|
|
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: مَا خَلَقْنَا السَّمَـ'وَ 'تِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّي وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّآ أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ. [1] ونظير هذه الآية، قوله تعالی: أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي´أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَهُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّي وإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَايءِ رَبِّهِمْ لَكَـ'فِرُونَ. [2] ذكرنا بحول الله وقوّته في المجلس الثاني من الجزء الاوّل مطالب عن الاجل والاجل المسمّي، فاتّضح إلی حدٍّ ما، أنّ جميع الموجودات الارضيّة والسماويّة ذات أمد معيّن وحدّ محدود. أمّا الاجل المسمّي الذي هو عندالله، فباقٍ لا ينفد ولا يزول تبعاً لمفاد الآية الكريمة: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ. [3] وأمّا هذه الآجال المعهودة، فليست إلاّ ظاهراً لذلك الاجل المسمّي، ومقاماً متنزّلاً عنه. وحقيقة الامر أنّ الاجل أمر واقعيّ ذو جهتين، تقابل أولاهما عالم الطبع والفساد والكثرة، وتقابل الثانية عالم التجرّد والثبات والوحدة. وتدعي الجهة الاُولي أجلاً، بينما تدعي الثانية أجلاً مسمّي. وهاتان الآيتان في صدد بيان أنّ السماوات والارض وما بينهما قد خُلقت بالحقّ وأجل مسمّي. أمّا «الباء» المتعلّقة ب « الحقّ » و « أجل مسمّي » فهي إمّا للسببيّة أو للملابسة. أي أنّنا خلقناهما بسبب الحقّ والاجل المسمّي؛ أو ملابسةً للحقّ والاجل المسمّي. والاجل المسمّي هو حياة الخلود عند الله تعالی؛ حياة الفوز والظفر والسعادة؛ وهي حياة تامّة لا يعتريها زوال ولا فناء، ولا يخالطها فساد ولاتلف؛ حياة لا تماثل الحياة الدنيويّة المشوبة بالآلام والغصص والمصائب، بل تُجسّد ـ وباستمرارـ النور والتجرّد والحقيقة. وليست هذه الحياة الدنيا إلاّ درجة ضعيفة ومرتبة متدنيّة من تلك الحياة، لانّ تلك الحقيقة تتنزّل بالتقيّد والتعيّن بلباس القيد والكثرة وبالتأطّر بحدود وقيود هذا العالم ـ عالم الطبعـ فتتجلّي في رداء تلك الحدود والتعيّنات. والآية الشريفة: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ [4] ناظرة إلی هذا المعني. وباعتبار أنّ مصدر حياة جميع الموجودات إنّما يتمثّل في خزائن الله التي لاتنفد وأنّ خلق تلك الموجودات هو نزولها من تلك الخزائن والمصادر المطلقة الواسعة المجرّدة وغير المقدّرة بِقَدَر، وأنّ تلك المصادر الاصليّة الحقيقيّة هي منشأ هذه الموجودات الكثيرة؛ وباعتبار أنّ ذلك الإطلاق هو أساس هذه التعيّنات، وأنّ ذلك الإجمال هو منشأ هذه التفاصيل، وأنّ تلك الامور الواحدة هي مصدر هذه الكثرات، فلا محالة ـإذاًـ من أن تكون تلك الخزائن طافحة بالحياة التامّة اللامحدودة؛ هذا من جهة. الوجود ليس باطلاً، وجميع الكائنات في حركة إلی الله تعالیومن جهة أُخري، فنحن نعلم أنّ هذا العالم لم يُخلق عبثاً ولا لهواً، بَيدَ أ نّنا لو نظرنا إلی جهة النفاد والزوال والفناء والفساد والآلام والغصص والمصائب وحوادث الموت دون أن نلحظ بعدها تلك الحياة الابديّة السرمديّة، ودون أن نعتبر ذلك طريقاً لبلوغ تلك الحقيقة الثابتة؛ فإنّ خلق العالم سيكون ـبلا شكّـ عبثاً لا طائل بعده. أمّا لو استهدفت هذه الحركات مقصداً معيّناً، واستهدف كلّ هذا البحث أمراً معيّناً، وتعلّق بهدفٍ مشخّص؛ ولو كان كلّ هذا الفِراق من أجل وصالٍ ما، وهذه المَجازات من أجل بلوغ حقيقةٍ ما، وهذه النشاطات من أجل إدراك منزل محدّد، فسيكون محطّ رحال هذا العالم المتحرّك معاده الذي يتحرّك إليه فيصله ويسكن إليه. ولدينا برهان فلسفيّ وعقليّ في عدمبطلان العالم، إذ حيثما وُجدتْ حركة ما، وُجد هنالك هدف وغاية. ولمّا أثبتنا أن أساس العالم قائم علی الحقّ، فلن يكون الباطل هو الغاية والنتيجة المتوخّاة من أساس الحقّ، لانّ الباطل والعبث واللغو أُمور عارية عن القصد والغاية. أمّا فيما لو تحرّك الحقّ، اتّجهت حركته نحو الحقّ، ولبلغه. وسيكون ذلك الحقّ هو الغاية الإراديّة لذلك الفعل وتلك الحركة. وبما أنّ الفعل الإراديّ يبلغ بالمتحرّك إلی الغاية الباعثة علی الحركة، وأنّ نفس المحرِّك ـ وهو العلّة الفاعلة للتحريكـ هو علّة غائيّة لذلك التحريك، فمن المحال أن تكون الغاية من الفعل ( أي الفعل الذي تمثّل الحركة والبحث أساس وجوده ) منصبّة في نفس الفعل. ولا يمكن أن يكون الهدف من عالم الخلق هو نفس عالم الخلق، مع افتراض مشاهدتنا لعالم الخلق متحرّكاً في ذاته، في سير وبحث دائبينِ. وينبغي ـ علی هذا الاساس ـ أن تتّجه هذه الحركة إلی السكون المطلق، ويركن هذا النشاط والحيويّة إلی الهدوء والاستقرار، ويميل هذا الهيجان إلی السكون والصمت، وأن يستهدف هذا التغيير والتحوّل بلوغ جانب الثبات والاستقرار، وإلاّ فسيستلزم ذلك لغويّة وبطلان هذا العالم. أجل، فليس هناك من معاد للموجودات التي لا تمتلك حركة، سواء كانت تلك الحركة ذاتيّةً أم عرضيّة، أم حركة من النقصان إلی الكمال؛ وللموجودات التي خُلقت منذ البدء في حال من الثبات والاستقرار والتجرّد، إذ ليس لتلك الموجودات من مبدأ، ليكون لها ثمّة عود ومعاد؛ وليس لها من نزول، ليتبعه ثمّة صعود؛ وليس لها من حركة، لتبحث عن السكون؛ إذ يختصّ هذا الامر بالاسماء والصفات الكلّيّة الإلهيّة والاسم الاعظم والروح ـوهو أفضل من جميع الملائكةـ وبالمخلَصين المهيمنين علی عالم الكثرة، الذين هم واسطة الفيض من المبدأ الواجب إلی الماهيّات والقوالب الإمكانيّة؛ وهو مما سنحدّث عنه لاحقاً. وبالإضافة إلی الآيتين السالفتَي الذكر، ثمّة آيات أُخري تدلّ علی عدمبطلان العالم، مثل آية: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاْرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـ'طِلاً ذَ ' لِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. [5] وآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَاخْتِلَـ'فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَـ'تٍ لاِولِي الاْلْبَـ'بِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَي' جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـ'ذَا بَاطِلاً سُبْحَـ'نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. [6] وآية: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـ'عِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَتَّخِذَ لَهْوًا لآتَّخَـذْنَـ'هُ مِن لَّدُنَّآ ( دون أن يعترض علينا أحد، لكنّ ما خلقناه كان عين المصلحة والحكمة ) إِن كُنَّا فَـ'عِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ علی الْبَـ'طِلِ فَيَدْمَغُهُ و فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ. [7] والآية التالية أكثر وضوحاً: أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَـ'عٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ و كَذَ ' لِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الْحَقَّ وَالْبَـ'طِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الاْرْضِ كَذَ ' لِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ. [8] أي أنّ الباطل له صورة غير دائمة من الباطل، ومسيرٌ إلی الحقّ، وأنّ ثمّة حقّ مقاوم يكمن في باطن كلّ باطل. وهذه أمثال يضربها الله عزّ وجلّ لتدركوا من سير الزمان وتغييرات العالم، ومن المصائب والشدائد ما اقترن من الحقّ بها، مع ما له من ملازمة. إذاً، فحركة العالم هي حركة باتّجاه الحقّ تعالی. لا فرق بين الجمادات والنباتات والكائنات الحيّة في حركتها إلی الله تعالیوقد ذكرنا في الابحاث السابقة أنّ تمام العالم حيّ ذو شعور وقدرة، وأنّ الحيوانات والنباتات والجمادات ذات قدرة وقوّة إدراك. وعلي الرغم من تصوّرنا بأنّ الجمادات لا تتمتّع بالحياة والعلم، إلاّ أ نّها ليست كذلك في حقيقة الامر، لكنّنا لا نعلم بذلك. عدم البطلان في الخلقة يستلزم الحركة باتّجاه المعادإنّ الله تعالی لا يفرّق في آيات الخلقة، كآية: مَا خَلَقْنَا السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَّمًّي، الآية: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـ'طِلاً بين الموجودات التي نتصوّرها حيّة أو غير حيّة، ويحكم علی الجميع بالمعاد والحشر علی نحو الإطلاق والعموم. وعلي هذا الاساس، فلا اختصاص للمعاد بالإنس والجنّ، بل المعاد والحشر للملائكة والنباتات والجمادات أيضاً، وبشكل عامّ فالمعاد لكلّ موجود سواء كان أرضيّاً أم سماويّاً أم ما بينهما. أمّا بخصوص الموجودات الحيّة كالحيوانات بكافّة أنواعها وأصنافها المختلفة التي يضيق حصرها والتي تعيش علی الارض أو في البحر أو الهواء، فالآية التالية تمثّل شاهد صدق صريح علی ادّعائنا: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الاْرْضِ ( سواء علی الارض أم في البحر ) وَلاَ طَـ'´نءِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلآ أُمَّمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَـ'بِ ( كتاب التكوين، وهو عالم الوجود والإمكان مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَي' رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ. [9] ويوصلنا ظاهر هذه الآية إلی أنّ الحيوانات أُمم كحال الإنسان، لذا فهي لمتخلق عبثاً أو باطلاً وعليه فهي مشمولة بالحشر؛ ثمّ إنّ في خلقها غاية ونهاية مطلوبة، وتلك الغاية هي عودها إلی خالقها. فما هذا الافتراق والتشتّت في هذا العالم إلاّ من أجل الاتّصال والاجتماع والحشر في ذلك العالم. فهذا هو المقدّمة، وذاك ذو المقدّمة. كما ويعود الافتراق والنشر في بدايته الحاصل في هذا العام إلی جهة النزول من عالم الجمع والحشر، والآية: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآنءِنُهُ و وَمَا نُنَزِّلُهُ و إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ تظهر هذه الحقيقة بوضوح؛ وكذلك الامر في مقام أسماء الحضرة الاحديّة سبحانه وتعالی وصفاتها، فالاسماء الجزئيّة والمتعيّنة تمثّل مرتبة نزول الاسماء والصفات الكلّيّة في كلّ عالم، كلاّ بحسب درجته ومرتبته؛ فالاسماء والصفات الكلّيّة هي مرتبة صعود وإطلاق الاسماء والصفات الجزئيّة في كلّ عالم، كلاّ بدوره وبحسب درجته، وصولاً إلی تلك الاسماء والصفات المبرّأة من حدود التعيّنات من جميع جهاتها، والخارجة عن كثرات عالم الصورة والمعني والمبرّأة حتّي من تعابير انطباق المفاهيم المتعددة: سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخَلصِينَ. [10] ويستفاد من الآية السابقة من سورة الانعام أنّ حشر الحيوانات إلی خالقها هو نتيجة كونها أُمماً كالإنسان، وأنّ علّة وسـبب هذا الخلق واحد كماعبّرت عنه الآية: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَـ'بِ مِن شَيْءٍ. أي أ نّنا لمنفرّط في كتاب الخلق وصحيفة التكوين الإلهيّة من خلق أي شيء ذي غاية ونهاية وحركة علی أساس الحقّ، وذلك لانتفاء أيّ قصور في كتاب التكوين وخلوّه من العبث واللغو، ولانّ هذا الكتاب هو الذي يقول عنه: هَـ'ذَا كِتَـ'بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ.[11] وأنّ أحقّيّته توجب عدم جعل الاختلافات بين الموجودات الحيّة باطلاً ولغواً وعبثاً ـ كأن يجعل بعضها دوابَّ، وبعضها زواحفَ، وبعضها الآخر طيوراً، أو أن تُجعل ذات أشكال وصور مختلفة وأفعال وخواصّ تميّز كلاّ منها عن الاُمم الاُخري ـ بل إنّ هذه الاختلافات ـكلاّ بدورهـ مؤثّرة في بلوغ الغاية وفي وصول كلّ شيء إلی كماله المطلوب، وفي انتهاء الحركة الخاصّة بكلّ فرد دون أن يهلك ويفني خلال الطريق قبل إدراكه الغاية المستهدفة. وبغير هذا التوجيه فستكون الاختلافات بين الموجودات أمراً باطلاً، ممّا يجعل الخلل يتسرّب إلی إتقان الكتاب الإلهيّ وسيُشاهد فيه تفريط وقصور! وَسُبْحَانَ اللَهِ أَنْ يَكُونَ فِي فِعْلِهِ تَفْرِيط، كَمَا لاَ يَكُونُ فِي صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ قُصُورٌ. فالنتيجة الحاصلة هي أنّ الحيوانات الارضيّة هي أُمم كالبشر، وأ نّها ستماثل الإنسان في معاده واجتماعه عند ربّه تعالی. وهناك آية أُخري تبيّن معاد الحيوانات عموماً: وَمِنْ ءَايَـ'تِهِ خَلْقُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ علی جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ. [12] فقد أثبتت هذه الآية حكم الجمع ( أي الحشر ) لكلّ ذوات الارواح الموجودة في السماوات والارض. وثمّة نظير لهذه الآية في سورة مريم: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ إِلآ ءَاتِي الرَّحْمَـ'نِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَـ'هُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ فَرْدًا. [13] والمراد من إتيان جميع الافراد إلی الله تعالی في حال العبوديّة، هو أنّ الالتفات الكامل لجميع الافراد هو التفاتٌ إلی الله سبحانه، وقد خضعوا أمامه تكوينيّاً في صفة العبوديّة المحضة، وصار كلّ منهم لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلاَضَرًّا وَلاَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا. معاد سكّان السماوات والارض علی هيئة «فُرادي»، أي من دون تعيّنأمّا المراد من مجيّ كلّ مَن في السماوات والارض عند ربّه فرداً، أي إتيان الجميع بأيدٍ صفرات خالية، لم يحملوا معهم من أسباب الدنيا وتعيّناتها شيئاً، ولم يصطحبوا معهم شيئاً من الحول والقوّة والاولاد والعون والعشيرة والاموال والرسوم الدنيويّة التي جعلتهم ذوي وجاهه واستكبار. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ. [14] وهذا هو معني الفرد الوارد في الآية: وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ فَرْدًا. أي أنّ كلّ امري يذهب إلی الله وهو عارٍ، أي دون أن يستصحب معه أيّ شيء ممّا كان يدّعي ملكيّته في الدنيا، فيأتي ربّه فرداً وحيداً بكلّ ما للكلمة من معني، وعبداً بحقيقة معني العبوديّة. لقد كان عبداً أبداً، وما كان مالكاً ولن يكون، علی الرغم من ادّعائه الربوبيّة والملكيّة وهو في عالم المجاز وخلف حجاب الانانيّة؛ وسيكشف يوم ظهور الحقائق وتجليّها ـيوم القيامةـ زيف دعوي الملكيّة، وأ نّه ما كان إلاّ عبداً حقّاً ولن يكون إلاّ كذلك. وهذا هو معني الفرد، الذي ذُكر بصيغة الجمع ـفراديـ في آية أُخري، حيث تقول الملائكة عند قبض أرواح الظالمين: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَ ' دَي' ( بلا تعيّن ولا أسباب ) كَمَا خَلَقْنَـ'كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـ'كُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَي' مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَ نَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـ'´ؤُا لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ. [15] حيث أبانت الجمل الآتية تفسير كلمة فرادي، وهي: كَمَا خَلَقْنَـ'كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُم، وَمَا نَرَي' مَعَكُمْ، لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ. وهكذا هو المطلب كما في الآية مورد البحث: وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ فَرْدًا. أي أنّ جميع موجودات السماوات والارض ستأتي الله يوم القيامة فرداً، دون أيّة جهة للتعيّن. ولمّا اتّضح معني الفرد، وعلمنا أ نّه مَن يذهب فرداً دون تعيّنات نفسيّة ولا كثرات صوريّة، فقد اتّضح معني الجمع أيضاً؛ وبما أنّ معني الجمع في أذهان العامّة هو اجتماع الناس مع بعضهم، فقد يتبادر إلی الذهن هذا المعني المتعارف دون المعني المراد منه، باعتباره من أسماء يوم القيامة. أمّا الآن فقد أضحي جليّاً أنّ له معني آخر، وهو: الورود إلی عالمٍ تزول فيه الكثرات الاعتباريّة وا لتوهّمات الصوريّة والتقيّدات الممّوهة وكلّ ما هنالك من شوائب التفرّق. يوم الجمع، من أسماء يوم القيامةهذا العالم هو عالم التفريق والحشر، أمّا ذلك العالم، فعالم الجمع والحشر. هنا الافتراق عن الحقيقة والمعني والتلبّس بلباس الكثرة وآثارها، من أيّ نوع كانت؛ أمّا هناك فالاجتماع، أي ورود الإنسان في اجتماع نفسه مخلّفاً وراءه الكثرة وآثارها، ومتناسياً تماماً شوائب الاثنينيّة والتغرّب والاعتباريّات التخيّليّة والصوريّة. وحين يتوجّه الإنسان في ذلك العالم إلی الجنّة أو إلی النار، فإنّه يجتمع مع مَن يشترك معهم في السلوك. أي أنّ الكثرات والجهات التي من شأنها التفريق والتمييز سوف تنهار وتتلاشي، فتمتزج أُصول النفوس الحسنة مع بعضها امتزاج السكّر بالحليب، ثمّ إنّها ترد الجنّة. أمّا أُصول ومبادي النفوس السيّئة، فتمتزج مع بعضها كامتزاج الحنظل بالسمّ، ثمّ تُساق إلی جهنّم. وهذا هو معني الجمع والحشر الذي تكرّر الحديث عنهما في الآيات القرآنيّة، حيث عُدّ يوم الجمع من أسماء يوم القيامة. كما أنّ المعني الذي ورد في الآيات بألفاظ فَرْد و فُرادي هو معني دقيق جدّاً، وقد استفيد ممّا يقابل لفظ الجمع. وقد أُطلق لفظا الجمع والحشر في كثير من الآيات القرآنيّة، مثل: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَي' يَوْمِ الْقِيَـ'مَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ. [16] وآية: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَ ' لِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ. [17] وقد اتّضح أنّ معني الفرد والجمع ذوا معني واحد، بخلاف ما يتبادر إلی الذّهن. أي أنّ الذهاب إلی الحضرة الاحديّة في هيئة فرادي يستلزم الجمع، حيث تُنسي آنذاك الكثرات المفرِّقة والمشتِّتة. وسنري بحول الله وقوّته في مسألة الشفاعة واللحوق والإلحاق كيفيّة تصدّي لفظ الجمع المذكور لحلّ تلك المسائل. وعلي هذا الاساس أيضاً، يتّضح معني الآيتين: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُو´ا إلی جَهَنَّمَ زُمَرًا. [18] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلی الْجَنَّةِ زُمَرًا. [19] فقد نظِّمت هذه الطوائف والزمر علی أساس هذا الجمع، حيث ينبذ الافراد المتماثلون في الفكر والعقيدة والسلوك الجهاتَ التفريقيّة والاختلافات الشخصيّة جانباً، ويتّحدون ببعضهم في مقام الجمع فيفدون بأجمعهم علی الجنّة، أو يساقون بأجمعهم إلی النار. كما تبيّن الآيتان الكريمتان: وَالَّذِينَ كَفَرُو´ا إِلَي' جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ و عَلَي' بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ و فِي جَهَنَّمَ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْخَـ'سِرُونَ، [20] هذا المعني بجلاء. أجل، فآية وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ فَرْدًا ذات دلالة علی حشر ذوات الارواح ومعادها. الآيات القرآنيّة الدالّة علی حشر الجماداتومن جملة الآيات الدالّة علی حشر ومعاد غير ذوات الارواح ( من الجمادات غير ذوات الشعور والإحساس )، الآية الكريمة: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ و ´ إِلَي' يَوْمِ الْقِيَـ'مَةِ وَهُمْ عَن دُعَآنءِهِمْ غَـ'فِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِم كَـ'فِرِينَ. [21] فقد عزا ضمير كَانُوا في كلام الموضعيْن: كَانُوا لَهُمْ، و كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ إلی المعبودات من الجماد والنبات دون البشر والملائكة. وقد نُصّ في هذه الآية علی أنّ هذه المعبودات تُحشر يوم القيامة فتكفر بعبادة مَن عبدها. والسبب في اعتبارنا لفظ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ عائداً إلی غير ذوات العقول، وفي إرجاعنا ضمير كانوا إليها، هو قوله تعالی: ذَ ' لِكُمُ اللَهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ [22] * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ. [23] حيث نفهم منه وبقرينة: إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ، و: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا، أنّ المراد من الشركاء الذين أشرك بهم المشركون في هذا العالم هم الاصنام الجامدة الفاقدة للشعور والإدراك. فهي ـ إذاً ـ ستُحشر يوم القيامة فتكفر بشرك المشركين وتنكره. ويتمثّل كفرها يوم القيامة وإعراضها عن المشـركين الذين كانوا يعبدونها في قولها: تبرّأنا إليك ـياإلهناـ من أعمالنا وأفعالهم، وتوجّهنا إليك وعُذنا بك! إنّهم لميعبدوننا أساساً، وليس من اللائق ـ مع وجود أصالتك وحقّانيّتكـ أن تُنسب العبادة إلينا أو أن تتحقّق بنا. تَبَرَّأنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُو´ا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ. [24] ولمّا فُسِّر مراد الآية التي سبقتها: مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَه و ´ إِلَي' يَوْمَ القِيَـ'مَةِ بمصاديق الآية اللاحقة: إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُم، فسيكون المراد بـ: مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ هو نفس هذه الاصنام الجامدة الفاقدة للشعور والإدراك، إذ ستُحشر هذه الاصنام في يوم القيامة بنصّ هذه الآية، فتصبح عدوّة للمشركين بالله الذين عبدوها: كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِم كَـ'فِرِينَ. ومن بين الآيات الدالّة علی بعث الجمادات: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْـًا وَهُمْ يُخْلَقَونَ * أَمْوَ ' تٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. [25] ومع أنّ تعبير أَمْوَ ' تٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ الذي يشمل ـبحسب المعني العقليّ الدقّيّـ الافراد من ذوي الارواح، كالفراعنة الذين كان الناس يعبدونهم في الازمنة الغابرة، إلاّ الظاهر يدلّ علی هذه الاصنام والتماثيل التي اتّخذها مشركو الجاهليّة أرباباً يعبدونها. وهذه الآية صريحة في أنّ تلك الاصـنام لا تدرك زمن حشـرها ومعادها. ومن بين الآيات الدالّة علی حشر الجمادات: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـ'هُمُ اللَهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخَلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيـ'مَةِ وَلِلَّهِ مِيرَ ' ثُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَاللَهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ. [26] وبلحاظ قوله في هذه الآية الشريفة بأنّ نفس الاموال التي بخل البخلاء عن إنفاقها، ستكون طوقاً يطوّق أعناقهم؛ فإنّ معاد الاموال التي وقعت مورداً للبخل سيكون طوقاً يطوّق البخلاء في جهنّم. أجل، فالآيات التي أوردناها في هذا المجال، والتي بيّنت حكم حشر الجمادات ومعادها، من خلال استخدامها لضمير العاقل، مثل: وَهُوَ علی جَمْعِهِم، وَهُمْ عَن دُعَآئِِهِمْ غَـ'فِلُونَ، كَانُوا لَهُمْ، كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ، مَا يَمْلِكُونَ، إِن تَدْعُوهُمْ، لاَ يَسْمَعُوا، لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا، يَكْفُرُونَ، مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، فإنّها تفيد أنّ بعث النباتات والجمادات يوم القيامة متلازم مع الحياة والعلم، لانّ ذلك العالَم هو عالم الحياة والعلم، ولا نّه العالم الذي يمثّل فوران الحياة والعلم بحيث حتّي الذرّة الصغيرة التي لاتساوي شيئاً سوف تنضح بالعلم والحياة؛ وتشير الآية 29، من السورة 42: الشوري، إلی هذا المعني إشارةً لطيفة، فتقول: وَمِن ءَايَـ'تِهِ خَلْقُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَي' جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ. ويبدو أنّ الضمير في جَمْعِهِمْ عائد إلی السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ، ممّا يجسّد دلالة علی حياة وعلم السماوات والارض وما بثّ فيهما من دَوابّ. أمّا في فصل شهادة الشهداء يوم القيامة، فقد برهنّا علی أنّ الشهادة ـسواء في مرحلة التحمّل أم في مرحلة الاداءـ تستلزم الحياة والعلم، وأنّ ظاهر الآيات الدالّة علی شهادة الجمادات، كأعضاء البدن والامكنة والازمنة وغيرها تُظهر سريان الحياة والعلم إلی جميع الموجودات. [27] وتناولت الابحاث التي أوردناها في هذا المجال أمر دلالة الآيات القرآنيّة الكريمة علی حشر ومعاد النباتات والجمادات وجميع الموجودات السماويّة والارضيّة، وقد استفدنا في هذا المجال من دقّة النظرة العقليّة والفلسفيّة. كما أوردنا في المجلس الاربعين ( الجزء السادس ) مطالباً نفيسة عن المرحوم صدر المتألّهين رحمة الله عليه من « رسالة الحشر ». أمّا الروايات الواردة في حشر ما سوي البشر والملائكة من أصناف المخلوقات والموجودات التي خلقها الله تعالی في السماوات والارض وما بينهما، فكثيرة وتدلّ علی أنّ كلب أصحاب الكهف وناقة النبيّ صالح يدخلان الجنّة، وأنّ الوحوش والكلاب ترد جهنّم فتمزّق المجرمين بأنيابها، وأنّ الناقة التي يُحجّ عليها ثلاث مرّات أو سبع مرّات تدخل الجنّة. وهناك روايات ذكرناها في المجلس السابق تتحدّث عن اقتصاص الله للضحايا، واقتصاصه من الشاة القرناء للجمّاء. إنّ الحيوانات ذات شعور وفهم وإدراك، وهذا الشعور والفهم يستدعيان أن يكون لها حشر ومعاد، ناهيك عن أنّ جملة أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ذات دلالة علی معانٍ كثيرة، إذ علی الرغم من أ نّنا ننظر إليها بعين الاستصغار، إلاّ أ نّها ليست علی الصورة التي نتصوّرها أبداً، بل هي ذات عالم خاصّ، شأنها في ذلك شأن الإنسان. كما أنّ لها مبدأ ونهاية وسير وهدف وشعور وإدراك. وبالإضافة إلی الجهات الظاهريّة الطبيعيّة كالقوّة الناميّة والجاذبة والدافعة والمولّدة والغاذية ـفإنّ لها في الجهات الباطنيّة ـكالمثال والنفسـ آمالاً وإرادةً وعزماً، ولها ـ كما للإنسان ـ وجود وماهيّة. وبطبيعة الحال فإنّ هذه الاُمور محدودة بحدود هذه الحيوانات وسعتها الوجوديّة. وقد تذاكر العلماء الاعلام بشأن هذه الحيوانات، ودوّنوا فيها كتباً ورسائلاً قد أثارت بحقّ عجب الإنسان وحيرته؛ وقد دعانا القرآن الكريم إلی التفكّر والتأمّل فيها، وعدّ عجائبها وغرائبها من آيات عظمة وجلال الباري تعالی شأنه العزيز، فيقول: أَوَ لَمْ يَرَوْا إلی الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـ'فَّـ'تٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـ'نُ إِنَّهُ و بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ. [28] لقد كتب جميع المؤرّخين قصّة أصحاب الفيل الذين استهدفوا تدمير مكّة، وجاء ذكرهم في الشعر الجاهليّ؛ فكانت تلك الواقعة بمثابة البداية للتأريخ. وقد ذكروا كيف أهلك الله تعالی بالطيور المحلّقة ملك اليمن ـوكان جدّاً للنجاشيّـ واسمه أبرهة بن صباح الاشرم، وكنيته أبو يكسوم الذي تحرّك بجيش عظيم جرّار تصحبه الفيلة الحربيّة باتّجاه مكّة، حين صبّت تلك الطيور الحجارة فوق رؤوسهم: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ. [29] « حتّي إذا كان مع طلوع الشمس، طلعت عليهم الطير معها الحجارة، فجعلت ترميهم، وكلّ طائر في منقاره حجر وفي رجليه حجران، وإذا رمت بذلك مضت وطلعت أُخري، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك علی بطن إلاّ خرقه، ولا عظم إلاّ أوهاه وثقبه » [30]. قصّة النبيّ سليمان مع النملة والهدهدكما أنّ قصّة النبيّ سليمان علی نبيّنا وآله وعليه السلام قصّة عجيبة، حيث سخّر له اللهُ تعالی الطيورَ فكانت من جنوده، فضلاً عن الجنّ والإنس. وكان سليمان يعرف منطق الطيور، وكان يرسل تلك الطيور في مهمّات تنجزها له: وَقَالَ يَـ'´أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـ'ذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـ'نَ جُنُودُهُ و مِنَ الْجِنِّ وَالإنس وَالطَّيْرِ فَهُم يُوزَعُونَ * حَتَّي'´ إِذَا أَتَوْا عَلَي' وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـ'´أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـ'كِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـ'نُ وَجُنُودُهُ و وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ. [31] ويستفاد من الآية الاخيرة عدّة أُمور: أوّلاً: أنّ نملة قد تكلّمت بهذا المطلب؛ فللنمل ـإذاًـ كلام وتخاطب وقابليّة للبيان والإدراك. ثانياً: أنّ تلك النملة قد عرفت سليمان، وعلمت أنّ هذا الجيش العظيم العرمرم هو جيشه. وبالتأكيد أنّ معرفة هكذا أمر من قبل نملة ضعيفة مهمّ جدّاً. ثالثاً: لقد علمت النملة أنّ بإمكان جيش سليمان أن يحطم النمل ويسحقه بخيوله، إضافةً إلی علمها بأنّ سليمان وجنوده لايعلمون بذلك السحق والتحطيم، سواءً كان سليمان وجنده لا يعلمون أساساً بأنّ النمل سيُسحق تحت أقدامهم، أم أ نّهم كانوا يعلمون بذلك ولا يعدّونه ظلماً، لذا تراهم لايحذرون ـ كما ينبغيـ في حركتهم، ولا يبذلون في سيرهم الدقّة المنتظرة من أمثالهم. ومن الجليّ أنّ إدراك هذه المعاني الباطنيّة، والإخبار عن أفعال سليمان وجنوده في أمر لم يتحقّق بعدُ ـ سواءً كان ظلماً أم لميكنـ هو أمر مهمّ جدّاً. رابعاً: أنّ هذه النملة ـ بناءً علی أمر تحطيم النمل وسحقهـ صارت تنسب إلی سليمان عدم الشعور، وتعزوه إلی عدم الإدراك، مع كلّ جلاله وعظمته وقدرته وهيمنته! ولم يؤاخذ سليمان تلك النملة علی ما نسبته إليه، ولم يعر لقولها أهمّيّة، بل تبسّم ضاحكاً من قولها، ودعا ربّه أن يوفّقه ليشكر النعم التي منّ بها عليه وعلي والديه، وأن يوفّقه لاعمال صالحة يرضاها له، وأن يُدخله في زمرة عباده الصالحين: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي´ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي´ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَي' وَ ' لِدَيَّ وَأَن أَعْمَلَ صَـ'لِحًا تَرْضَـ'هُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّـ'لِحِينَ. [32] فيا إلهنا! ماذا في هذا العالم؟ وما هذه الضجّة التي لا نعلم عنها شيئاً؟ ما قصّة النمل والارضة؟ وكيف يجري تكاثرها وتناسلها وتنظّم صيغة عقد الاُخوّة بينها؟ وكيف يتمّ نكاحها ومعاملاتها ومناجاتها وسيرها وسلوكها؟ وكيف هي حياتها وموتها؟ وهنا، ليصاب الإنسان بالحيرة والذهول ولايمكنه من التفوّه ببنت شفة. مَا تَرَي فِي خَلْقِ الرَّحْمَـ'نِ مِن تَفَـ'وُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَي' مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ. [33] ولقد عزا الهدهد عدم الإحاطة في العلم إلی سليمان؛ فقال: جئتُك من سبأ بنبأ يقين: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لآ أَرَي الْهُدهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآنءِبِينَ * لاَعَذِّبَنَّهُ و عَذَابًا شَدِيدًا أَو لاَذْبَحَنَّهُ و أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَـ'نٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَاء بِنَبَإٍ يَقِينٍ. [34] قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَـ'ذِبِينَ * اذْهَبِ بِّكِتَـ'بِي هَـ'ذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ. [35] أجل، فثمّة مطالب يمكن استخلاصها من هذه القصّة في أحوال الهدهد: الاوّل: أنّ الهدهد لم يكن حاضراً عند سليمان في بداية الامر، ثمّ إنّه حضر لاحقاً. ولقد كان الهدهد القادم من مدينة سبأ عالماً في الباطن باستدعاء سليمان له، لكنّه برّر تأخيره في الحضور بعذر موجّه يتمثّل في إتيانه بخبر جديد إلی سليمان. الثاني: كان يعلم أنّ حاكم مدينة سبأ ملكة، فميّز بين المرأة والرجل، ثمّ إنّه لاحظ عظمتها واقتدارها. الثالث: علمه بما في ذهن سليمان، إذ كان يعلم أنّ سليمان لميُحط بهذا الامر من قبل. الرابع: علمه أنّ بلقيس وقومها هم من عبدة الشمس، وأ نّهم ما كانوا يعبدون الله تعالی. وعلمه كذلك أنّ ذلك إنّما هو من تسويلات الشيطان الذي صدّهم عن سبيل الله؛ وبأنّ سبيل الحقّ والنهج الواضح هو سبيلالله تعالی لا غير. ولم ينفِ سليمان كلام الهدهد، بل قال ـوما أعجب ما قالـ ينبغي أن نختبر كلامك لنعلم مدي صدقك فيه؛ حيث نشاهد أنّ سليمان كان بحاجة إلی امتحان وإرسال من أجل تشخيص مدي صدق الهدهد في ادّعائه. أجل، فقد كان القصد من ذلك هو بيان كون هذه الاُمور عبارة عن حقائق من عالم الحيوانات، وأنّ علی الإنسان أن ينظر بعين الإعجاب إعجاز قوله تعالی: أُمُمٌ أَمْثَالُكُمْ. لقد امتنعت ناقة الإمام السجّاد عليه السلام عن الاكل والشرب بعد وفاته عليه السلام واتّجهت نحو قبره الشريف فبركت عليه وبقيت تضرب برأسها الارض حتّي تلفت. [36] في غرائز الحيوانات، ووفاء الكلبومن الاُمور التي لا يشوبها الشكّ، والحوادث التي شهدها الكثيرون عياناً، قصّة فرار بعير من المسلخ في مدينة مشهد المقدّسة، وخروجه مسرعاً من المجزرة الواقعة خارج المدينة، وطوي الشوارع الواحد تلو الآخر دون أن يخطأ، حتّي وصل إلی شارع « بالا خيابان » [37] فاتّجه إلی باب الصحن المطهّر، وما أن وصل إلی داخل الصحن، حتّي اتّجه إلی الشبّاك الحديديّ والذي يمثِّل محلّ التجاء اللائذين بالإمام، وبرك علی الارض ووجهه باتّجاه الشبّاك والقبر المطهّر وهو يرغو في حالة رجاء وتوسّل! وقد قرأنا القصّة في الجرائد، ولم نسمع مَن ينكرها، بل إنّ جميع أهالي المشهد الرضويّ المقدّس علی مقدّسه آلاف التحيّة والثناء، يشهدون علی صدق وقوعها.[38] وقد وردت رواية عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام مفادها أنّ فَرَس سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام كان يصهل صهيلاً عالياً ويمرّغ ناصيته بدم الحسين ويشمّه، وكان يقول في صهيله: الظَّلِيمَةَ الظَّلِيمَةَ مِنْ أُمَّةٍ قَتَلَتْ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّهَا. [39] ونقلت المرحومة والدتنا رحمة الله عليها لنا ( لاولادها ): لمتكن السيّارات قد استُعلمت في طهران بعد، وكان الناس يستخدمون الخيل والبغال والحمير في تنقّلهم من مكانٍ إلی آخر. وكان لكلّ عالم من العلماء دابّة يمتطيها، ويربطها في ساحة البيت الخارجيّة. قالت: وكان لابيكم حمار مصريّ من الحمير المصريّة المشهورة بالخفّة وصغر الجثّة وسرعة السير، وكان يمتطيه حيثما أراد الذهاب، سواء إلی المسجد أم إلی الدرس أم إلی مكان آخر، وأوّل ما يقوم به عند عودته إلی البيت هو تفقّد أحوال حماره وتقديم الماء والعلف، قبل أن يخلد بنفسه إلی الراحة. وذات يوم شدّ الرحال لزيارة العتبات المقدّسة ضمن إحدي القوافل، وكانت القوافل آنذاك تستخدم صناديق خشبيّة مفتوحة تدعي « كَجَاوة » تُربط إلی جانبي الجمل أو البغل ليركب عليه الناس. وقد أناط مهمّة رعاية أُمور المنزل الاكبر ( عمّنا ) المرحوم الحاجّ السيّد محمّد كاظم، فكان هذا الاخير يجلب العلف للحمار، لكنّ الحمار لا يأكل منه شيئاً. ومهما حاول معه بأُسلوب الرعاية والملاطفة لكنّه لم يصل إلی نتيجة، حتّي مرّت ثلاثة أيّام كاملة والحيوان جائع طاوٍ، فاضطرّ إلی إهدائه إلی شخصٍ ما، لعلّ ذلك الشخص يتمكّن من إطعامه بطريقة ما لينجيه من الموت. وكان أحد أساتذتنا الاجلاّء في علم العرفان الإلهيّ، وهو المرحوم رضوان مقام عرفان الحقّ واليقين: آية الله الحاجّ الشيخ جواد الانصاريّ الهمدانيّ رحمة الله عليه، يقول: نهض أحد السالكين ليلاً ليصلّي نافلة الليل، فسمع كلب الجيران يقرأ سورة الشمس. وأظنّ أنّ « أحد السالكين » هو نفسه، إلاّ أ نّه ذكره هكذا، لانّ الاعلام لاينسبون إلی أنفسهم في الغالب مثل هذه الاُمور. وباعتقادي أنّ قراءة الكلب سورة الشمس قد مثّلت مكاشفة حصلتْ له من صوت الكلب، لا نّه كان آنذاك منهمكاً بالمجاهدات النفسانيّة لتزكية النفس، فتحقّقت في شأنه هذه السورة المشتملة علی قَسَم زائد في إثبات نجاح وفوز مَن يزكّي نفسه. كما قد ذكرت والدتنا قصصاً عن وفاء الكلب، منها: أنّ المرحوم الميرزا حسين علی فرمانفرما، كان ذات يوم واقفاً علی ساحل البحر يريد السباحة، فاعترضه كلبه، لكنّه لم يعر له اهتماماً، وحين أراد الدخول في الماء، سبقه الكلب فرمي بنفسه أمامه، فابتلعه علی الفور حيوان ضخم. فانصرف المرحوم فرمانفرما عن السباحة وقد أدرك أنّ هذا الكلب قد منعه من التوجّه إلی الماء لهذا السبب، وقد أفدي الكلب حياته قرباناً لصاحبه غيرالعابي به! ومن تلك القصص، نُقل عن المرحوم الحاجّ معتمد الدولة فرهاد ميرزا قوله: كان لي سابق معرفة بالسفير الإنجليزيّ في طهران، فذهبت لزيارته يوماً، فأخرج ألبوماً ليريني ما فيها من صور، وكان يعرض علی الصور الواحدة تلو الاُخري، حتّي بلغ صورة لكلبٍ، فأجهش عند رؤيتها بالبكاء، فسألته متعجبّاً: لماذا بكاؤك؟ قال: لديّ ذكري رائعة عن وفاء هذا الكب. ففي أحد الايّام قرّرت الدولة إرسالي في مهمّة ما إلی خارج المدينة، وكان علی أن أسير مسافة غير قليلة، فأعددتُ حقيبتي الحاملة لوثائق حكومية مهمّة جدّاً، وأخذت كلبي معي في تلك الرحلة. وبعد مدّة من المسير وصلت إلی شجرة كبيرة، فأخلدتُ في ظلّها إلی الراحة هنيئة. ثمّ نهضتُ لمواصلة السير، لكنّ الكلب اعترضني وحاول منعي، وقد وقف بإصرار أمام متابعتي للرحلة، وباءت كلّ محاولاتي معه بالفشل، فاضطررت لإخراج مسدّسي وإطلاق النار عليه لاتمكّن من مواصلة سيري. وبعد أن سرت مسافةً ما انتبهت إلاّ أ نّي قد نسيتُ حقيبتي تحت الشجرة، فرجعت مسرعاً باتّجاه الشجرة، وما إن وصلت هناك فقد أدركتُ سبب معارضة الكلب الشديدة لي، فأُصبت بحزن شديد، لا نّي قد أضعت الحقيبة وقتلتُ الكلب بلا داع. ثمّ قلتُ في نفسي: لابحث عن الكلب وأري ما حلّ به. فذهبت إلی الموضع الذي أطلقت فيه الرصاص فشاهدت بقعة دم علی الارض، ولاحظت أنّ الكلب قد تحرّك عن موضعه، فاقتفيت آثار الدماء، حتّي وصلت إلی الكلب فرأيته ساقطاً في حفرة وقد فارق الحياة وهو مطبق علی حقيبتي بأسنانه. فعلمت أنّ هذا الحيوان قد رأي أنّ ممانعته لاتجدي نفعاً معي، ففكّر ـ بعد إطلاقي الرصاص وسيريـ في إبقاء الحقيبة بعيداً عن متناول أيدي العابرين، علّها تصل إلی يدي بهذه الطريقة، لذا فقد أوصل نفسه إلی تحت الشجرة، علی ما فيه من جراحات فأزاح حقيبتي عن الطريق جانباً، ثمّ هوي في حفرة وأسلم الروح! أفلايليق بي ـ والحال هذه ـ أن أحزن علی مثل هذا الكلب؟ أجل ثمّة الكثير من الحكايات والقصص التي تحكي عن وفاء الكلب، وكثيراً ما شوهد هذا الحيوان وقد تيبّس في البرد القارس وأسلم الروح وهو يحرس أموال صاحبه، بينما كان بإمكانه أن يلوذ بمكان دافي يحميه. وبغضّ النظر عن هذه المعاني النفسيّة، فبعض إحساسات الحيوان تفوق ما يتمتّع به الإنسان، فالكلب ـمثلاًـ يحسّ بالزلزلة قبل وقوعها، كما أنّ حاسّة الشمّ لدي القطّة والنملة قويّة جدّاً. ويقال إنّ الاُذن البشريّة لا تحـسّ بالاصوات التي تقلّ ذبذباتها وتردّد أمواجها عن ستّ عشرة ذبذبة في الثانية أو التي تزيد علی عشرين ألف ذبذبة في الثانية، بَيدَ أنّ آذان بعض الحيوانات قادرة علی التقاط تلك الاصوات إلی حدود سبعين أو ثمانين ألف ذبذبة في الثانية. كلّ ما قدّمناه شواهد حيّة علی معاد الحيوانات وحشرها، حيث إنّها ـ شأن الإنسان ـ أُمم تمتلك آلاف الآثار والخصائص ضمن حيّز وجودها، إلاّ أنّ الإنسان يجهلها، ولا يعلم منها سوي القليل. فمن رفع أحجار بيت المقدس رأي دماً عبيطاً بعد شهادة الإمام علی وسيّد الشهداء عليهما السلام. وقد استحالت عصا النبيّ موسي بأمرالله تعالی ثعباناً يتحرّك، ممّا ألقي الفزع حتّي في قلب موسي: وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّي' مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَـ'مُوسَي' لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. [40] وكانت الريح ـ وهي من الجمادات ـ تجري بأمر سليمان رخاءً حيث شاء: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ. [41] أرجاء العالم في حركة دائبة باتّجاه غاية الغاياتكانت هذه آيات وروايات حول مسألة معاد وحشر جميع الحيوانات السماويّة والارضيّة. ونقول تلخيصاً للمطلب: إنّ جميع هذا العالم، عالم وحدانيّ مترابط، قد اندمجت كلّ قواه وذرّاته في بعضها، واجتمعت مخلوقاته متّصلة مع بعضها؛ وإنّه عالم ذو مبدأ واحد خلقه بأمره، فتنزّل من العوالم العليا في هذه الصورة والكيفيّة. وهو ـ كذلك ـ عالم متحرّك بأجمعه إلی ذلك المبدأ الواحد، وإنّ له معاداً إلی ربّه. ولا معني ـمع هذا الصنع العجيب والخلقة البديعةـ أن يكون لبعضه معاداً يصل من خلاله إلی هدفه وغايته، بينما يتوقّف البعض الآخر دونما داعٍ عن الحركة إلی معبوده ومقصوده. ولا تفاوت في هذه العودة بين الصغير والكبير، والعالم والجاهل، والفقير والغنيّ، والمرأة والرجل، والإنسان والجنّ والملائكة، والحيوانات البريّة والبحريّة والطيور المحلّقة في الجوّ، والنباتات والاشجار والجمادات، إذ إنّ علی جميع الموجودات ذات القوّة والقابليّة أن تبلغ مرحلة تكاملها وفعليّتها، وإلاّ لزم من ذلك نقض الغرض، ولتبدّل هذا العالم المتقن المحكم إلی عبث وباطل. ولقد طُبع ختم إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [42] علی الجبين المبارك للرسول الاكرم وعلي جبين سائر الافراد الآخرين دونما استثناء. ولقد بلغهم جميعاً خطاب ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَ ' لِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ تُبْعَثُونَ،[43] ودعاهم إلی ذلك الوطن المألوف والمبدأ الموعود، وبعثهم في هذا المسير. وخطاب: يَـ'´أيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إلی اللَهِ وَاللَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [44] جذب الجميع إلی الربّ الرحيم الغنيّ العالم القدير من خلال الفاقة والالتجاء والانجذاب المعنويّ. وخطاب وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ،[45] و وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ [46] يوصل عالم الإمكان وبناء الوجود الشامخ إلی غايته وهدفه المنشود؛ وهو غاية الغايات، كما أ نّه مبدأ المبادي. لَهُ مُلْكٌ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَإِلَي اللَهِ تُرْجَعُ الاْمُورُ. [47] اللَهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [48] وما ذكرنا من الآيات القرآنيّة الكريمة في معاد الحيوانات وحشرها راجعة إلی المخلوقات السماويّة والارضيّة؛ أمّا بالنسبة إلی معاد الموجودات التي هي في ما وراء السماوات والارض، والخارجة عن دوران الزمان وحدود المكان، والتي تمتلك مقام الفعليّة التامّة، فلميجرِ التعرّض لها ولا لمعادها وهي الموجودات التي لم يحدّ وجودَها شيء، ولمتُقدَّر ذواتها بقدر معيّن، لا نّها تفوق الحدّ والمقدار وترتفع عن التعيّن والتقيّد. وقد خُلقت تلك الموجودات من قِبل المبدي المتعال بفعليّة تامّة، فلميعد المعاد متصورّاً بالنسبة إليها، وصار بدؤها وعودها واحداً. وقد اختصّت الآيات المتعلّقة بالمعاد بالموجودات الارضيّة والسماويّة، أمّا تلك الموجودات، فخارجة عن السماوات. كما أنّ تلك الصفات والتجلّيات والظهورات الحاصلة في يوم القيامة موجودة لتلك الموجودات وملازمة لها باستمرار. علی أ نّها لا تمتلك قوّة وقابليّة لتبلغ بها مرحلة الفعليّة، بل هي فعليّة محضة ونور صرف ثابت. ويُلحق المخلَصون ـ بلحاظ الاحكامـ بهذه الموجودات الفعليّة المحضة، حيث ذكرنا مفصّلاً ضمن الفصول السابقة شيئاً عن حالات المخلَصين ومقاماتهم ودرجاتهم، وتعرّضنا لبيان آثارهم وخصائصهم الاستثنائيّة، فاتّضح أ نّهم ما برحوا حاضرين عند الله تعالی دونما حجاب، بل إنّهم يمثّلون أقرب الحجب والحجاب الاقرب. وعلمنا أنّ تلك الموجودات حاضرة لدي الله تعالی دون أن يحجبهم عنه حجاب، لا نّهم هم الحجاب الاقرب. كما علمنا أ نّها ليست ضمن السماوات والارض، وأ نّها فارغة من الزمان والمكان، ومهيمنة علی كافّة المخلوقات الإلهيّة، وأ نّها تمثّل الواسطة بين الخالق والمخلوق، سواءً في المبدأ أم في المعاد، وأ نّها مستثناة من حكم قبض الارواح من قِبل ملك الموت وأعوانه، وفي مأمن من الخوف عند نفخة الفَزَع، ومن الموت عند نفخة الصَعْق، وأ نّها لا تحضر في عرصات القيامة وصحراء المحشر، بل هي حاضرة في الحجاب الاقرب المشرف علی عرصة القيامة، وأ نّها الحاكمة يوم القيامة في أمر ورود الجنّة أو اقتحام النار. وهذه الطائفة من الموجودات مستثناة من المعاد، لانّ عودها وبدءها واحد، ولا نّها لا تمتلك قوّة وحركة، ولا نّها مبرّأة ومنزّهة عن الطبع وآثار عالم الطبع. أمّا باقي الموجودات ـمهما كانت وأ نّي كانتـ فذات قوّة وقابليّة تستتبع كونها في حركة إلی أصلها ومقرّها الاوّل، وهي ـلذلكـ ذات معاد، إذ الله تعالی منتهي كلّ شيء، كما أ نّه مبدأ كلّ شيء: وَأَنَّ إِلَي' رَبِّكَ الْمُنتَهَي'. [49] وأساس الدليل الفلسفيّ علی هذه الحقيقة، هو وحدة الفاعل والغاية، إذ كلّما صار الشيء مبدأً لشيء آخر، فسيكون غاية ذلك الشيء ومنتهاه. وكلّما اكتسب الشيء تعيّنه من شيء آخر واكتسب في ذاته وجوداً منه، فسيكون مضطرّاً ـفي نهاية المطافـ للعودة إلی ذلك الشيء: هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّـ'هِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. [50] ويمكن الاستفادة من القاعدة الكلّيّة القائلة بأنّ المعلول يقف في مرتبة أدني من العلّة، أنّ كلاّ من الجنّة وجهنّم ذات درجات ومراتب متفاوتة. فالجنّة ذات درجات تبدأ من الاعلي وتهبط إلی الاسفل، وأرفع تلك الدرجات أعلاها، وأدناها أسفلها، وكلّ درجة من تلك الدرجات مهيمنة علی الدرجات التي هي دونها علوّاً. أمّا دركات جهنّم فعلي العكس من الجنّة حيث تشرع من الاسفل وترتفع إلی الاعلي. وأشدّها أسفلها، ثمّ الاعلي منها فالاعلي. ويستفاد ممّا قيل أنّ كلّ درجة في الجنّة هي في حكم الفاعل للدرجة الادني منها وصولاً إلی الدرجة الدنيا منها، وأنّ كلّ درجة سفلي في جهنّم هي في حكم الفاعل للدرجة التي تعلوها وصولاً إلی أعلاها درجة. ونأمل أن يكون لنا بحول الله وقوّته بيانات مفصلّة عن ذلك في أبحاث الجنّة والنار، وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكّلت وإليه أُنيب. ارجاعات [1] ـ الآية 2، من السورة 46: الاحقاف. [2] ـ الآية 8، من السورة 30: الروم. [3] ـ صدر الآية 96، من السورة 16: النحل. [4] ـ الآية 21، من السورة 15: الحجر. [5] ـ الآية 27، من السورة 38: ص. [6] ـ الآيتان 190 و 191، من السورة 3: آل عمران. [7] ـ الآيتان 16 و 17، من السورة 21: الانبياء. [8] ـ الآية 17، من السورة 13: الرعد. [9] ـ الآية 38، من السورة 6: الانعام. [10] ـ الآيتان 159 و 160، من السورة 37: الصافّات. [11] ـ الآية 29، من السورة 45: الجاثية. [12] ـ الآية 29، من السورة 42: الشوري. [13] ـ الآيات 93 إلی 95، من السورة 19: مريم. [14] ـ الآية 166، من السورة 2: البقرة. [15] ـ الآية 94، من السورة 6: الانعام. [16] ـ الآية 87، من السورة 4: النساء. [17] ـ الآية 9، من السورة 64: التغابن. [18] ـ الآية 71، من السورة 39: الزمر. [19] ـ الآية 73، من السورة 39: الزمر. [20] ـ الآيتان 36 و 37، من السورة 8: الانفال. [21] ـ الآيتان 5 و 6، من السورة 46: الاحقاف. [22] ـ القطمير: القشرة الدقيقة التي علی النواة بين النواة والتمر. [23] ـ الآيتان 13 و 14، من السورة 35: فاطر. [24] ـ الآية 63، من السورة 28: القصص. [25] ـ الآيتان 20 و 21، من السورة 16: النحل. [26] ـ الآية 180، من السورة 3: آل عمران. [27] ـ انظر: الجزء السابع من هذا الكتاب، المجلسان 47 و 48. [28] ـ الآية 19، من السورة 67: الملك. [29] ـ الآيتان 3 و 4، من السورة 105: الفيل. والسجّيل: حجارة من طين متصلّب. [30] ـ تفسير «مجمع البيان» ج 5، ص 540 و 541، طبعة صيدا؛ و«الميزان في تفسير القرآن» ج 20، ص 512. [31] ـ الآيات 16 إلی 18، من السورة 27: النمل. [32] ـ الآية 19، من السورة 27: النمل. [33] ـ الآيتان 3 إلی 4، من السورة 27: النمل. [34] ـ الآيات 20 إلی 23، من السورة 27: النمل. [35] ـ الآيتان 29 و 30، من السورة 27: النمل. [36] ـ أورد المحدّث القمّيّ في «منتهي الآمال» ج 2، ص 28، القطع الرحليّ، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، عن «جلاء العيون» و«بصائر الدرجات» أنّ الصادق عليه السلام قال: قال أبي الباقر عليه السلام: لمّا كانت الليلة التي وعدها عليّ بن الحسين قال: يا بنيّ! هذه الليلةالتي وعدتُها. فأوصي بناقته أن يحضر لها عصام ويُقام لها علف فجُعلتْ فيه. فلمتلبث أن خرجتْ حتّي أتت القبر فضربتْ بجرانها ورغتْ وهملت عيناها. فأتاها ] الباقر عليه السلام [ فقال: مه! الآن قومي بارك الله فيك! فسارت ودخلتْ موضعها، فلم تلبث أن خرجتْ حتّي أتت القبر فضربت بجرانها ورغتْ وهملت عيناها. فأوتي محمّد بن عليّ، فقيل له: إنّ الناقة قد خرجت، فما نفعل؟ قال: دعوها فإنّها مودعة. فلم تلبث إلاّ ثلاثة حتّي نفقت. [37] ـ المدعو حاليّاً بشارع الشهيد نوّاب صفوي.(م) [38] ـ وقد اشترت إدارة التولية في المشهد الرضويّ المقدّس ذلك البعير من صاحبه، وتركته يرعي في المراتع مع باقي الجمال التابعة إلی موقوفات الإمام. [39] ـ «مقتل الحسين عليه السلام» للمقرّم، ص 332، عن كتاب «تظلّم الزهراء» ص 129،وعن «بحار الانوار» ج 10، ص 205؛ طبعة الكمبانيّ. [40] ـ الآية 9، من السورة 27: النمل. [41] ـ الآية 36، من السورة 38: ص. [42] ـ الآية 30، من السورة 39: الزمر. [43] ـ الآيتان 15 و 16، من السورة 23: المؤمنون. [44] ـ الآية 15، من السورة 35: فاطر. [45] ـ الآية 18، من السورة 5: المائدة. [46] ـ الآية 123، من السورة 11: هود. [47] ـ الآية 5، من السورة 57: الحديد. [48] ـ الآية 11، من السورة 30: الروم. [49] ـ الآية 42، من السورة 53: النجم. |
|
|