والملوّثة، يحتوي علی أمطار فيض رحمة الحقّ فيحتفظ بها طاهرة أو يجعلها ملوّثة. ولهذه الجهة تلتقي الطاعات والمعاصي في عالم البشريّة مع بعضها في الظهور، وينشأ الإحسان والإساءة والحُسن والقبح، إذ يعيش الإنسان في الدنيا مختاراً إلی أن يلفظ أنفاسه الاخيرة. وهذا الاختيار الذي لا شكّ فيه هو الذي يجعل الإنسان من أصحاب الجنّة أو من أصحاب النار. ولولا الاختيار لما كان من حسن وقبح، ولا من جنّة ونار، ولا من ثواب وعقاب. لقد كان سيّد الشهداء مختاراً، وكان الشمر مختاراً بدوره، والفعل في كلا الصورتين فعلٌ من جانب الحقّ تعإلی، إلاّ أنّ له في ظرفي النيّتينِ والاختيارينِ والإرادتين المختلفتين جلوتين متباينتينِ. وَمَا كَانَ اللَهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَب'هُمْ حَتَّي' يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ. [7] أي أنّ إضلال الله تعإلی يكون بعد إتمام الحجّة، اذ ستكون البيّنة والبرهان قد أُقيما علی الناس في تلك الحال، وسيكون سبيل السعادة قد اتّضح لهم، إلاّ أ نّهم نكصوا عن السبيل بسوء اختيارهم وبنواياهم الملوّثة، فاختاروا سبيل الانحراف. وفي الحقيقة فإنّ رغباتهم النفسيّة هي التي تحقّقت وتجسّدت وارتدت رداء العمل. يُضِلُّ بِهِ ( أي بالامثلة التي يضربها في القرآن ) كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَـ'سِقِينَ. [8] قُلْ إِنَّ اللَهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي´ إلیهِ مَن أَنَابَ. [9] كَذَ ' لِكَ يُضِلُّ اللَهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ. [10] فَلَمَّا زَاغُو´ا أَزَاغَ اللَهُ قُلُوبَهُمْ. [11] ويتّضح ـ بناءً علی ما قيل ـ أنّ كلاّ من الهداية والإضلال بِيَدِ الله تعإلی، إلاّ أ نّه لا يضلّ أحداً جبراً بلا سبب، ولا يُضلّ أحداً دون لحاظ لاختياره ونيّته السيّئينِ. بل إنّ إضلال الله هو عبارة عن النمو والرشد الذي يمنحه لنواياهم وإراداتهم، فيُلبِس تلك الإرادات والاختيارات أردية الوجود والتحقّق. كما يتضّح من خلال تقييد هذه الآيات المذكورة، أنّ الآية الواردة في سورة إبراهيم آية مقيّدة بإرادة الذنب والخيانة، وأ نّه ينبغي تقييد إطلاق هذه الآية والآيات المطلقة المشابهة. فَيُضِلُّ اللَهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. [12] إنّ الله تعإلی ينمّي العمل الذي يقوم به الإنسان أو النيّة علی القيام بذلك العمل: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَهُ يُضَـ'عِفُ لِمَن يَشَآءُ. [13] وعلی أثر إنماء الحنطة، فإنّ سنابلها ستعطي حبوباً وافرة وكبيرة من الحنطة، إلاّ أ نّها لا تعطي عدساً ولا رزّاً أبداً. الرزق والثواب كلاهما مترتّب علی العملوكذلك ـ إذَاً ـ تترتّب هذه النتائج والآثار علی الاعمال، ويمكننا أن نعبّر عنها بالرزق، كما يمكننا أن نعبّر عنها بالحساب والجزاء. وهذه الآثار هي رزق وهي حساب، وكلاهما شيء واحد. فالعمل الاوّل يدعي حساباً بلحاظ استحقاقه ذلك وبلحاظ اقتضائه ذلك، كما أ نّه يدعي رزقاً بلحاظ استعانته به في إدامة وجوده. إنّ غيوم فيض رحمة الله تعإلی تستمدّ الماء من البحار الواسعة ومن محيط الوجود المنبسط علی الكائنات، فتهطل علی عالم الإمكان بقطرات المطر المتلاحقة التي لا تتوقف لحظة. وكلّ قطرة تهطل تتبعها أُخري تمدّها وتحفظ حياتها وتديم وجودها. فالقطرة الثانية ـإذَاًـ هي كالرزق بالنسبة إلی القطرة الاُولي. كما أ نّها كالحساب بلحاظ استحقاقها واقتضائها. إنّ النتائج المترتّبة علی جميع ما نفعله ـنحن الجالسون في هذا المكانـ تمثّل رزقنا باعتبار أ نّها تسبب بقاء وجودنا وثباته، كما أ نّها تمثّل حسابنا بلحاظ كونها نتائج أعمالنا. فتأملوا مدي الارتباط الدقيق بين الرزق والحساب، إلی الحدّ الذي يمكنه القول معه بأنّ حقيقة الرزق والحساب ليست إلاّ شيئاً واحداً يدعي رزقاً وحساباً باعتبارين مختلفينِ. الحساب والرزق شيء واحد في حقيقة الامروبذكر هذه المطالب يتّضح جيّداً معني مقولة «إنّ الله سريع الحساب»، لانّ جميع الاُمور ـ ومن بينها أعمال الإنسان ـ ليست منفكّة ولامنفصلة عن الحساب، بحيث إنّ آثار الاعمال تترتّب علیها بمجرّد تحقّق تلك الاعمال في الخارج دون أدني انفكاك. فالحساب ـإذَاًـ ملازم للعمل وتابع له دون أدني انفكاك أو انفصال. وقد جاء في القرآن الكريم: وَاللَهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. [14] كما جاء: أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـ'سِبِينَ. [15] وعلی الرغم من أنّ الحكم مختصّ بذات الحقّ تعإلی، وأن ليس مِن حكم في العالم مضادّ لحكمه عزّ وجلّ بحيث يُبطل حكم الله أو يُعيقه أو يُوهنه علی نحوٍ من الانحاء، فإنّه ليس من معني للتعويق والتأخير في حكم الله سبحانه، كما ليس في حكمه صعوبة ولا سهولة. فإن لوحظ في موضع من المواضع استخدام هذه المعاني، واستعمال هذه الالفاظ لاداء هذه المعاني، فإنّ المراد بذلك حصول هذه المعاني في ظرف إدراك وفهم المحاسَبين من المخلوقات وليس في دائرة علمالله. فقد ورد في القرآن الكريم علی سبيل المثال: وَيَخَافُونَ سُو´ءَ الْحِسَابِ. [16] وجاء: فَحَاسَبْنَـ'هَا حِسَابًا شَدِيدًا. [17] والسرّ والعلّة في جميع هذه المطالب أنّ علم الحقّ تعإلی بجميع الموجودات هو علم حضوريّ يستتبع أن تكون جميع سلسلة الموجودات من العلل والمعلولات حاضرة عند الله عزّ وجلّ: وَالاْرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ و يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ. [18] وجميع سلسلة الاسباب والمسبّبات مرتبطة بمسبب الاسباب، والاسباب بأجمعها كائنة بتسبيب الذات القدسيّة للحقّ تعإلی، وجميع الموجودات مع آثارها من الرزق والحساب ماثلة في مُلكه وحاضرة عنده، سواءً في ذلك الكبير والصغير، لانّ الكبير والصغير والقويّ والضعيف إنّما هي اعتبارات تخصّنا نحن ذوي القدرة المحدودة. القدرة التي تجعل نهوضنا بحمل من عدّة كيلو غرامات أمراً يسيراً، وتجعل نهوضنا بحمل ثقيل أمراً عسيراً. وتجعل حلّ مسألة حسابيّة للعمليّات الحسابيّة الاربع أمراً يسيراً، في الوقت الذي تجعل حلّ مسائل الرياضيّات العميقة والمعادلات الجبريّة المعقّدة أمراً عسيراً؛ وتجعل أمر عدّ الافراد الموجودين في المسجد أمراً ميسوراً، وعدّ سكّان الكرة الارضيّة أمراً شاقّـاً متعسّراً. فهذه الصعوبة وهذا إلیسر من مختصّاتنا نحن ذوي العلم المحدود. وأ نّي لنا العلم؟ وكم لنا من العلم؟ إنّنا غارقون في الجهل ومغمورون فيه، ومن المخجل حقّاً أن ننسب إلی أنفسنا علماً، أو أن ندعو أنفسنا بالعلماء بعدما بيّن الله تعإلی أمرنا، حيث قال: وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً. [19] ولقد أورد لفظ «القليل» لإسعادنا بأن نقول: إنّ لدينا علماً قليلاً. وأيّ قليل يا تري؟ إنّنا لو جمعنا كلّ علومنا وكدّسناها علی بعضها لكانت مقابل علم الحقّ تعإلی أقلّ من القطرة إلی المحيط، وأقلّ من الذرّة إلی الشمس المتحرّكة في عنان السماء؛ أقلّ بما لا يتناهي. فكيف يصدق علینا عنوان العلم القليل؟ ومن هنا فإنّ القلّة والكثرة، والشدّة والضعف، والكبر والصغر بشكل عامّ هي عناوين نسبيّة واعتباريّة لنا نحن الموجودات المحدودة المقيّدة والمتعيّنة بالماهيّات الإمكانيّة، وليس للّه تعإلی الذي ماهيّته عين وجوده وإنّيّته؛ سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إنّنا موجودات مادّيّة وطبعيّة ننام ونصحو، أمّا الله سبحانه فليس له نوم، كما لايصدق علیه لفظ إلیقظة. لا نّه عزّ وجلّ ليس له يقظة مقابل النوم والسِّنة، بل هو يقظ بمعني عالم، لا إلیقظ مقابل النائم وقسيم النائم. وبناء علی هذا الاساس فليس من أسماء الحقّ تعإلی اسم إلیقظ، ولميرد أنّ أحد أسمائه عزّ وجلّ اسم إلیقظان أو المستيقظ. إنّ الله تعإلی لا تأخذه سِنة ليكون من ثَمّ مستيقظاً، لانّ إلیقِظ والمستيقظ هو الصاحي مقابل النائم. والله تعإلی له يقظة تلازم وجوده، لا كمثل يقظتنا. وإذا كان الامر علی هذه الشاكلة، فكيف سيحاسب عباده إذَاً؟ سيُحاسبهم حساباً سريعاً. الله تعإلی سريع الحسابإنّ من أسماء الله عزّ وجلّ أسرع الحاسبين، فهو يحاسب الإنسان ويضع حسابه نصب عينيه علی الفور. وأحد أسمائه تعإلی سريع الحساب. كما ورد في عدّة مواضع من القرآن الكريم تعبير: وَاللَهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، تماماً كسرعته في الرزق، وكالكيفيّة التي يوصل بها الحقّ رزق كلّ موجود إلیه. الرزق هو إفاضة الحياة الضروريّة لدوام وجود كلّ موجود. ولااختصاص له بالرزق المادّيّ، فكلّ ما يصل الإنسان لإدامة وجوده هو رزق لذلك الإنسان. فالحياة والعقل والإدراك والمعاني الكلّيّة النفسانيّة والإعانات الصوريّة للقوي الذهنيّة، والإعانات للقوي الحسيّة الخارجيّة هي بأجمعها الرزق الذي يأتي من قبل الحقّ تعإلی. ولو انقطع عنّا لحظة واحدة الرزق المادّيّ من التنفس والنور والحرارة لانعدم وجودنا، كحال ظلمة المصباح الكهربائيّ فيما لو انقطع عنه التيّار الكهربائيّ لحظة واحدة، الذي تستمرّ إضاءته باستمرار جريان الكهرباء التي تمثّل رزقه ومادّة حياته. والامر علی هذا النحو بالنسبة إلینا، إذ لو انقطع الفيض في لحظةٍ ما من جانب الله تعإلی إلینا أو إلی أيّ موجود في العالم، لفني ذلك الموجود وانعدم. إنّ المصباح الكهربائيّ المضيء لا يمتلك مادّة نورانيّة ثابتة في داخله، بل إنّ الإلكترونات تعبر باستمرار من السلك الكهربائيّ فتجعل الشعيرات الموجودة في المصباح متوهّجة. وهذا هو رزق المصباح. والطفل الرضيع الذي يطبق فمه علی ثدي أُمّه فيرضعه، تتدفّق في فمه قطرات الحليب باستمرار من فتحات الثدي الصغيرة فيصله رزقه عن هذا الطريق. وهذا غير جهات الرزق الاُخري من تنفّس للاُوكسجين ووصول للحرارة ونور الشمس. وبهذا الرزق ينمو الطفل ويكبر، ويصل الرزق إلی فكره وعقله وحياته وعظامه ومخّه وشرايينه وأوردته وأعصابه ولحمه وشحمه وجلده، فتقوي وتشتدّ وتستمرّ في الحياة. كما أنّ هذا النفس الذي نتنفّسه هو رزقنا الذي يصلنا باستمرار؛ وحسب قول الشيخ سعدي الشيرازيّ: «فإنّ كلّ شهيق للمرء يمثّل إدامةً لحياته، وكلّ زفيرٍ له يمثّل بهجةً لذاته. فهناك ـإذَاًـ نعمتان في كلّ نَفَس، ولكلّ نعمة منهما شكر واجب». أمّا الإمام الصادق علیه السلام فيقول إنّ في كلّ نفس يتنفّس آلاف النعم. ولو انقطع تنفّس الإنسان لمات. فنفسه هو رزقه. ولولا ضوء الشمس لمات الإنسان. والامر كذلك بالنسبة إلی حرارة الجوّ التي تمثّل في اعتدالها رزقاً لنا، ولو زادت قليلاً أو قلّت قليلاً لانعدم وجود الإنسان. وكذلك بالنسبة إلی عقلنا الذي هو بمثابة رزقنا، ولو زال عنّا دقيقة واحدة لاعترانا الجنون وصرنا لا نميّز رؤوسنا عن أقدامنا، ولاأقدامنا عن رؤوسنا. ومع استمرار العقل صرنا نُدعي عقلاءً، أمّا مع انقطاعه فسندعي مجانين وسيسقط عنّا ـكالحيواناتـ شرف التكليف. إنّ الحياة والقدرة رزق؛ وإدراك المعارف الإلهيّة رزق؛ وهي بأجمعها من الرزق المعنويّ. فنفس العالم الذهنيّ الذي منحنا الله تعإلی إيّاه هو رزق، ولو سلب منّا لحظة واحدة لفقدنا جميع المعلومات الحصوليّة التي نشأت لدينا بواسطة المشاهدات الخارجيّة أو بالكلام أو بالكتابة والقراءة منذ طفولتنا إلی سنّنا الحإلیّ، ولضاعت منّا قوانا الحافظة والمفكّرة والواهمة. ولو قُدِّر لي ذلك ـأنا المنهمك في الحديث الآنـ لفقدت القدرة علی معرفة الاصدقاء، ولانعدم الكلام من الجانب الآخر، إذ لن يكون ثمّة شيء ليقال، ولن نميّز آنذاك مسجداً ولا جداراً، ولن نميّز إلید إلیمني عن إلیسري، ولن نفرّق بين الصديق والعدوّ، ولا بين الطعام والدواء. وسنبقي وحيدين غُرباء في هذا العالم لا ارتباط لنا بأحد، أي أ نّنا لن نمتلك القدرة علی الارتباط بأحد. فَلَكَ الحَمْدُ أَبَداً دَائِماً سَرْمَداً علی نِعَمِكَ وَآلاَئِكَ مَا بَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، حَمْداً لاَ يَبِيدُ وَلاَ يَفْنَي، وَصَلِّ علی رَسُولِكَ الاَمِينِ علی وَحْيِكَ وَعلی أَمِيرِالمُؤْمِنِينَ وَالاَئِمَةِ مِنْ وُلْدِهِ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاَرَضِينَ.
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ * ( كنايةً عن جانب السعادة والرحمة ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إلی'´ أَهْلِهِ مَسْرُورًا* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و وَرَآءَ ظَهْرِهِ * ( كنايةً عن جانب الشقاء ) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا* وَيَصْلَي' سَعِيرًا* إِنَّهُ و كَانَ فِي´ أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ و ظَنَّ أَن لَّنيَحُورَ* بَلَي'´ إِنَّ رَبَّهُ و كَانَ بِهِ بَصِيرًا. [20] وردت في القرآن الكريم آيات لها دلالة علی أنّ الناس ليسوا علی حدٍّ سواء في يُسر الحساب أو عُسره، وأنّ حساب البعض سهل يسير، بينما حساب البعض الآخر صعب عسير. فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُـورِ * فَذَ ' لِكَ يَوْمَنءذٍ يَوْمٌ عَسـِيرٌ * علی الْكَـ'فِرِينَ غَيْرُيَسِيرٍ. [21] الْمُلْكُ يَـوْمَنءِـذٍ الْحَـقُّ لِلرَّحْمَـ'ـنِ وَكَـانَ يَوْمًا علی الْكَـ'ـفِـرِينَ عَسِيرًا. [22] وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَـ'لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا. [23] فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ ( مخاطباً أهل المحشر بسعادة وسرور ) هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـ'بِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَ نِّي مُلَـ'قٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَإلیةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * ( ثمّ تخاطبهم الملائكة ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِي´ـًا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الاْيَّامِ الْخَإلیةِ * وَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـ'لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَـ'بِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَـ'لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ* مَآ أَغْنَي' عَنِّي مَإلیهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَـ'نِيَهْ.[24] وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَـ'هَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَـ'هَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـ'قِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا* أَعَدَّ اللَهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا. [25] معني سرعة الحساب في يوم القيامةقال الطبرسيّ في «مجمع البيان» ذيل الآية: أُولَـ'´نءِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. [26] ذُكر فيه وجوه، أحدها: أنّ معناه سريع المجازاة للعباد علی أعمالهم، وأنّ وقت الجزاء قريب، ويجري مجراه قوله: وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛ [27] وعبّر عن الجزاء بالحساب، لانّ الجزاء كفاء للعمل وبمقداره، فهو حساب له، يقال: أَحْسَبَنِي الشَّيءُ: كَفَانِي. وثانيها: أن يكون المراد به أ نّه يحاسب أهل الموقف في أوقات يسيرة، لايشغله حساب أحد عن حساب غيره، كما لايشغله شأن عن شأن، وورد في الخبر أ نّه تعإلی يحاسب جميع الخلائق في مقدار لمح البصر، وروي بقدر حلب شاة، وهذا ممّا يدلّ علی أ نّه ليس بجسم وأ نّه لايحتاج في فعل الكلام إلی آلة، لا نّه لو كان كذلك لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين، ولكان يشغله خطاب بعض الخلق عن خطاب غيره، ولكانت مدّة محاسبته للخلق علی أعمالهم طويلة. وروي عن أميرالمؤمنين علیه السلام أ نّه قال: معناه أ نّه يحاسب الخلق دفعةً كما يرزقهم دفعة. وثالثها: أنّ معناه أ نّه تعإلی سريع القبول لدعاء هؤلاء والإجابة لهم من غيراحتباس فيه وبحث عن المقدار الذي يستحقّه كلّ داعٍ، كما يحتبس المخلوقون للإحصاء والاحتساب. ويقرب منه ما روي عن ابن عبّاس أ نّه قال: يريد أ نّه لاحساب علی هؤلاء، إنّما يعطَون كتبهم بأيمانهم فيقال لهم هذه سيّئاتكم قد تجاوزت بها عنكم، وهذه حسناتكم قد ضعّفتها لكم. [28] ويروي المرحوم الصدوق في كتابه «الامإلی» عن سعد، عن ابن عيسي، عن الحسينبن سعيد، عن علیّ بن الحكم، عن داودبن النعمان، عن إسحاق، عن الإمام الصادق علیه السلام قال: إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنّة: فقير في الدنيا، وغنيّ في الدنيا، فيقول الفقير: يا ربِّ علی ما أُوقف؟ فوعزّتك إنّك لتعلم أ نّك لمتولّني ولايةً فأعدل فيها أو أجور، ولم ترزقني مالاً فأؤدّي منه حقّاً أو أمنع، ولا كان رزقي يأتيني منها إلاّ كفافاً علی ما علمتَ وقدّرتَ لي. فيقول الله جلّ جلاله: صدقَ عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة. ويبقي الآخر حتّي يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها، ثمّ يدخل الجنّة. فيقول له الفقير: ما حبسك؟ فيقول: طول الحساب؛ ما زال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي، ثمّ أُسأَل عن شيء آخر حتّي تغمّدني الله منه برحمة وألحقني بالتائبين. فمن أنت؟ فيقول: أنا الفقير الذي كنتُ معك آنفاً، فيقول: لقد غيّرك النعيم بعدي. [29] الروايات الواردة في يُسر الحساب وعُسرهوفي تفسير علیّ بن إبراهيم القمّيّ في رواية أبي الجارود عن الإمام أبي جعفر الباقر علیه السلام في تفسير الآية الشريفة: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَي' وَزِيَادَةٌ [30]: فأمّا الحسني فالجنّة، وأمّا الزيادة فالدنيا، ما أعطاهم الله في الدنيا لميحاسبهم به في الآخرة، ويجمع لهم ثواب الدنيا والآخرة ويثيبهم بأحسن أعمالهم في الدنيا والآخرة. يقول الله: وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَذِلَّةٌ أُولَـ'´نءِكَ أَصْحـ'بُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـ'لِدُونَ. [31] قال علیّ بن إبراهيم: القَتَر الجوع والفقر؛ والذلّة الخوف. [32] وروي المجلسيّ رضوان الله علیه عن كتابَي الحسين بن سعيد، عن محمّدبن عيسي، عن عمر بن إبراهيم بيّاع السابريّ، عن حجربن زائدة، عن رجل، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال، قلت له: يابن رسولالله إنّ لي حاجةً. فقال: تلقاني بمكّة. فقلتُ: يا بن رسول الله إنّ لي حاجة. فقال: تلقاني بمني. فقلت: يابن رسول الله إنّ لي حاجة. فقال: هاتِ حاجتك! فقلت: يابن رسول الله إنّي أذنبتُ ذنباً بيني وبين الله لميطّلع علیه أحد فعظم علیَّ وأجلّك أن استقبلك به. فقال: إنّه إذا كان يوم القيامة وحاسب الله عبده المؤمن أوقفه علی ذنوبه ذنباً ذنباً، ثمّ غفرها له لايطّلع علی ذلك ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلاً. قال عمر بن إبراهيم ( راوي هذه الرواية ): وأخبرني عن غير واحد أ نّه قال: ويستر علیه من ذنوبه ما يكره أن يوقفه علیها. قال: ويقول لسيّئاته: كوني حسنات. قال: وذلك قول الله تبارك وتعإلی: أُولَـ'´نءِكَ يُبَدِّلُ اللَهُ سَيِّـَاتِهِمْ حَسَنَـ'تٍ وَكَانَ اللَهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. [33] مناقشة الحساب بالنسبة إلی المعاندينويروي المرحوم الصدوق في كتاب «معاني الاخبار» عن أبيه، عن سعدبن عبدالله البرقيّ، عن أبيه، عن عبد الله بن سنان، عن أبي الجارود، عن الإمام أبي جعفر: باقر العلوم علیه السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ علیهِ وَآلِهِ: كُلُّ مَحَاسَبٍ مُعَذَّبٌ؛ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَهِ! فَأَيْنَ قَوْلُ اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ: «فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا». [34] قَالَ: ذَاكَ العَرْضُ؛ يَعْنِي التَّصَفُّحَ. [35] ويقول المجلسيّ رضوان الله علیه في بيان هذا الحديث: يعني أنّ الحساب إلیسير هو تصفّح أعماله وعرضها علی الله أو علی صاحبه، من غير أن يناقش علیها ويؤخذ بكلّ حقير وجليل من غير عفو، فإنّ مَن فعل الله تعإلی ذلك به هلك، إذ لا يقوم فعل أحد من الخلق بحقِّ نعم الله علیه، لاسيّما إذا انضمّ إلیها فعل الخطايا والآثام؛ فالمراد بالحساب في أوّل الخبر المحاسبة علی هذا الوجه، كما هو دأب المحاسبين في الدنيا. ولذا ورد في بعض الاخبار مكانه: نوقش في الحساب. فقد روي الحسينبن مسعود في «شرح السنّة» بإسناده عن البخاريّ، عن سفيان بن أبي مريم، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة: أنّ عائشة زوج النبيّ صلّي الله علیه وآله كانت لاتسمع شيئاً لاتعرفه إلاّ راجعت فيه حتّي تعرفه، وأنّ النبيّ صلّي الله علیه وآله قال: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ؛ قالت عائشة، فقلت: أو ليس يقول الله تعإلی: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قالت، فقال: إنّما ذلك العرض: وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكُ. [36] ثمّ يقول الحسين بن مسعود في شرحه: هذا حديث متّفق علی صحّته أخرجه مسلمبن أبي بكر بن أبي شيبة وعلیّ بن حجر، عن إسماعيل ابن علیة، عن أيّوب، عن عبد الله بن أبي مليكة. قوله صلّي الله علیه وآله «من نوقش الحساب يهلك»؛ المناقشة: الاستقصاء في الحساب حتّي لا يترك منه شيء. يقال: انتقشت منه حقّي أجمع، ومنه نقش الشوك من الرِّجل وهو استخراجه منهاـ انتهي كلام «شرح السنّة». ثمّ قال المجلسيّ: وروي مسلم في صحيحه عن النبيّ صلّي الله علیه وآله أ نّه قال: مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ عُذِّبَ. وقال بعض شرّاحه: قال القاضي: قوله: عُذِّبَ له معنيان، أحدهما أنّ نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف علیها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ. والثاني أ نّه يفضي إلی العذاب بالنار. ويؤيّده قوله في الرواية الاُخري هَلَكَ مكان عُذِّبَ. هذا كلام القاضي، وهذا الثاني هو الصحيح، ومعناه أنّ التقصير غالب في العباد، فمن استقصي علیه ولم يُسامَح هلك ودخل النار، ولكنّ الله تعإلی يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاءـ انتهي كلام شارح «صحيح مسلم». ثمّ يقول المجلسيّ: يحتمل الخبر الذي رويناه وجهاً آخر وإن كان قريباً ممّا ذُكر، وهو أنّ هذا النوع من المحاسبة إنّما يكون لمن يستحقّ العذاب الدائم ولايستوجب الرحمة، كالمخالفين والنواصب، [37] فأمّا مَن علم اللهُ أ نّه يستحقّ الرحمة فلا يحاسبه علی هذا الوجه، بل علی وجه العفو والصفح. ثمّ اعلم أنّ التصفّح هو البحث عن الامر والنظر فيه، ولميأتِ بمعني الصفح والعفو كما توهّم ها هنا. [38] وفي تفسير سوء الحساب الذي يخشاه المؤمنون الملتزمون العاملون بالاوامر الإلهيّة، الذي ورد في الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُو´ءَ الْحِسَابِ. [39] وردت في «تفسير العيّاشيّ» وهو من نفائس كتب الشيعة، روايات خمس لها دلالة علی أنّ المراد بسوء الحساب المداقّة والاستقصاء. لذا يخشي المؤمنون أن تُحتسب سيّئاتُهم بأجمعها ولاتُحتسب حسناتهم بسبب عدمقبولها، فتكون جميع أعمالهم سيّئات. الرواية الاُولي: عن أبي إسحاق قال: سمعتُ الصادق علیه السلام يَقُولُ فِي سُوءِ الحِسَابِ: لاَ يُقْبَلُ حَسَنَاتُهُمْ وَيُؤْخَذُونَ بِسَيّئَاتِهِم. [40] الثانية: عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله ( الصادق ) علیه السلام في قوله تعإلی: «يَخَافُونَ سُو´ءَ الْحِسَابِ»؛ قَالَ: يُحْسَبُ علیهِمُ السَّيِّئَاتُ؛ وَلاَيُحْسَبُ لَهُمُ الحَسَنَاتُ؛ وَهُوَ الاسْتِقْصَاءُ. [41] الثالثة: عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله ( الصادق ) علیه السلام في قوله تعإلی: «وَيَخَافُونَ سُو´ءَ الْحِسَابِ»؛ قَالَ: الاسْتِقْصَاءُ وَالمُدَاقَّةُ. وَقَالَ: يُحْسَبُ علیهِمُ السَّيِّئَاتُ وَلاَ يُحْسَبُ لَهُمُ الحَسَنَاتُ. [42] الرابعة: عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد الله ( الصادق ) علیه السلام، أَ نَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا فُلاَنُ! مَا لَكَ وَلاِخِيكَ؟! قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كَانَ لِي علیهِ حَقٌّ، فَاسْتَقْصَيْتُ مِنْهُ حَقِّي! قَالَ أَبُو عَبْدِاللَهِ علیهِ السَّلاَمُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَهِ: «وَيَخَافُونَ سُو´ءَ الْحِسَابِ»، أَتَرَاهُمْ خَافُوا أَنْ يَجُورَ علیهِمْ أَوْ يَظْلِمَهُمْ؟! لاَوَاللَهِ؛ خَافُوا الاسْتِقْصَاءَ وَالمُدَاقَّةَ. [43] الخامسة: عن محمّد بن عيسي؛ وبهذا الإسناد أنّ أبا عبدالله ( الصادق ) علیه السلام قَالَ لِرَجُلٍ شَكَاهُ بَعْضُ إِخْوَانِهِ: مَا لاِخِيكَ فُلاَنٍ يَشْكُوكَ؟ فَقَالَ: أَيَشْكُونِي أَنِ اسْتَقْصَيْتُ حَقِّي؟! قَالَ: فَجَلَسَ مُغْضِباً، ثُمَّ قَالَ: كَأَ نَّكَ إِذَا اسْتَقْصَيْتَ لَمْ تُسِيءْ؟! أَرَأَيْتَ مَا حَكَي اللَهُ تَبَاركَ وَتَعَإلی: «وَيَخَافُونَ سُو´ءَ الْحِسَابِ»، أَخَافُوا أَنْ يَجُورَ علیهِمُ اللَهُ! لاَ وَاللَهِ، مَا خَافُوا إِلاَّ الاسْتِقْصَاءَ، فَسَمَّاهُ اللَهُ سُوءَ الحِسَابِ؛ فَمَنِ اسْتَقْصَي فَقَدْ أَسَاءَ. [44] وروي المجلسيّ رضوان الله علیه عن كتابَي الحسينبن سعيد، عن القاسم، عن عبدالصمدبن بشير، عن معاوية: قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَهِ علیهِ السَّلاَمُ: إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُهَوِّنُ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: «يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُو´ءَ الْحِسَابِ». [45] استقصاء الحساب علی أساس العدل، والإغماض فيه علی أساس العفوويتّضح ممّا ذكر أن ليس هناك من ظلم ولا حيف في حساب الناس يوم القيامة، وأن أحداً لن يُحاسَب بعمل غيره. وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي'. [46] وأنّ أحداً لا يُحاسَب عبثاً، ولا يُجازي بأكثر ممّا ارتكب؛ إلاّ أنّ من الممكن أن تكون هناك مداقّة في الحساب فيعامل المرء علی أساس العدل. وهذا ـبطبيعة الحالـ فيما يتعلّق بالمجرمين والظالمين الذين غمطوا حقوق الفقراء والمستضعفين. كما أنّ من الممكن أن لا يداقّ في الحساب علی أساس من العفو والإغماض، فيُشمل المؤمن بالرحمة بعد حسابٍ يسير، ويُصان من طول الوقوف وعواقبه. وهو ما يتعلّق بالمؤمنين الذين بدرت منهم أخطاء عن جهل، دون أن ينطووا علی الاستكبار والعُجب. إنّ عفو الله لجميع العباد ليس قانوناً حتميّاً وعقليّاً، بل إنّ قاعدة العفو بإرادة الله ومشيئته، فهو يعفو عمّن يشاء ويغفر لمن يستحقّ العفو والمغفرة علی أساس الحكمة. كما أ نّه يمنع عفوه عمّن يشاء. ويحصل ذلك بالطبع علی أساس المصلحة بالنسبة إلی المعتدين والمتجرّئين الذين نفخوا بوق الانانيّة والاستكبار، والذين اعترضوا وتمرّدوا علی الله سبحانه عن علم وعمد باستكبارهم وأنانيّتهم وتفرعنهم. وبطبيعة الحال فإنّ العدل يمثّل قانوناً عامّاً قد يعمل الله به، إلاّ أ نّه تعإلی ليس ملزماً بالعدل في مجازاة عبده وفي عدم شموله برحمته. فالقاعدة والقانون العامّ ـ إذَاً ـ هو العدل. أمّا العفو والتسامح فيمثّلان أمراً ثانويّاً يخضع لإرادة الحاكم ومشيئته. ومن هنا فإنّ عدماحتساب الحسنات هو ممّا يخالف العدل، أمّا عدم احتساب السيّئات فأمر يوافق العفو. ارجاعات [1] ـ الآيات 18 إلي 20، من السورة 17: الاءسراء. [2] - کن – ونک – مناطق فی طهران. [3] ـ «ديوان مثنوي» طبعة ميرخاني، ص 44. يقول: «إن أنت أخليتَ هذا الجراب من الخبز، لملاْتَهُ جواهراً كريمة. افطم طفل الروح عن حليب الشيطان، ثمّ آنسه بعد ذلك بالمَلَك. إن كنتَ مظلماً ملولاً مكدّراً، فاعلم أ نّك أخ للشيطان اللعين». [4] ـ يقول: «إنّ اللقمة التي تزيد في النور والكمال هي اللقمة التي تأتي من الكسب الحلال. والزيت الذي يطفي مصباحنا، عليك أن تدعوه ماءً لا زيتاً. العلم والحكمة وليدا لقمة الحلال؛ والحبّ والرقّة وليدا لقمة الحلال. فإن رأيتَ إثر لقمةٍ ما حسداً ومصيدة للجهل والغفلة، فاعلم أ نّها لقمة حرام. إذ من المحال أن تزرع حنطةً فتثمر شعيراً، أفرأيت حصاناً يلد جحشاً؟! اللقمة بذرة، والافكار ثمارها. واللقمة بحر والافكار جواهره ولآلئه. فما تلده لقمة الحلال في الفم، الرغبة في الخدمة والعزم علی الذهاب إلي ذلك العالم. وما يولد من لقمة الحلال ـ أيّها القمر ـ الحضور في قلبك الطاهر، والنور في بصيرتك». [5] ـ يقول: «ليس هناك شيء حصل من تلقاء نفسه. و ليس من حديد صار بنفسه ، ،خنجراً حادّاً. وليس من حلوانيّ صار ماهراً في فنّه، ما لم يصبح أوّلاً مستخدماً في صناعة الحلوي». [6] ـ يقول: «إنّ المطر الذي لا خلافَ في لطافة طبعه، يُنمي في البستان شقائق النعمان، و في الارض السبخة الاشواك الهزيلة». [7] ـ الآية 115، من السورة 9: التوبة. [8] ـ الآية 26، من السورة 2: البقرة. [9] ـ الآية 27، من السورة 13: الرعد. [10] ـ الآية 34، من السورة 40: غافر. [11] ـ الآية 5، من السورة 61: الصف. [12] ـ الآية 4، من السورة 14: إبراهيم. [13] ـ الآية 261، من السورة 2: البقرة. [14] ـ الآية 41، من السورة 13: الرعد. [15] ـ الآية 62، من السورة 6: الانعام. [16] ـ الآية 21، من السورة 13: الرعد. [17] ـ الآية 8، من السورة 65: الطلاق. [18] ـ الآية 67، من السورة 39: الزمر. [19] ـ الآية 85، من السورة 17: الاءسراء. [20] ـ الآيات 7 إلي 15، من السورة 84: الانشقاق. [21] ـ الآيات 8 إلي 10، من السورة 74: المدّثّر. [22] ـ الآية 26، من السورة 25: الفرقان. [23] ـ الآية 40، من السورة 78: النبأ. [24] ـ الآيات 19 إلي 30، من السورة 69: الحاقّة. [25] ـ الآيات 8 إلي 10، من السورة 65: الطلاق. [26] ـ الآية 202، من السورة 2: البقرة. [27] ـ الآية 77، من السورة 16: النحل. [28] ـ «مجمع البيان» ج 1، ص 298، طبعة صيدا. [29] ـ «أمالي الصدوق» ص 216 و 217، الطبعة الحجريّة؛ كما وردت هذه الرواية في كتاب «عُدّة الداعي» ص 85، الطبعة الحجريّة. [30] ـ الآية 26، من السورة 10: يونس. [31] - نفس المصدر السابق. [32] ـ «تفسير القمّيّ» ص 286 و 287 الطبعة الحجريّة؛ وفي الطبعة الحروفيّة: ج 1، ص 311. [33] ـ «بحار الانوار» ج 7، ص 259 و 260، الطبعة الحروفيّة. والآية هي: الآية 70، من السورة 25: الفرقان. [34] ـ الآية 8، من السورة 84: الانشقاق. [35] ـ «معاني الاخبار» ص 262، الطبعة الحيدريّة. وقال سماحة الاُستاذ المعظّم العلاّمة الطباطبائيّ في «رسالة المعاد»: هذا حديث يتّفق الفريقان علی مضمونه، ويُجمعان علی صحّة صدوره عن رسول الله صلّي الله عليه وآله. («رسالة الاءنسان بعد الدنيا» ص 49 ـ مخطوطة). [36] ـ وقد نقل البخاريّ هذه الرواية في صحيحه، ج 1، ص 28 طبعة بولاق، عن سعيد ابن أبي مريم، عن نافع، عن عمر، عن ابن أبي مليكة. [37] ـ النواصب جمع الناصبيّ وهو مُبغض أهل البيت عليهم السلام ومَن ينصب لهم العداوة ويسبّهم. [38] ـ «بحار الانوار» ج 7، ص 263 و 264. [39] ـ الآية 21، من السورة 13: الرعد. [40] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 210. [41] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 210. [42] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 210. [43] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 210. [44] ـ «بحار الانوار» ج 7، ص 273، الطبعة الحروفيّة. [45] ـ «بحار الانوار» ج 7، ص 273، الطبعة الحروفيّة. [46] ـ الآية 164، من السورة 6: الانعام. وقد تكرّرت هذه الآية في خمسة مواضع من القرآن في سور: الانعام، الاءسراء، فاطر، الزمر والنجم.
|
|
|