بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد التاسع / القسم الثالث: خصوصیة الشفعاء فی یوم القیامة، شفاعة رسول الله صلی الله علیه و آله

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

شفاعة‌ أحد المتأ لّهين‌ في‌ الدنيا

 والقصّة‌ الاُولي‌ تتعلّق‌ بهذا الحقير، وقد حصلت‌ في‌ شهر رمضان‌ المبارك‌ لسنة‌ ألف‌ وثلاثمائة‌ وسـتّ وسبعين‌ هجريّة‌، عندما كنت‌ مقيماً في‌مدينة‌ النجف‌ الاشرف‌. فسافرت‌ ذات‌ يوم‌ برفقة‌ العائلة‌ إلی كربلاء المقدّسة‌ لزيارة‌ أبي‌ عبد الله‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌، واستأجرنا غرفة‌ فأقمنا بها فترة‌ من‌ الزمن‌ ونحن‌ ننعم‌ ببركات‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌. وكان‌ الجوّ حارّاً آنذاك‌، وكنتُ قد اعتدتُ في‌ ذلك‌ الشهر المبارك‌ علی السهر لقصر لياليه‌، كان‌ نومي‌ يستمرّ من‌ الصبح‌ إلی ما قبل‌ الظهر بساعتين‌، ثمّ أنهض‌ للوضوء استعداداً للذهاب‌ إلی الحرم‌ الحسيني‌ّ فأمكث‌ فيه‌ إلی الظهر، فأصلّي‌ صلاة‌ الظهر في‌ الحضرة‌ المباركة‌، ثمّ أعود إلی المنزل‌.

 وكان‌ لي‌ صديق‌ عربي‌ّ من‌ أهالي‌ الكاظميّة‌ يدعي‌ الحاجّ عبدالزهراء الگرعاوي‌ّ، وهو رجل‌ متديّن‌ ذو ضمير وقّاد. وكان‌ يتشرّف‌ بين‌ الحين‌ والآخر بزيارة‌ كربلاء، وخاصّة‌ في‌ ليالي‌ الجمعة‌، وكان‌ حريصاً علی العودة‌ إلی الكاظميّة‌ في‌ نفس‌ الليلة‌، لئلاّ يُجبر علی الإفطار في‌ اليوم‌ التالي‌؛ وقد تُوفّي‌ قبل‌ سنة‌ تقريباً، رحمة‌ الله‌ عليه‌.

 واستيقظت‌ ذات‌ يوم‌ كعادتي‌، فتوضّأت‌ وعزمت‌ الذهاب‌ إلی الحضرة‌ المباركة‌، فلحظتُ في‌ نفسي‌ تثاقلاً، وأحسست‌ بانقباض‌ شديد يعتريني‌. وبالكاد وصلت‌ الصحن‌ المطهّر وقد شعرت‌ بضعف‌ رغبتي‌ للزيارة‌، وتواصلت‌ تلك‌ الحالة‌ بي‌ إلی قريب‌ الظهر. وفجأة‌، فإذا بنشاط‌ وسرور لايمكن‌ وصفهما يغتبطاني‌، فنهضتُ للزيارة‌ برغبة‌ كبيرة‌، انهمكتُ ـكالسابق‌ـ بالزيارة‌ والصلاة‌ والتوسّل‌.

 وجاء في‌ تلك‌ الليلة‌ المرحوم‌ الحاجّ عبد الزهراء من‌ الكاظميّة‌ إلی كربلاء للتشرّف‌ بالزيارة‌؛ فقال‌ لي‌: أيّها السيّد محمّد الحسين‌! بأي‌ّ حالٍ كنت‌ هذا اليوم‌؟ لقد كنتُ جالساً في‌ غرفتي‌ في‌ بغداد قرب‌ الظهر، فشاهدتك‌ بحالة‌ صعبة‌، وأنت‌ تعاني‌ من‌ انقباض‌ شديد، فركبتُ سيّارتي‌ علی الفور وذهبت‌ إلی الكاظمين‌ فشفّعت‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر عند الله‌ تعالی‌ لرفع‌ الحالة‌ التي‌ انتابتك‌، فشفع‌ الإمام‌ لك‌ وتحسّنت‌ حالك‌.

 الرجوع الي الفهرس

شفاعة‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر عليهما السلام‌ لآية‌ الله‌ الكلبايكاني‌ّ

 والقصّة‌ الثانية‌ عن‌ المرحوم‌ آية‌ الحقّ واليقين‌ آية‌ الله‌ العظمي‌ السيّد جمال‌الدين‌ الكلبايكاني‌ّ تغمّده‌ الله‌ برحمته‌، وكان‌ رجلاً نزيهاً زكيّاً ومن‌ مراجع‌ النجف‌ الاشرف‌ الاجلاّء، وكان‌ له‌ ـفي‌ الوقت‌ نفسه‌ـ روابط‌ معنويّة‌ وباطنيّة‌ تشدّه‌ بالحقّ المتعال‌. وكان‌ مراقباً برسوخ‌ وثبات‌، ويمكن‌ تسميته‌ بجمال‌ السالكين‌ إلی الله‌ تعالی‌. وكانت‌ أعماله‌ أُسوةً في‌ الصبر والتحمّل‌ والإيثار والزهد والمراقبة‌ وسعة‌ النفس‌ والعلم‌ المكين‌.

 وسيماؤه‌ مجسّدة‌ حقّاً، بحيث‌ تراه‌ مثالاً جليّاً لسيماء العلماء الصادقين‌ ومشائخ‌ الطائفة‌ الحقّة‌ للمذهب‌ الجعفري‌ّ، وهو في‌ السير والسلوك‌ آية‌ ومرآة‌ تعكس‌ سير الائمّة‌ الطاهرين‌ سلام‌ الله‌ عليهم‌ أجمعين‌ وسلوكهم‌، وكان‌ يذكّر بالله‌ تعالی‌ وبعالم‌ الآخرة‌.

 ولا يزال‌ جيران‌ ذلك‌ المرحوم‌ في‌ محلّة‌ « الحويش‌ » في‌ النجف‌ الاشرف‌ يقصّون‌ الحكايات‌ عن‌ عينيه‌ الغارقتين‌ في‌ الدموع‌، وعن‌ آهاته‌ الحرّي‌ الليليّة‌، إلی أن‌ ارتحل‌ في‌ التاسع‌ عشر من‌ شهر محرّم‌ لسنة‌ ألف‌ وثلاثمائة‌ وسبع‌ وسبعين‌ ودُفن‌ في‌ مقبرة‌ وادي‌ السلام‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌، حيث‌ ينقضي‌ علی رحيله‌ إلی يومنا هذا ـفي‌ سنة‌ ألف‌ وثلاثمائة‌ وتسع‌ وتسعين‌ـ اثنتان‌ وعشرون‌ سنة‌، رحمة‌ الله‌ عليه‌ رحمة‌ واسعة‌.

 ينبغي‌ أن‌ يقال‌ في‌ حقّ مثل‌ هؤلاء الرجال‌ المتألّهين‌ الصادقين‌: عَاشَ سَعِيداً وَمَاتَ سَعِيداً، لانّ أوّل‌ خطواته‌ في‌ مسيرته‌ قد تمثّلت‌ في‌ تمنّي‌ الحركة‌ إلی الله‌ تعالی‌، ورفع‌ الحجب‌ الظلمانيّة‌ والنورانيّة‌، ونيل‌ لقاء الله‌ من‌ جميع‌ الجهات‌ وإدراك‌ مقام‌ الفناء واندكاك‌ الإنّيّة‌ في‌ الذات‌ القدسيّة‌ للحقّ سبحانه‌ وتعالی‌.

 ولم‌ يكن‌ دعاء اللَهُمَّ ارْزُقْنَا التَّجَافِي‌ عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإنَابَةِ إلی دَارِ الخُلُودِ، وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ [1] ورد لسانه‌ فقط‌، بل‌ كان‌ ـكذلك‌ـ حال‌ نفسه‌ وشهود قلبه‌ المتوهّج‌ وضميره‌ المستنير.

 وكانت‌ « الصحيفة‌ السجّاديّة‌ » أمامه‌ باستمرار تعلو كتب‌ مطالعته‌؛ وكان‌ يلتذّ أيّما التذاذ بالمناجاة‌ الخمسة‌ عشر للإمام‌ السجّاد عليه‌ السلام‌، ولكثرة‌ قراءته‌ لها فقد حفظها عن‌ ظهر قلب‌، وخاصّة‌ المناجاة‌ الثامنة‌ « مناجاة‌ المريدين‌ » التي‌ شغف‌ بها.

 وكان‌ يطالع‌ باستمرار في‌ غرفة‌ الاستقبال‌ المتواضعة‌ ( البرّاني‌ّ ) الواقعة‌ في‌ الطابق‌ العلوي‌ّ، علی الرغم‌ من‌ صعوبة‌ ذلك‌ عليه‌، خاصّة‌ في‌ صيف‌ النجف‌ اللاهب‌. هذا وقد أحاطت‌ به‌ المحن‌ والشدائد من‌ كلّ جهة‌، فابتلي‌ في‌ أواخر عمره‌ بضعف‌ القلب‌ ومرض‌ ( البروستات‌ )، فاضطرّ لإجراء عمليّة‌ جراحيّة‌ للبروستات‌ ألزمته‌ الفراش‌، وكان‌ إدراره‌ يُجمع‌ عبر أُنبوب‌ في‌ كيس‌ تحت‌ سريره‌. وقد تراكمت‌ عليه‌ الديون‌، سواءً تلك‌ التي‌ اقترضها لتمشية‌ أُموره‌ المعيشيّة‌ أم‌ ما كان‌ يستقرضه‌ للطلبة‌، وقد اضطرّ إلی رهن‌ بيته‌ بأربعمائة‌ دينار عراقي‌ّ لتغطية‌ نفقات‌ عمليّة‌ جراحيّة‌ لاحد أقاربه‌، وفوق‌ ذلك‌ كلّه‌ فقد كان‌ يواجه‌ مشكلات‌ داخليّة‌ في‌ البيت‌ قد أرهقته‌.

 وكنت‌ أزوره‌ مرّة‌ أو مرّتين‌ كلّ أسبوع‌، ولي‌ معه‌ بعض‌ المحاورات‌ والمحادثات‌ وجئته‌ ذات‌ يوم‌ فشاهدته‌ راقداً علی ظهره‌ في‌ سريره‌، وقد ناهز التسعين‌ من‌ عمره‌، وهو يقرأ في‌ صحيفته‌ ( السجّاديّة‌ ) الصغيرة‌، يذرف‌ الدموع‌ سخاناً، وهم‌ منغمر في‌ عالمٍ لا يوصف‌ من‌ السرور والبهجة‌ والنشـاط‌ واللذّة‌، كأ نّه‌ ـلشدّة‌ أُنسه‌ بالله‌ تعالی‌ـ لا يكاد يتّسـع‌ له‌ جلده‌ ويريد الطيران‌.

 سلّمتُ عليه‌؛ فقال‌: اجلس‌! إنّ لك‌ ـيا فلان‌ـ علماً بحالي‌ ( وأشار إلی جميع‌ محنه‌، من‌ المرض‌، والعمليّة‌ الجراحيّة‌، والوحدة‌، واضطراب‌ وضع‌ البيت‌ الداخلي‌ّ وحرارة‌ الجوّ، والديون‌ الثقيلة‌، ومسألة‌ رهن‌ البيت‌، وغير ذلك‌ ).

 فقلتُ: نعم‌!

 فتبسّم‌ بسمة‌ دافئة‌، والتفتَ إلی بوجهه‌ قائلاً: أنا سعيد، سعيد. إنّ من‌ ليس‌ له‌ عرفان‌، فلا دنيا له‌ ولا آخرة‌!

 الرجوع الي الفهرس

أثر شفاعة‌ المعصوم‌ في‌ الدنيا

 أجل‌، فقد نَقل‌ لي‌ ذات‌ يوم‌ أ نّه‌ أحسّ بحالة‌ عجيبة‌ انتابته‌ في‌ مرحلة‌ من‌ مراحل‌ السلوك‌ بحيث‌ صار يري‌ نفسه‌ مفيضاً للعلم‌ والقدرة‌ والرزق‌ والحياة‌ علی جميع‌ الموجودات‌، ويري‌ أنّ كلّ موجود من‌ الموجودات‌ يستعين‌ به‌، ويري‌ أ نّه‌ هو المعطي‌ والمفيض‌ لفيض‌ الوجود علی الماهيّات‌ الإمكانيّة‌ والقوالب‌ الوجوديّة‌.

 قال‌: كانت‌ حالي‌ كذلك‌؛ علی أ نّي‌ كنتُ أعلم‌ ـإجمالاًـ أ نّها حالة‌ غيرصحيحة‌ وغيرصادقة‌، لانّ الله‌ جلّ وعلا مبدأ جميع‌ الخيرات‌، وهو سـبحانه‌ مفيض‌ الرحمة‌ والوجـود علی جميع‌ ما سـواه‌. واسـتمرّت‌ بي‌ تلك‌الحالة‌ عدّة‌ أيّام‌، وكلّما تشرّفت‌ بالزيارة‌ عند الضريح‌ المطهّر لاميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ ألوذ في‌ باطني‌ سائلاً الفَرَج‌، إلاّ أنّ ذلك‌ لم‌يُجْدِ نفعاً. ثمّ عزمت‌ السفر إلی الكاظميّة‌ لاتوسّل‌ بالإمام‌ الكاظم‌ عليه‌ السلام‌ ليكون‌ شفيعي‌ عند الله‌ المتعال‌ ليخلّصني‌ من‌ هذه‌ الشدّة‌.

 كان‌ الجوّ بارداً حين‌ تحرّكت‌ من‌ مدينة‌ النجف‌ الاشرف‌ قاصداً المرقد المطهّر للإمام‌ الموسي‌ بن‌ جعفر عليه‌ السلام‌؛ وما أن‌ وصلت‌ الكاظميّة‌، ذهبت‌ مباشرة‌ إلی الضريح‌ المطهّر؛ وكانوا آنذاك‌ قد رفعوا السجاجيد المفروشة‌ من‌ أمام‌ الضريح‌، فوضعت‌ رأسي‌ علی أحجار الرخام‌ المقابلة‌ للضريح‌ وأجهشت‌ بالبكاء حتّي‌ جرت‌ دموعي‌ بغزارة‌ علی أحجار الرخام‌.

 ولم‌ يزل‌ رأسي‌ علی الارض‌ بعدُ، فإذا بالإمام يشفع‌ لي‌، فانقلبت‌ وفهمتُ مَن‌ أنا؟ وأي‌ّ شي‌ء أنا؟ وأدركت‌ أ نّي‌ أقلّ وأتفه‌ من‌ ذرّة‌ واحدة‌، ولا أملك‌ من‌ القدرة‌ بمقدار قطعة‌ قشّ صغيرة‌ واحدة‌، وأنّ هذه‌ الاُمور للّه‌ وحده‌ دون‌ سواه‌، وأ نّه‌ سبحانه‌ تعالی‌ هو المفيض‌ علی الإطلاق‌، وهو الحي‌ّ والمحيي‌، والعالِم‌ ومفيض‌ العلم‌، والقادر وواهب‌ القدرة‌، والرازق‌ ومعطي‌ الرزق‌. وأدركتُ أن‌ نفسي‌ ليست‌ أكثر من‌ نافذة‌ وآية‌ لظهور ذلك‌ النور المطلق‌؛ ثمّ نهضتُ فأدّيت‌ الزيارة‌ والصلاة‌ وعُدت‌ إلی النجف‌ الاشرف‌.

 ومرّت‌ علی عدّة‌ أيّام‌ كنتُ أري‌ فيها أنّ الله‌ تعالی‌ هـو المفيض‌ والحي‌ّ والقادر في‌ جميع‌ العوالم‌، إلی أن‌ تشرّفت‌ مرةً بزيارة‌ المرقد المطهّر لاميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌، فاعترتني‌ حالة‌ لاتوصف‌ وأنا وسط‌ الزقاق‌ عند عودتي‌ إلی البيت‌ قد ألجأتني‌ إلی أن‌ أسـند رأسـي‌ إلی الحائط‌ ما يقارب‌عشر دقائق‌ دون‌ أن‌ أمتلك‌ قدرة‌ علی الحركة‌. وهي‌ ممّا مَنّ به‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌، وكانت‌ أكثر دقّة‌ وأسمي‌ من‌ الحالة‌ التي‌ اكتنفتني‌ عند ضريح‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر عليه‌ السلام‌، إذ كانت‌ تلك‌ مقدّمة‌ لحصول‌ هذه‌ الحالة‌.

 هذه‌ شواهد حيّة‌ عن‌ شفاعة‌ أُولئك‌ الائمّة‌ الاجلاّء، وما ينبغي‌ لنا هو الاستمساك‌ وعدم‌ الكفّ عن‌ الطلب‌؛ كما ينبغي‌ ـكما فعل‌ المرحوم‌ السيّد جمال‌ـ أن‌ يطأطي‌ المرء رأسه‌ علی أعتابهم‌ في‌ ذلّة‌ ومسكنة‌، لتمتد يد من‌ الغيب‌ فتفعل‌ فعلها.

 جز تو ره‌ قبله‌ نخواهيم‌ ساخت                   ‌ گر ننوازي‌ تو كه‌ خواهد نواخت‌؟

 يار شو اي‌ مونس‌ غمخوارگان‌                     چاره‌ كن‌ اي‌ چارة‌ بيچارگان‌

 در گذر از جرم‌ كه‌ خواهنده‌ايم‌                     چارة‌ ما كن‌ كه‌ پناهنده‌ايم‌

 چارة‌ ما ساز كه‌ بي‌ياوريم                          ‌ گر تو براني‌ به‌ كه‌ رو آوريم‌ [2]

 لَنْ أَبْرَحَ البَابَ حَتَّي‌ تُصْلِحُوا عِوَجِي                     ‌ وَتَقْـبَلُـونِي‌ علی عَيْـبِـي‌ وَنُقْصَـانِي‌

 فَإِنْ رَضِـيتُـمْ فَـيَـا عِـزِّي‌ وَيَا شَـرَفِي                    ‌ وَإنْ أَبَـيْـتُـمْ فَـمَـنْ أَرْجُـو لِغُفْـرَانِي‌

 أي‌ درِ تو مقصد ومقصود ما             وي‌ رخ‌ تو شاهد ومشهود ما

 نقد غمت‌ ماية‌ هر شادِئي             ‌ بندگيت‌ به‌ زهر آزادئي‌

 كوي‌ تو بزم‌ دل‌ شيداي‌ ماست                   ‌ مسكن‌ ما منزل‌ ما جاي‌ ماست‌

 عشق‌ تو مكنون‌ ضمير من‌ است‌                خاك‌ سراي‌ تو سريرِ من‌ است‌ [3]

 اي‌ غمت‌ از شادي‌ أحباب‌ به                      ‌ دردِ تو از داروي‌ اصحاب‌ به‌

 كوه‌ غمت‌ سينة‌ سيناي‌ من‌                      روشني‌ ديدة‌ بيناي‌ من‌ [4]

 الرجوع الي الفهرس

 

 

الدرس‌ الحادي‌ والستّون‌:

 شفعاء يوم‌ القيامة‌

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلي‌ّ العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن‌ دُونِهِ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَن‌ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [5]

 نريد أن‌ نعرف‌ في‌ هذا البحث‌ مَن‌ هم‌ الشفعاء، ونحاول‌ أن‌ نتعرّف‌ أجمالاً علی الاُمور التي‌ توجب‌ الشفاعة‌ للإنسان‌ في‌ الدنيا والآخرة‌.

 وكما علمنا سابقاً فالشفاعة‌ علی نوعين‌: تكوينيّة‌ وتشريعيّة‌؛ ونقسّم‌ الآن‌ الشفاعة‌ التشريعيّة‌ إلی قسمين‌، أوّلهما: الشفاعة‌ التشريعيّة‌ الحاصلة‌ للإنسان‌ في‌ الحياة‌ الدنيا. وثانيهما: الشفاعة‌ التشريعيّة‌ الحاصلة‌ في‌ الحياة‌ الآخرة‌. فصار علينا ـ تبعاً لذلك‌ـ أن‌ نتحدّث‌ في‌ مواضيع‌ ثلاثة‌:

 الاوّل‌: في‌ الشفاعة‌ التكوينيّة‌.

 الثاني‌: في‌ الشفاعة‌ التشريعيّة‌ الحاصلة‌ في‌ الدنيا.

 والثالث‌: في‌ الشفاعة‌ التشريعيّة‌ الحاصلة‌ في‌ عالم‌ الآخرة‌.

 أمّا الشفاعة‌ التكوينيّة‌ فهي‌ الوسائط‌ بيننا وبين‌ الله‌ تعالی‌، كما أ نّها وسائط‌ بين‌ الله‌ سبحانه‌ وبين‌ جميع‌ الموجودات‌ والمخلوقات‌، وهي‌ الاسباب‌ الواقعة‌ في‌ طريق‌ إيجاد الموجودات‌ ومنح‌ الوجود للماهيّات‌ الإمكانيّة‌ والقوالب‌ الخارجيّة‌. وهي‌ ـ عموماًـ كلّ ما يتوسّط‌ في‌ انتشار نور توحيد الله‌ المتعال‌ في‌ عوالم‌ الإمكان‌. ونكتفي‌ بهذا القدر، نظراً لعدم‌ تعلّق‌ الحديث‌ بمباحث‌ المعاد، ونُحيل‌ القرّاء الكرام‌ إلی « تفسيرالميزان‌» ج‌1، ص‌77 إلي‌82 الذي‌ يتحدّث‌ عن‌ استناد العلل‌ المادّيّة‌ إلی الله‌ تعالی‌؛ وإلي‌ ج‌2، ص‌180 إلي‌193 الذي‌ يتحدّث‌ عن‌ تأثير بعض‌ الاعمال‌ علی الاُمور الخارجيّة‌، وعن‌ الارتباط‌ بين‌ الاعمال‌ وبين‌ الوقائع‌ الخارجيّة‌؛ وإلي‌ ج‌20، ص‌283 إلي‌285 الذي‌ يتحدّث‌ عن‌ وساطة‌ الملائكة‌ في‌ تدبير الاُمور الخارجيّة‌. كما نُحيلهم‌ إلی الرسالة‌ الخطّيّة‌ الشريفة‌ النفيسة‌ لصاحب‌ التفسير المذكور؛ سماحة‌ أُستاذنا الكريم‌ آية‌ الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ مدّ ظلّه‌ العالي‌ [6] الموسومة‌ بـ « رسالة‌ الوسائط‌ الموجودة‌ بين‌ الله‌ سبحانه‌ وبين‌ النشأة‌ الطبيعيّة‌ ». [7]

 الرجوع الي الفهرس

في‌ الشفاعة‌ التشريعيّة‌ الحاصلة‌ في‌ الدنيا

 ندخل‌ الآن‌ في‌ بحث‌ القسم‌ الاوّل‌ من‌ الشفاعة‌ التشريعيّة‌، وهي‌ الشفاعة‌ المتحقّقة‌ في‌ الحياة‌ الدنيا. بصورة‌ عامّة‌، كلّ ما يستوجب‌ الغفران‌ للإنسان‌ في‌ الدنيا ويستلزم‌ قربه‌ من‌ الحقّ تعالی‌، هو شفيع‌ يتوسّط‌ بين‌ العبد وبين‌ الحقّ، ويوجب‌ غفران‌ الذنوب‌ والسيّئات‌. ومن‌ جملة‌ تلك‌ الاُمور: التوبة‌، التي‌ دعتنا إليها الكثير من‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الكريمة‌:

 قُلْ يَـ'عِبَدِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَي‌'´ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن‌ رَّحْمَةِ اللَهِ إِنَّ اللَهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ و هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَي‌' رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ و مِن‌ قَبْلِ أَن‌ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ. [8]

 ومن‌ بين‌ أنواع‌ التوبة‌: التوبة‌ من‌ الشرك‌، فمن‌ صار موحّداً ـإذاًـ غُفر له‌ ذنبه‌ في‌ الإشراك‌، وكان‌ نفس‌ توحيده‌ توبةً له‌.

 ولا تعني‌ الآية‌ المباركة‌: إِنَّ اللَهَ لاَ يَغْفِرُ أَن‌ يُشْرَكَ بِهِ[9] أ نّه‌ لاتقبل‌ توبة‌ المشرك‌ منه‌ مهما كانت‌، وأنّ الله‌ لن‌ يغفر للمشرك‌ شركه‌، بل‌ تعني‌ أن‌ المشرك‌ المصرّ علی شركه‌ حتّي‌ يموت‌، سوف‌ لن‌ ينال‌ المغفرة‌.

 فالتوحيد إذاً من‌ شفعاء الإنسان‌، لا نّه‌ يوجب‌ غفران‌ شركه‌.

 ومن‌ بينها: الإيمان‌، الذي‌ يوجب‌ غفران‌ ذنب‌ الكفر: يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن‌ رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل‌ لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. [10]

 ومن‌ جملتها: العمل‌ الصالح‌، الذي‌ يستوجب‌ غفران‌ السيّئات‌ والاعمال‌ الطالحة‌: وَعَدَ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ لَهُم‌ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.[11]

 يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَهَ وَابْتَغُو´ا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. [12]

 لانّ الإتيان‌ بالاعمال‌ الصالحة‌ قربةً إلی الله‌ تعالی‌ يمثّل‌ وسيلة‌ للغفران‌، وشفيعاً لمحو الذنوب‌.

 ومن‌ بين‌ الشفعاء: القرآن‌ الكريم‌، فمن‌ عمل‌ به‌ أعانه‌ وشفع‌ له‌ في‌ التقرّب‌ إلی الله‌ تعالی‌، وقاده‌ إلی الخيرات‌، ووضعه‌ في‌ الصراط‌ المستقيم‌ ضمن‌ قافلة‌ الباحثين‌ عن‌ الله‌ سبحانه‌، وأنجاه‌ من‌ الظلمات‌.

 قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَهِ نُورٌ وَكِتَـ'بٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي‌ بِهِ اللَهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَ 'نَهُو سُبُلَ السَّلَـ'مِ وَيُخْرِجُهُم‌ مِّنَ الظُّلُمَـ'تِ إلی النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَي‌'صِرَ'طٍ مُّسْتَقِيمٍ. [13]

 ومن‌ بين‌ الشفعاء: كلّ ما يرتبط‌ بالعمل‌ الصالح‌، كالامكنة‌ المقدّسة‌ والايّام‌ المباركة‌، وقبور الائمّة‌ والانبياء والاولياء والعلماء، والمساجد، التي‌ يمثّل‌ كلّ منها وما شابهها شفيعاً للإنسان‌.

 ومن‌ الشفعاء: الانبياء والمرسلون‌، الذين‌ يستغفرون‌ لاُممهم‌ فيغفر الله‌ لهم‌ ويتجاوز عن‌ ذنوبهم‌:

 وَلَوْ أَ نَّهُمْ إِذ ظَّلَمُو´ا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا. [14]

 ومنهم‌: ملائكة‌ السماوات‌ والارض‌، التي‌ تستغفر للمؤمنين‌:

 الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ و يُسَبِّحوُنَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. [15]

 تَكَادُ السَّمَـ'وَ ' تُ يَتَفَطَّرْنَ مِن‌ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَـ'ئِكَةُ يُسِبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن‌ فِي‌ الاْرْضِ أَلآ إِنَّ اللَهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. [16]

 ومنهم‌: المؤمنون‌ الذين‌ يستغفرون‌ لانفسهم‌ ولإخوانهم‌ في‌ الإيمان‌، فيؤدّي‌ ذلك‌ إلی غفران‌ تلك‌ الذنوب‌. فقد شفعوا في‌ حقيقة‌ الامر، وقد ذكر الله‌ تعالی‌ كلامهم‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌:

 وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ'نَا فَانصُرْنَا علی الْقَوْمِ الْكَـ'فِرِينَ.[17]

 الرجوع الي الفهرس

الشفاعة‌ التشريعيّة‌ يوم‌ القيامة‌

 ومن‌ جملة‌ طائفة‌ الشفعاء: شفعاء يوم‌ القيامة‌. وعلينا أن‌ نعلم‌ ـ إجمالاًـ ما الذي‌ يميّزهم‌ يوم‌ القيامة‌ عن‌ غيرهم‌؟ وأن‌ نعرف‌ الخصائص‌ والسمات‌ التي‌ ترشّحهم‌ للشفاعة‌ يوم‌ القيامة‌، ثمّ نتحدّث‌ عن‌ كلّ طائفة‌ من‌ طوائف‌ الشفعاء علی حدة‌.

 جاء في‌ القرآن‌ الكريم‌: مَن‌ ذَا الَّذِي‌ يَشْفَعُ عِندَهُ و´ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ. [18]

 وجاء أيضاً: وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَـ'عَةُ عِندَهُ و´ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. [19]

 وهي‌ آيات‌ تفيد بأن‌ الشفاعة‌ في‌ يوم‌ القيامة‌ تستلزم‌ إذن‌ الله‌ ورضاه‌ الحتميّ، وأ نّها لا تتحقّق‌ دون‌ إذنه‌ عزّ وجلّ. فقد جُعلت‌ الشفاعة‌ ـمن‌ خلال‌ الحصر بين‌ النفي‌ والإثبات‌ بجملتين‌ استثنائيّتين‌ـ مختصّةً بمن‌ أُذن‌ لهم‌ من‌ قِبل‌ الله‌ تعالی‌.

 وينبغي‌ أن‌ نري‌ الآن‌ ما المقصود من‌ الإذن‌؟ ومن‌ أيّة‌ طائفة‌ هم‌ المأذونون‌؟

 لقد جاء: يَؤْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَـ'عَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـ'نُ وَرَضِيَ لَهُ و قَوْلاً. [20]

 وكما هو معلوم‌ في‌ هذه‌ الآية‌ أنّ القول‌ المرضيّ هو القول‌ المقبول‌ الذي‌ أذن‌ به‌ الله‌ تعالی‌؛ وكما هو معلوم‌ أنّ رضا الله‌ سبحانه‌ بقول‌ العبد، إنّما هو إذنه‌ تعالی‌؛ أي‌ أنّ الله‌ قد ارتضي‌ قول‌ العبد الذي‌ يمثّل‌ ـفي‌ الحقيقة‌ـ شفاعة‌ العبد.

 وحين‌ نقارن‌ هذه‌ الآية‌ مع‌ آية‌: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـ'ئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـ'نُ وَقَالَ صَوَابًا. [21]

 فسندرك‌ أنّ القول‌ المرضي‌ّ هو القول‌ الصواب‌، وهو القول‌ الذي‌ يرتضيه‌ الحقّ جلّ وعزّ. فعلي‌ الشفعاء ـ إذاًـ أن‌ يكون‌ كلامهم‌ صائباً ومرضيّاً للّه‌ تعالی‌.

 وقد قلنا في‌ فصل‌ الشهادة‌ علی الاعمال‌، إنّ هذا القول‌ الصواب‌ يعود إلی أنّ أعمال‌ العاملين‌ تنتهي‌ إلی شخص‌ الشاهد وتلحق‌ به‌. أي‌ أنّ الشاهد يصبح‌ واسطة‌ للفيض‌ ورابطاً بين‌ الحقّ والشخص‌ المشهود له‌ والمشهود عليه‌ من‌ خلال‌ حضوره‌ وتوسّطه‌ في‌ إفاضة‌ الفيوضات‌ الإلهيّة‌.

 وتنبع‌ هذه‌ الحقيقة‌ من‌ تمكين‌ الحقّ سبحانه‌ وتعالی‌ لشخص‌ الشاهد في‌ الشهادة‌ علی الاعمال‌، بحيث‌ يجعله‌ عالماً بحقائق‌ تلك‌ الاعمال‌ وحاضراً في‌ تلك‌ الوقائع‌، إذ يقول‌:

 وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن‌ دُونِهِ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَن‌ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [22]

 وعليه‌، فالآية‌ تبيّن‌ أنّ مقام‌ الشفاعة‌ يستلزم‌ مقام‌ شهادة‌ الشهداء، ممّا يؤدّي‌ إلی حصر الشفاعة‌ في‌ مَن‌ يمتلك‌ العلم‌ ويشهد بالحقّ.

 الرجوع الي الفهرس

خصائص‌ الشفعاء في‌ يوم‌ القيامة‌

 ولمّا علمنا من‌ الآية‌ السابقة‌ أنّ الشفاعة‌ تتعلّق‌ بمن‌ يمتلك‌ الإذن‌ والقول‌ المرضي‌ّ، فالشفعاء ذوو القول‌ المرضي‌ّ إذاً، هم‌ الشهداء الذين‌ يشهدون‌ بالحقّ عن‌ سابق‌ علم‌ واطّلاع‌.

 وقد ذكر تعالی‌ قيدينِ لامتلاك‌ الشافع‌ مقام‌ الشفاعة‌، هما: العلم‌ والشهادة‌ بالحقّ لا بالباطل‌. كما أنّ المراد بالشهادة‌ ـ من‌ جهة‌ أُخري‌ ـ هو الشهادة‌ في‌ مرحلتَي‌ التحمّل‌ والاداء، فلما ينبغي‌ للشهداء من‌ تحمّل‌ تلك‌ الشهادة‌، فلابدّ أن‌ يكون‌ لهم‌ حضور وجدانيّ وشهوديّ في‌ الواقعة‌ التي‌ يشهدون‌ بصددها. فالشفعاء ( وهم‌ الشهداء ) هم‌ الذين‌ يمتلكون‌ سيطرة‌ علی الاعمال‌، واطّلاعاً علی مكنون‌ وحقائق‌ تلك‌ الاعمال‌، وعلي‌ سرائر العاملين‌.

 ولنري‌ الآن‌ أيّة‌ طائفة‌ تلك‌ التي‌ تكون‌ ذات‌ القول‌ المرضي‌ّ والحاضرة‌ في‌ الاعمال‌؟

 إنّ أفراد هذه‌ الطائفة‌ هم‌ أصحاب‌ القول‌ المرضي‌ّ عند الله‌ تعالی‌؛ ولمّا كان‌ الرضا لا يتعلّق‌ بشي‌ء إلاّ إذا كان‌ ذلك‌ الشي‌ء كاملاً، فالقول‌ المرضي‌ّ عند الله‌ تعالی‌ إذاً هو القول‌ الكامل‌، وقول‌ الصواب‌.

 ولمّا علمنا ـ من‌ جهة‌ أُخـري‌ـ أنّ القول‌ هـو من‌ آثار الذات‌، ولن‌يكون‌ فعل‌ الذات‌ كاملاً إلاّ باكتساب‌ تلك‌ الذات‌ الكمال‌، وطي‌ جميع‌ مراحلها الكماليّة‌ ـباعتبار أنّ كمال‌ الفعل‌ منبعث‌ من‌ كمال‌ مبدأ ذلك‌ الفعل‌ وذاته‌ـ فنستنتج‌ أنّ ذوي‌ القول‌ المرضي‌ّ عند الله‌ هم‌ أصحاب‌ الذوات‌ المرضيّة‌ من‌ قِبل‌ الله‌ تعالی‌. فيكون‌ المرضي‌ّ في‌ الفعل‌ هو المرضي‌ّ في‌ الذات‌، ويكون‌ المأذونون‌ من‌ قبل‌ الله‌ في‌ الشفاعة‌ الذين‌ يرتضي‌ الله‌ قولهم‌، هم‌ أصحاب‌ الإحاطة‌ العلميّة‌ بالموجودات‌، وهم‌ المرضيّون‌ والمطهّرون‌ بلحاظ‌ الذات‌ والحقيقة‌.

 وبالتأكيد، فإنّ عكس‌ هذه‌ المسألة‌ ليس‌ صادقاً، إذ من‌ الممكن‌ أن‌ يمتلك‌ امرؤ ذاتاً مرضيّة‌، إلاّ أنّ فعله‌ وأثره‌ غير مرضيّينِ بسبب‌ بعض‌ الحجب‌ والموانع‌ الطارئة‌ التي‌ لوّثت‌ الفعل‌.

 حقيقة‌ مقام‌ الشفيع‌ هي‌ الفناء في‌ الله‌ تعالی‌

 وحصيلة‌ ما تقدّم‌ هي‌ أنّ الشفعاء في‌ يوم‌ القيامة‌ هم‌ الذين‌ يرتضي‌ الله‌ تعالی‌ ذواتهم‌ وأقوالهم‌، وأنّ كمالهم‌ وكمال‌ أقوالهم‌ يشهدان‌ علی الاعمال‌؛ ذلك‌ الكمال‌ الذي‌ لا تشوبه‌ شائبة‌ من‌ نقص‌ أو خطأ، وتلك‌ الاقوال‌ الصائبة‌ المرضيّة‌.

 الرجوع الي الفهرس

الشفاعة‌ تستلزم‌ الإحاطة‌ العلميّة‌ والفناء في‌ الله‌ تعالی‌

 وبعبارة‌ أُخـري‌، أنّ علم‌ الشـفعاء هو علم‌ الله‌ تعالی‌، وهو علم‌ لاتشوبه‌ شبهات‌ الاوهام‌، ولا يعتريه‌ خطأ الخيالات‌ والافكار النفسيّة‌، بل‌ هو علم‌ طاهر ومنزّه‌ من‌ جميع‌ الجهات‌.

 ولكون‌ هكذا علم‌ خالص‌ منزّه‌ وعارٍ من‌ صدأ الافكار النفسانيّة‌ هو من‌ مختصّات‌ الحقّ تبارك‌ وتعالی‌، ولكونه‌ تعالی‌ يفيض‌ من‌ هذا العلم‌ حسب‌ ما يشاء، فما العلوم‌ إذاً إلاّ رشحاً من‌ علم‌ الله‌ تعالی‌، أمّا حقيقة‌ العلم‌فمختصّة‌ به‌ عزّ وجلّ، وليس‌ لموجود غيره‌ حظّاً من‌ العلم‌ ذاتيّاً: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ. [23]

 فيكون‌ أُولئكم‌ الشفعاء قد فنوا في‌ الذات‌ الاحديّة‌ وانعدموا فيها مع‌ علمهم‌، فتجلّي‌ فيهم‌ علم‌ الله‌ الذي‌ لا يعتريه‌ الخطأ.

 أجل‌، إنّ الانبياء والسابقين‌ من‌ المرضيّين‌ عند الله‌ عزّ وجلّ والمقرّبين‌ إلی ساحة‌ الحقّ تعالی‌ ينفون‌ عن‌ أنفسهم‌ أي‌ّ نوع‌ من‌ العلم‌، وعندما يخاطبون‌ ربّهم‌ فإنّهم‌ يقولون‌: لا علمَ لنا.

 يَوْمَ يَجْمَعُ اللَهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنآ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ'مُ الْغُيُوبِ. [24]

 ولابدّ لنا من‌ معرفة‌ علّة‌ نفي‌ الرسل‌ عن‌ أنفسهم‌ العلم‌ بمختلف‌ وجوهه‌، وإن‌ كان‌ ضئيلاً، مع‌ كونهم‌ من‌ حملة‌ العلوم‌ في‌ الدنيا التي‌ تفوق‌ علوم‌ سائر الناس‌ أصالة‌ وصدقاً وكمّيّة‌.

 كانوا يفعلون‌ ذلك‌، لا نّهم‌ قد بلغوا مقاماً ودرجةً صاروا معهما يرون‌ الله‌ سبحانه‌ مصدراً لجميع‌ العلوم‌، وقد أُزيح‌ حجاب‌ كثرات‌ العالم‌ عن‌ بصائرهم‌، فوصلوا إلی مقام‌ التوحيد والمعرفة‌، فصار مع‌ الخطأ عندهم‌ أن‌ ينسبوا إلی أنفسهم‌ تلك‌ العلوم‌، لانّ العلم‌ مختصّ بذات‌ الحقّ، وليس‌ عندهم‌ أكثر من‌ تجلّي‌ العلم‌ فيهم‌.

 ولقد أقام‌ أُولئكم‌ علی طهارتهم‌ الذاتيّة‌ الاصيلة‌، ووفوا بعهدهم‌ وميثاقهم‌ مع‌ ربّهم‌ عزّ وجلّ، فأضحي‌ علمهم‌ علم‌ الله‌ تعالی‌ علی ضوء وعده‌ سبحانه‌. ولقد سار الانبياء والمقرّبون‌ علی جادّة‌ الطهارة‌ والعبوديّة‌ الخالصة‌، ولم‌ يتخطّوا تلك‌ العبوديّة‌ قيد شعرة‌؛ وكان‌ علم‌ الخالق‌ الذي‌ أشرق‌ عليهم‌ كالامانة‌ التي‌ استؤمنوا عليها من‌ عند ربّهم‌، ليعيدوها في‌ خاتمة‌ المطاف‌ كاملةً مختومة‌ إلی صاحبها. لذا، فلا تراهم‌ ينسبون‌ ما هو إلی ربّهم‌ إلی أنفسهم‌ أبداً.

 وعليه‌، فمقام‌ الشفاعة‌ المستلزم‌ للشهادة‌ وصدق‌ القول‌ والعلم‌ والشـهود والوجـدان‌، إنّما يقوم‌ علی أسـاس‌ ذلك‌ الميعاد والميثاق‌: لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـ'نِ عَهْدًا. [25]

 ونلحظ‌ ـ بناءً علی هذا الاساس‌ المتين‌ ـ أوُلئك‌ الانبياء الذين‌ يسألهم‌ ربّهم‌ عمّا أجابت‌ به‌ أُممهم‌، وهم‌ يعدّون‌ تلك‌ الإجابة‌ من‌ الغيب‌، ثمّ ينفون‌ علم‌ الغيب‌ عن‌ أنفسهم‌ ويعتبرونه‌ مختصّاً بالله‌ وحده‌.

 وهذا هو العلم‌ الفنائي‌ّ الذي‌ تطرّقنا إليه‌ في‌ بحث‌ الشهادة‌، وهو من‌ العلوم‌ الخارجة‌ عن‌ دائرة‌ علومنا ومستوي‌ أفكارنا وأحاسيسنا.

 ومن‌ خلال‌ تفسير آية‌: وَ لاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن‌ دُونِهِ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَن‌ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، يتّضح‌ أ نّه‌ ينبغي‌ لهذه‌ الشفاعة‌ أن‌ تعدّ قائمة‌ علی أساس‌ الشهادة‌، كما أنّ الشهادة‌ القائمة‌ علی أساس‌ الشهود والحضور الحقّ والعلم‌ بالمغيّبات‌ لن‌ تتحقّق‌ بدون‌ الفناء في‌ الله‌ سبحانه‌.

 كما يتّضح‌ ـ علی نفس‌ الاساس‌ ـ أنّ الشفاعة‌ هي‌ نحوٌ من‌ التصرّف‌ في‌ الاعمال‌، وتبديل‌ السيّئات‌ إلی حسنات‌، أو محو للسيّئات‌ أو تكفيرها وغفرانها، أي‌ سترها وتغطيتها. ولهذه‌ الجهة‌ فقد نسبها الله‌ تعالی‌ إلی نفسه‌ في‌ قوله‌:

 ثُمَّ اسْتَوَي‌' علی الْعَرْشِ مَا لَكُم‌ مِّن‌ دُونِهِ مِن‌ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ. [26]

 ويدعم‌ هذا المطلب‌ كلامنا الذي‌ ذكرناه‌ في‌ مقام‌ الشفيع‌ ومنزلته‌، القائل‌ بأنّ الشفاعة‌ لا تتحقّق‌ بدون‌ الفناء في‌ الله‌ عزّ وجلّ. ويتّضح‌ هذا الامر أيضاً من‌ قوله‌ تعالی‌:

 وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَـ'عَةُ عِنْدَهُ و´ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ و حَتَّي‌'´ إِذَا فُزِّعَ عَن‌ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. [27]

 لانّ عبارة‌: فُزِّعَ عَن‌ قُلُوبِهِمْ بمعني‌ كشف‌ الفزع‌ والصعق‌ الذي‌ يسبب‌ فقدان‌ الإنسان‌ لوعيه‌ وانغماره‌ في‌ حالٍ من‌ الانبهات‌. وحين‌ ترتفع‌ هذه‌ الحالة‌ ويعود إلی الإنسان‌ وعيه‌ وإدراكه‌ ـ أي‌ في‌ الوهلة‌ الاُولي‌ بعد الفناء والغيبوبة‌ عن‌ عالم‌ الكثرات‌ والنفس‌ـ فسيقولون‌: إنّ الله‌ قد قال‌ الحقّ. فالشفاعة‌ ـ إذاًـ تحصل‌ بعد مقام‌ الفناء.

 وبمقارنة‌ آية‌: ثُمَّ اسْتَوَي‌' علی الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاْمْرَ مَا مِن‌ شَفِيعٍ إِلاَّ مِن‌ بَعْدِ إِذْنِهِ [28] مع‌ الآية‌ السابقة‌: ثُمَّ اسْتَوَي‌' علی الْعَرْشِ مَا لَكُم‌ مِّن‌ دُونِهِ مِن‌ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ، [29] فإنّنا نلحظ‌ اتّحاد سياق‌ الآيتين‌، وأنّ الآية‌ الاُولي‌ تضمّ عبارة‌: مَا مِن‌ شَفِيعٍ إِلاَّ مِن‌ بَعْدِ إِذْنِهِ بدلاً من‌ عبارة‌: مَا لَكُم‌ مِّن‌ دُونِهِ مِن‌ وَلِيٍّ وَلاَشَفِيعٍ. ولمّا كان‌ تحقّق‌ الشفاعة‌ ـلغير الله‌ـ لايحصل‌ إلاّ بعد إذن‌ الله‌ تعالی‌ ورضاه‌، فيستفاد من‌ ذلك‌ أنّ فعل‌ الشافع‌ في‌ شفاعته‌ سيكون‌ ـ بعد إذن‌ الله‌ تعالی‌ـ هو فعل‌ الله‌ عزّ وجلّ، لحصول‌ الشخص‌ الشفيع‌ من‌ خلال‌ هذا الإذن‌ علی مقام‌ الفناء المحض‌، فيكون‌ إذن‌ الله‌ ممثّلاً لارتقاء درجة‌ الإنسان‌ إلی مقام‌ المعرفة‌ والتوحيد المستلزم‌ للفناء.

 ومن‌ هنا، فليس‌ من‌ شفيع‌ إلاّ الله‌؛ وحين‌ يكون‌ هناك‌ مَن‌ يشفع‌ بإذنه‌ تعالی‌، فشفاعته‌ ستكون‌ عين‌ شفاعة‌ الله‌ دون‌ أن‌ يكون‌ في‌ البين‌ غيريّة‌ وثنائيّة‌ ليتحقّق‌ من‌ خلالها معني‌ الغير.

 وهناك‌ آية‌ مباركة‌ في‌ سورة‌ البقرة‌ أكثر صراحة‌ من‌ الآية‌ السابقة‌، وهي‌: مَن‌ ذَا الَّذِي‌ يَشْفَعُ عِندَهُ و´ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.

 أي‌ لمّا كان‌ الله‌ هو العالم‌ بما كان‌ وما يكون‌، فالشفيع‌ يحصل‌ بدوره‌ ـ بواسطة‌ الإذن‌ـ علی نظير هذا العلم‌، فيتحمّل‌ الشهادة‌ علی هذا الاساس‌، ثمّ يقوم‌ بأداء تلك‌ الشهادة‌، لا نّه‌ سيكون‌ فانياً آنذاك‌، وعلم‌ الشخص‌ الفاني‌ هو علم‌ الله‌ تعالی‌، والإذن‌ هو مقام‌ الفناء نفسه‌. ولو لم‌ يكن‌ الامر كذلك‌ لانتفي‌ الارتباط‌ بين‌ عبارة‌: مَن‌ ذَا الَّذِي‌ يَشْفَعُ عِندَهُو´ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. وعبارة‌: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، مع‌ أنّ العبارات‌ الواردة‌ في‌ آية‌ الكرسي‌ ـ المعدودة‌ من‌ عجائب‌ آيات‌ القرآن‌ في‌ التوحيد والمعارف‌ الإلهيّة‌ الحقّة‌ـ مرتبطة‌ ببعضها ارتباطاً وثيقاً يجعلها تعطي‌ بمجموعها معنيً واحداً يمثّل‌ حقيقة‌ التوحيد.

 إضافة‌ إلی علمنا بأنّ الإذن‌ هو الارتضاء؛ وبأنّ الارتضاء الإلهي‌ّ لايتعلّق‌ بأمرٍ غير كامل‌. لذا، فالشي‌ء المشوب‌ بشوائب‌ البينونة‌ والاثنينيّة‌، والذي‌ لم‌يتخلّ بعد عن‌ صبغة‌ الغيريّة‌ ولم‌ يتّسم‌ بختم‌ العبوديّة‌، فإنّه‌ لن‌يكون‌ مورد رضا الله‌ سبحانه‌.

 الرجوع الي الفهرس

حقيقة‌ مقام‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ في‌ الشفاعة‌

 بكلّ تأكيد أنّ مقام‌ رسول‌ الله‌ محمّد بن‌ عبد الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ في‌ الفناء في‌ الله‌ والبقاء بالحقّ سبحانه‌ وتعالی‌ هو مقام‌ رفيع‌ شامخ‌ ذو سعة‌ وعموميّة‌ يجعل‌ جميع‌ الانبياء والمرسلين‌ يلوذون‌ به‌ ويحتاجون‌ شفاعته‌. وليس‌ هذا المقام‌ درجة‌ اعتباريّة‌، بل‌ هو واقع‌ ووجود موهوب‌ ومكتسب‌ منَّ الله‌ تعالی‌ به‌ علی نبيّه‌، وهو ما يمثّل‌ رحمة‌ الحقّ الواسعة‌ والنَّفَس‌ الرحماني‌ّ والحجاب‌ الاقرب‌ الذي‌ هو المحمود المطلق‌.

 ويمكن‌ استفادة‌ هذه‌ الحقيقة‌ من‌ آيات‌ القرآن‌ الكريم‌، إذ جاء فيها: يَوْمَ لاَ يُغْنِي‌ مَوْلًي‌ عن‌ مَّوْلًي‌ شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَن‌ رَّحِمَ اللَهُ. [30]

 وهذه‌ الرحمة‌ المستثناة‌ هي‌ الإذن‌ المستثني‌ في‌ الآيات‌ الاُخري‌، فيتبيّن‌ أنّ ما ندعوه‌ بالشفاعة‌ قائم‌ بالرحمة‌، وأنّ الرحمة‌ هي‌ حقيقة‌ الإذن‌، وأ نّها هي‌ التي‌ توجب‌ الشفاعة‌.

 ويمكن‌ إدراك‌ هذه‌ المعني‌ بصورة‌ مجملة‌ من‌ الآية‌: وَرَحْمَتِي‌ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ... الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاْمِّيَّ. [31] لانّ تلك‌ الرحمة‌ الخاصّة‌ بالمتّقين‌ ذات‌ ميزة‌ خاصّة‌، وربّما كانت‌ تلك‌ الميزة‌ هي‌ الفناء.

 ومن‌ جهة‌ أُخري‌ فقد جاء: وَمَا أَرْسَلْنَـ'كَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـ'لَمِينَ. [32]

 فهذه‌ الآية‌ تتضمّن‌ كلاماً مطلقاً يفيد بأن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ يمتلك‌ من‌ قِبل‌ الحقّ مقاماً أعلي‌ وأسمي‌ من‌ الشفاعة‌، وهو مقام‌ الإذن‌ المطلق‌ الذي‌ تليه‌ الشفاعة‌ وتحصل‌ بسببه‌.

 ومن‌ هنا، فالنبي‌ّ هو شَفِيعُ الشُّفَعَاءِ، كما أ نّه‌ ـ كما سبق‌ أن‌ ذكرنا في‌ بحث‌ الشهادة ‌ـ هو شَهِيدُ الشُّهَدَاءِ.

 ولابدّ من‌ معرفة‌ أنّ مفاد آية‌: وَمَآ أَرْسَلْنَـ'كَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَـ'لِمِينَ، التي‌ تفيد كون‌ خاتم‌ النبيّين‌ أفضل‌ وأشرف‌ من‌ جميع‌ المخلوقات‌، مُغاير لمفاد الآية‌ الواردة‌ في‌ سورة‌ الجاثية‌: وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِي‌´ إِسْرَ '´ءِيلَ الْكِتَـ'بَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـ'هُم‌ مِّن‌ الطَّيِّبَـ'تِ وَفَضَّلْنَـ'هُمْ علی الْعَـ'لَمِينَ. [33]

 لانّ ظاهر الآية‌ الاخيرة‌ يفيد بأنّ الله‌ تعالی‌ قد أعطاهم‌ الآيات‌ الباهرة‌ والبراهين‌ الواضحة‌، كالكتاب‌ والحكم‌ والنبوّة‌، ففضّلهم‌ بها، والامر كذلك‌ بكلّ تأكيد.

 أمّا التفضيل‌ في‌ مقام‌ القرب‌ إلی الله‌ تعالی‌، والتفضيل‌ في‌ درجة‌ التقوي‌ والمنزلة‌ الإلهيّة‌، فلا يمكن‌ استفادته‌ من‌ هذه‌ الآية‌.

 والدليل‌ علی ذلك‌ هو أنّ الله‌ قد عذّبهم‌ بأنواع‌ العذاب‌ الدنيوي‌ّ، وصبّ عليهم‌ ألوان‌ سخطه‌ ونقمته‌، وأنزل‌ عليهم‌ الرجز من‌ السماء.

 كما أنّ من‌ الجلي‌ّ ـ مضافاً إلی ما تقدّم‌ـ أنّ تفضيل‌ أُمّة‌ أو جماعة‌ علی العالمين‌ هو غير تفضيل‌ فردٍ واحد علی العالمين‌، خاصّة‌ وأنّ ذلك‌ التفضيل‌ وتلك‌ المزيّة‌ والتفوّق‌ عبارة‌ عن‌ الرحمة‌ الإلهيّة‌ الخاصّة‌ التامّة‌ التي‌ هي‌ بين‌ الحقّ جلّ وعزّ وبين‌ الموجودات‌.

 ويمكن‌ أن‌ يقال‌ للرحمة‌ الخاصّة‌ التامّة‌ بين‌ الله‌ والموجودات‌ بأ نّها شي‌ء، كما يمكن‌ القول‌ أيضاً بأ نّها لا شي‌ء. فهي‌ شي‌ء بلحاظ‌ كونها رحمة‌ مطلقة‌ للحقّ وظهوراً أقرب‌ وتجلٍّ أعظم‌، وهي‌ لا شي‌ء لا نّها ليست‌ كالموجودات‌، فلا يصحّ تسميتها شيئاً كالموجودات‌. وهي‌ مرآة‌ وآية‌ وتجلّ، وهي‌ المعني‌ الحرفيّ والفناء الكلّي‌ّ والاندكاك‌ في‌ السعة‌.

 لقد خلق‌ الله‌ تبارك‌ وتعالی‌ بنفسه‌ وبذاته‌ القدسيّة‌ كلّ شي‌ء في‌ هذا العالم‌، وأوجد بذاته‌ مبدأ ومعاد وتدبير أُمور كلّ شي‌ء، وقد دبرّ جميع‌ هذه‌ الاُمور برحمته‌. ورسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ هو رحمة‌ الله‌ تعالی‌. فمن‌ هنا، صرنا نقول‌ بأ نّه‌ هو التجلّي‌ الاعظم‌ والحجاب‌ الاقرب‌، وبأ نّه‌ هو الافضل‌ في‌ النتيجة‌.

 الرجوع الي الفهرس

المقام‌ المحمود هو مقام‌ شفاعة‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌

 وقد نزلت‌ في‌ هذا الشأن‌ الآية‌ الشريفة‌ من‌ سورة‌ الإسراء: وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَي‌'´ أَن‌ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا. [34]

 وبسبب‌ مجي‌ء لفظ‌ « مَقَاماً » في‌ هذه‌ الآية‌ بصيغة‌ المفعول‌؛ ولعدم‌ تعلّق‌ لفظ‌ « بَعَث‌ » بمفعولينِ، فينبغي‌ القول‌ إنّ لفظ‌ « بَعَث‌ » يتضمّن‌ معني‌ الإقامة‌ (من‌ باب‌ التضمين‌ والإشراب‌ )، فيكون‌ المعني‌: عَسَي‌ رَبُّكَ أَنْ يُقِيمَكَ مَبْعُوثًا مَقَامًا مَحْمُودًا.

 وقد أنعم‌ الله‌ بهذا الإعطاء للمقام‌ المحمود بصورة‌ مطلقة‌ دون‌ قيد أو شرط‌؛ أي‌ أنّ الله‌ سبحانه‌ قد أعطاك‌ مقاماً محموداً بكلّ حامد؛ ومحموداً لكلّ نحوٍ من‌ أنحاء الحمد، مآل‌ كلّ حمد من‌ أيّ حامد ولايّ محمود هو إليك‌، وما ذلك‌ المقام‌ المحمود إلاّ أنت‌.

 ويتضمّن‌ هذا المقام‌ تمام‌ الجمال‌ والكمال‌؛ وبما أنّ الحمد المطلق‌ والمحموديّة‌ المطلقة‌ يقتضيان‌ هذا المقام‌، فكلّ جمال‌ وكلّ كمال‌ إنّما سيرشح‌ من‌ ذلك‌ المقام‌ الراسخ‌ وينبع‌ منه‌.

 وقد جاء في‌ القرآن‌ الكريم‌: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـ'لَمِينَ، [35] حيث‌ إنّ حمد كلّ حامد يعود للّه‌ تعالی‌. فيكون‌ المقام‌ المحمود هو المقام‌ الذي‌ يمثّل‌ الواسطة‌ بَيْنَ اللَه‌ سُبْحَانَهُ وَتعالی‌ وَبَيْنَ مَقَامِ الحَمْدِ. وعلي‌ هذا فالحمد ـ شأنه‌ في‌ ذلك‌ شأن‌ الرحمة‌ـ هو شي‌ء كما أ نّه‌ لا شي‌ء. فهو شي‌ء بلحاظ‌ كونه‌ حمد مطلق‌ وظهور أقرب‌، وهو لا شي‌ء لا نّه‌ غير الاشياء الخارجيّة‌ ومقام‌ الاثنينيّة‌، ولا نّه‌ المعني‌ الحرفي‌ّ والاندكاكي‌ّ والفناء الكلّي‌ّ، وهو ما يُعبّر عنه‌ بـ مَقَامِ الوَلاَيَةِ الكُبْرَي‌. كما تبيّن‌ هذه‌ الحقيقة‌ الآية‌ المباركة‌ في‌ سورة‌ الضحي‌ بكلّ صراحة‌ ووضوح‌: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَي‌'. [36]

 بما أنّ هذا الكلام‌ مطلق‌ أيضاً، وأنّ العطاء المطلق‌ للحقّ سبحانه‌ وتعالی‌ هو نفس‌ الرحمة‌ المطلقة‌، فيمكن‌ أن‌ يكون‌ مفاد الفناء الكلّيّ في‌ ذات‌ الحضرة‌ الاحديّة‌ جلّ شأنه‌ هو نفس‌ مفاد الآيتين‌ القريبتي‌ الذكر، أي‌ آية‌: وَ مَا أَرْسَلْنَـ'كَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَـ'لَمِينَ، وآية‌: عَسَي‌'´ أَن‌ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا.

 ومضافاً إلی مفاد هاتين‌ الآيتين‌، فالآية‌ تمتلك‌ جهة‌ خاصّة‌ أيضاً تتمثّل‌ في‌ معني‌ الرضا، وهو الارتضاء المطلق‌ من‌ جميع‌ الجهات‌.

 وفي‌ الآية‌ نكتة‌ أُخري‌، وهي‌ أ نّه‌ لم‌ يقل‌: حَتَّي‌ تَرْضَي‌، لانّ عطاء الله‌ لرسوله‌ ( أي‌ هذا العطاء الخاصّ ) ليس‌ عطاءً تدريجيّاً يستمرّ بتعاقب‌ الاعمال‌ والكثرات‌ والجزئيّات‌، ويتوالي‌ بتواتر الامثال‌ والاشباه‌ والنظائر، بل‌ هو عطاء دفعيّ، لذا فقد عبّر عنه‌ بقوله‌: فَتَرْضي‌'.

 وفي‌ المقام‌ نكات‌ دقيقة‌ ومسائل‌ عرفانيّة‌ عميقة‌ ولطيفة‌ تتجلّي‌ لسالكي‌ طريق‌ الحقّ، وللباحثين‌ عن‌ الصراط‌ المستقيم‌ علی أمل‌ رحمة‌ الله‌ تعالی‌.

 ويسـتنتج‌ من‌ خلاصـة‌ ما ذكر أنّ مقام‌ الشَّـفَاعَة‌ الكُبْرَي‌ مختصّ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبدِ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، مضافاً إلی مَقَامِ الإذْنِ المُطْلَقِ فِي‌ الشَّفَاعَةِ، الذي‌ هو أدق‌ وأسمي‌ من‌ نفس‌ الشفاعة‌. صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَهِ وَعَلَي‌ أَهْلِ بَيْتِكَ.

 وبعد اتّضاح‌ هذا البحث‌ القرآني‌ّ الدقيق‌، وبيان‌ الآيات‌ المباركة‌ اختصاص‌ الشفاعة‌ الكلّيّة‌ المطلقة‌ الإلهيّة‌ بالنبي‌ّ الكريم‌، فقد حان‌ الوقت‌ الآن‌ لإلقاء نظرة‌ علی الاحاديث‌ والروايات‌ الواردة‌ في‌ هذا المجال‌، التي‌ جاوزت‌ حدّ الاستفاضة‌، فنورد منها بعض‌ الامثلة‌ والشواهد.

 قال‌ علی بن‌ إبراهيم‌ القمّي‌ّ في‌ تفسيره‌ في‌ ذيل‌ الآية‌ الشريفة‌ وَلاَتَنفَعُ الشَّفَـ'عَةُ عِندَهُ و´ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ:

 لا يشفع‌ أحد من‌ أنبياء الله‌ ورسله‌ يوم‌ القيامة‌ حتّي‌ يأذن‌ الله‌ له‌، إلاّ رسول‌الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌، فإنّ الله‌ قد أذن‌ له‌ في‌ الشفاعة‌ من‌ قبل‌ يوم‌ القيامة‌، والشفاعة‌ له‌ وللائمّة‌ من‌ ولده‌،ثمّ بعد ذلك‌ للانبياء عليهم‌ السلام‌.

 قال‌: حدّثني‌ أبي‌، عن‌ ابن‌ أبي‌ عمير، عن‌ معاوية‌ بن‌ عمّار، عن‌ أبي‌العبّاس‌ المكبّر، قال‌: دخل‌ مولي‌ لامرأة‌ علي‌ّبن‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌ علی أبي‌جعفر ( الباقر ) عليه‌ السلام‌، يقال‌ له‌ أبو أيمن‌، فقال‌: ياأباجعفر! يغرّون‌ الناس‌ ويقولون‌: شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ، شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ.

 فغضب‌ أبو جعفر عليه‌ السلام‌ حتّي‌ تربّد وجهه‌، ثمّ قال‌: وَيْحَكَ يَا أَبَا أَيْمَنَ! أَغَرَّكَ أَنْ عَفَّ بَطْنُكَ وَفَرْجُكَ؟! أَمَا لَوْ رَأَيْتَ أَفْزَاعَ القِيَامَةِ لَقَدِ احتَجْتَ إلی شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ!

 وَيْلَكَ فَهَلْ يَشْفَعُ إلاَّ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؟

 الرجوع الي الفهرس

الروايات‌ الواردة‌ في‌ احتياج‌ جميع‌ الانبياء إلی شفاعة‌ رسول‌ الله‌

 ثمّ قال‌: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إلاَّ وَهُوَ مُحْتَاحٌ إلی شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.

 ثمّ قال‌ أبو جعفر: إنَّ لِرَسُولِ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الشَّفَاعَةَ فِي‌ أُمَّتِهِ؛ وَلَنَا شَفَاعَةٌ فِي‌ شِيعَتِنَا؛ وَلِشِيعَتِنَا شَفَاعَةٌ فِي‌ أَهَالِيهِمْ؛ ثُمَّ قَالَ: وَإنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ لَشَفَاعَةٌ فِي‌ مِثْلِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَإنَّ المُؤمِنَ لَيَشْفَعُ حَتَّي‌ لِخَادِمِهِ؛ يَقُولُ: يَا رَبِّ! حَقِّ خِدْمَتِي‌، كَانَ يَقِينِي‌ الحَرَّ وَالبَرْدَ. [37]

 وروي‌ البرقي‌ّ في‌ « المحاسن‌ » عن‌ ابن‌ أبي‌ عمير صدر هذه‌ الرواية‌ إلی قوله‌: وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ. [38]

 الرجوع الي الفهرس

عرصات‌ القيامة‌ وشفاعة‌ محمّد رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌

 وروي‌ العيّاشي‌ّ في‌ تفسيره‌ في‌ ذيل‌ آية‌: عَسَي‌'´ أَن‌ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُوداً، عن‌ خيثمة‌ الجعفي‌ّ، قال‌: كنت‌ عند جعفر بن‌ محمّد عليه‌ السلام‌ أنا ومفضّل‌بن‌ عمر ليلاً ليس‌ عنده‌ أحد غيرنا، فقال‌ له‌ مفضّل‌ الجعفي‌ّ: جُعلت‌ فداك‌؛ حدّثنا حديثاً نُسَرُّ به‌. قال‌: نعم‌! إذا كان‌ يوم‌ القيامة‌ حَشَرَ اللَهُ الخَلاَئِقَ فِي‌ صَعِيدٍ وَاحِدٍ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً. [39]

 قال‌: فقلت‌: جُعلت‌ فداك‌؛ ما الغُرْل‌؟ قال‌: كما خُلقوا أوّل‌ مرّة‌؛ فيقفون‌ حتّي‌ يلجمهم‌ العَرَق‌. فيقولون‌: ليت‌ الله‌ يحكم‌ بيننا ولو إلی النار ـ يرون‌ أنّ في‌ النار راحة‌ فيما هم‌ فيه‌ـ ثمّ يأتون‌ آدم‌ فيقولون‌: أنت‌ أبونا وأنت‌ نبي‌ّ، فاسأل‌ ربّك‌ يحكم‌ بيننا ولو إلی النار. فيقول‌ آدم‌: لستُ بصاحبكم‌، خلقني‌ ربّي‌ بيده‌ وحملني‌ علی عرشه‌ وأسجدَ لي‌ ملائكته‌، ثمّ أمرني‌ فعصيتُه‌، ولكنّي‌ أدلّكم‌ علی ابني‌ الصدّيق‌ الذي‌ مكث‌ في‌ قومه‌ ألف‌ سنة‌ إلاّ خمسين‌ عاماً يدعوهم‌، كلمّا كذّبوا اشتدّ تصديقه‌ « نوح‌ ».

 قال‌: فيأتون‌ نوحاً فيقولون‌: سَل‌ ربّك‌ يحكم‌ بيننا ولو إلی النار!

 قال‌: فيقول‌: لستُ بصاحبكم‌. إنّي‌ قلت‌: إِنَّ ابْنِي‌ مِن‌ أَهْلِي‌، ولكنّي‌ أدلّكم‌ علی من‌ اتّخذه‌ الله‌ خليلاً في‌ دار الدنيا، ائتوا إبراهيم‌!

 قال‌: فيأتون‌ إبراهيم‌ فيقول‌: لست‌ بصاحبكم‌. إنّي‌ قلت‌: إِنِّي‌ سَقِيمٌ، ولكنّي‌ أدلّكم‌ علی مَن‌ كلّم‌ الله‌ تكليماً: « موسي‌ ». قال‌: فيأتون‌ موسي‌ فيقولون‌ له‌، فيقول‌: لست‌ بصاحبكم‌، إنّي‌ قتلتُ نَفْساً، ولكنّي‌ أدلّكم‌ علی من‌ كان‌ يخلق‌ بإذن‌ الله‌ ويبري‌ الاكمه‌ والابرص‌ بإذن‌ الله‌: « عيسي‌ ». فيأتونه‌ فيقول‌: لست‌ بصاحبكم‌، ولكنيّ أدلّكم‌ علی من‌ بشّرتكم‌ به‌ في‌ دار الدنيا: « أحمد ».

 ثمّ قال‌ أبو عبد الله‌ عليه‌ السلام‌:

 مَا مِنْ نَبِي‌ٍّ وُلِدَ مِن‌ آدَمَ إلی مُحَمَّدٍ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إلاَّ وَهُمْ تَحْتَ لِوَاءِ مُحَمَّدٍ.

 قال‌: فيأتونه‌. ثمّ قال‌: فيقولون‌: يا محمّد! سَل‌ ربّك‌ يحكم‌ بيننا ولو إلی النار. قال‌: فيقول‌: نعم‌؛ أنا صاحبكم‌. فيأتي‌ دَارُ الرَّحْمَنُ وهي‌ عدن‌، وإنّ بابها سعته‌ بُعد ما بين‌ المشرق‌ والمغرب‌، فيحرّك‌ حلقة‌ من‌ الحلق‌، فيقال‌: مَن‌ هذا؟ ـ وهو أعلم‌ به ‌ـ فيقول‌: أنا محمّد؛ فيقال‌: افتحوا له‌. قال‌: فيُفتح‌ لي‌. قال‌: فإذا نظرتُ إلی ربّي‌ مجدّته‌ تمجيداً لم‌ يمجّده‌ أحد كان‌ قبلي‌ ولايمجّده‌ أحد كان‌ بعدي‌، ثمّ أخرّ ساجداً، فيقول‌:

 يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ! وَقُلْ يُسْمَعْ قَوْلُكَ! وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ! وَسَلْ تُعْطَ.

 قال‌: فإذا رفعتُ رأسي‌ ونظرتُ إلی ربّي‌ مجّدتُه‌ تمجيداً أفضل‌ من‌ الاوّل‌، ثمّ أخرّ ساجداً فيقول‌: ارفع‌ رأسك‌ وقُل‌ يُسمعْ قولك‌ واشفعْ تُشفّع‌ وسَلْ تُعطَ. فإذا رفعتُ رأسي‌ ونظرتُ إلی ربّي‌ مجّدته‌ تمجيداً أفضل‌ من‌ الاوّل‌ والثاني‌، ثمّ أخرّ ساجداً فيقول‌: ارفعْ رأسك‌ وقُل‌ يُسمع‌ قولك‌ واشفعْ تُشفّع‌ وسَلْ تُعطَ. فإذا رفعت‌ رأسي‌ أقول‌: ربّ احكم‌ بين‌ عبادك‌ ولو إلی النار! فيقول‌: نعم‌ يا محمّد.

 قال‌: ثمّ يؤتي‌ بناقة‌ من‌ ياقوت‌ أحمر وزمامها زبرجد أخضر حتّي‌ أركبها، ثمّ آتي‌ المَقَام‌ المَحْمُود حتّي‌ أقضي‌ عليه‌ وهو تلّ من‌ مسك‌ أذفر بحيال‌ العرش‌، ثمّ يدعي‌ إبراهيم‌ فيُحمل‌ علی مثلها فيجي‌ء حتّي‌ يقف‌ عن‌ يمين‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌.

 ثمّ رفع‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ يده‌ فضربَ بها علی كتف‌ علی بْنَ أَبِي‌ طَالِبٍ، ثمّ قال‌: ثمّ تؤتي‌ ـوالله‌ـ بمثلها فتحمل‌ عليها، ثمّ تجي‌ء حتّي‌ تقف‌ بيني‌ وبين‌ أبيك‌ إبراهيم‌. ثمّ يخرج‌ مناد من‌ عند الرحمن‌ فيقول‌: يَا مَعْشَرَ الخَلاَئِقِ! أليس‌ العدل‌ من‌ ربّكم‌ أن‌ يولّي‌ كلّ قوم‌ ما كانوا يتولّون‌ في‌ دار الدنيا؟ فيقولون‌: بلي‌، وأي‌ّ شي‌ء عدل‌ غيره‌؟ قال‌: فيقوم‌ الشيطان‌ الذي‌ أضلّ فرقةً من‌ الناس‌ حتّي‌ زعموا أنّ عيسي‌ هو الله‌ وابن‌ الله‌ فيتبعونه‌ إلی النار؛ ويقوم‌ الشيطان‌ الذي‌ أضلّ فرقةً من‌ الناس‌ حتّي‌ زعموا أنّ عُزيراً ابن‌ الله‌ حتّي‌ يتبعونه‌ إلی النار؛ ويقوم‌ كلّ شيطان‌ أضلّ فرقةً فيتبعونه‌ إلی النار، حتّي‌ تبقي‌ هذه‌ الاُ مّة‌، ثمّ يخرج‌ منادٍ من‌ عند الله‌ فيقول‌: يَا مَعْشَر الخَلاَئِق‌! أليس‌ العدل‌ من‌ ربّكم‌ أن‌ يولّي‌ كلّ فريق‌ من‌ كانوا يتولّون‌ في‌ دار الدنيا؟ فيقولون‌: بلي‌.

 فيقوم‌ شيطان‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ثمّ يقوم‌ شيطان‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ثمّ يقوم‌ شيطان‌ ثالث‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ثمّ يقوم‌ معاوية‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ويقوم‌ علی فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ثمّ يزيد بن‌ معاوية‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ويقوم‌ الحسن‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ويقوم‌ الحسين‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ثمّ يقوم‌ مروان‌ بن‌ الحكم‌ وعبدالملك‌ فيتبعهما من‌ كان‌ يتولاّهما، ثمّ يقوم‌ علی بن‌ الحسين‌ فيتبعه‌ مَن‌ كان‌ يتولاّه‌، ثمّ يقوم‌ الوليد بن‌ عبد الملك‌ ويقوم‌ محمّد بن‌ علی فيتبعهما مَن‌ كان‌ يتولاّهم‌، ثمّ أقوم‌ أنا فيتبعني‌ من‌ كان‌ يتولاّني‌، وكأ نيّ بكما ( أي‌ خيثمة‌ الجعفي‌ّ ومفضّل‌ بن‌ عمر الجُعفي‌ّ) معي‌، ثمّ يؤتي‌ بنا فنجلس‌ علی عرش‌ ربّنا ويؤتي‌ بالكتب‌ فنرجع‌ فنشهد علی عدوّنا ونشفع‌ لمن‌ كان‌ من‌ شيعتنا مرهقاً.

 قال‌: قلت‌: جُعلت‌ فداك‌؛ فما المرهق‌؟ قال‌: المذنب‌؛ فأمّا الذين‌ اتّقوا من‌ شيعتنا فقد نجّاهم‌ الله‌ بمفازتهم‌ لايمسّهم‌ السوء ولا هم‌ يحزنون‌. قال‌: ثمّ جاءته‌ جارية‌ له‌ فقالت‌: إنّ فلاناً القرشيّ بالباب‌، فقال‌ ائذنوا له‌، ثمّ قال‌ لنا: اسكتوا. [40]

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ من‌ أدعية‌ الإمام‌ زين‌ العابدين‌ عليه‌ السلام‌ التي‌ كان‌ يكرّرها في‌ سجوده‌.

[2] ـ يقول‌: «لن‌ نتّخذ من‌ قِبلةٍ إلاّ دربك‌؛ وإن‌ لم‌ تَرْعَنا، فمن‌ عساه‌ يرعانا؟

 فأعنّا يا مؤنس‌ المغمومين‌، وفرّج‌ عنّا يا مفرّجاً عن‌ المساكين‌.

 واعفُ عن‌ جُرمنا، فقد سألناك‌، ونَجِّنَا فقد لُذنا بحماك‌.

 فرِّج‌ عنّا، فليس‌ لنا ـ سواك‌ ـ مِن‌ معين‌؛ ولو طردتَنا فإلي‌ مَن‌ نقصد؟».

[3] ـ استشهد المرحوم‌ المحدّث‌ القمّي‌ّ بهذه‌ الابيات‌ الشعريّة‌ العربيّة‌ والفارسيّة‌ في‌ كتابه‌ «نفثة‌ المصدور» ص‌ 17 و 18، الطبعة‌ الحجريّة‌، ضمن‌ أحوال‌ أصحاب‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌.

 يقول‌: «يا من‌ بابُك‌ مقصدنا وبُغيتنا، وطلعتُك‌ شاهدنا ومشهودنا.

 غمّك‌ الحاضر نبع‌ كلّ سرور وجذل‌، وأسرك‌ ورقّك‌ خير من‌ كلّ انعتاق‌.

 دربُك‌ محفل‌ قلبنا الولهان‌، ومسكننا ومنزلنا ومأوانا.

 إنّ حبّك‌ مكنون‌ ضميري‌، وتراب‌ فِنائك‌ مهدي‌ وسريري‌».

[4] ـ يقول‌: «يا من‌ غمك‌ أفضل‌ من‌ جذل‌ الاحباب‌، وألمُك‌ أفضل‌ من‌ ترياق‌ الاصحاب‌.

 جبل‌ غمّك‌ صدري‌ الفسيح‌ كسيناء، ونور إبصار عيني‌ وناظري‌».

[5] ـ الآية‌ 86، من‌ السورة‌ 43: الزخرف‌.

[6] ـ الكتاب‌ مؤلّف‌ زمن‌ حياة‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ قدّس‌ سرّه‌، وقد حافظنا علی تعبير المؤلّف‌.(م‌)

[7] ـ ضُمّت‌ هذه‌ الرسالة‌ إلی ستّ رسائل‌ أُخري‌ تتحدّث‌ عن‌ ذات‌ الله‌ وأسمائه‌ وأفعاله‌، وعن‌ الاءنسان‌ قبل‌ الدنيا، وفي‌ الدنيا، وبعد الدنيا؛ وجُمعت‌ في‌ مجموعة‌ واحدة‌ عُرفت‌ باسم‌ «الرسائل‌ السبع‌ التوحيديّة‌» للعلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ.

 ولم‌ تُطبع‌ هذه‌ الرسائل‌ لحدّ الآن‌، إلاّ أ نّني‌ استنسختها علی النسخة‌ الخطّيّة‌ للعلاّمة‌ خلال‌ انشغالي‌ بتحصيل‌ العلوم‌ الدينيّة‌ في‌ بلدة‌ قم‌ الطيّبة‌.

[8] ـ الآيتان‌ 53 و 54، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[9] ـ صدر الآية‌ 48، والآية‌ 116، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[10] ـ الآية‌ 28، من‌ السورة‌ 57: الحديد.

[11] ـ الآية‌ 9، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[12] ـ الآية‌ 35، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[13] ـ الآيتان‌ 15 و 16، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[14] ـ الآية‌ 64، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[15] ـ الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 40: المؤمن‌.

[16] ـ الآية‌ 5، من‌ السورة‌ 42: الشوري‌.

[17] ـ الآية‌ 286، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[18] ـ الآية‌ 255، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[19] ـ الآية‌ 23، من‌ السورة‌ 34: سبأ.

[20] ـ الآية‌ 109، من‌ السورة‌ 20: طه‌.

[21] ـ الآية‌ 39، من‌ السورة‌ 78: النبأ.

[22] ـ الآية‌ 86، من‌ السورة‌ 43: الزخرف‌.

[23] ـ الآية‌ 255، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[24] ـ الآية‌ 109، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[25] ـ الآية‌ 87، من‌ السورة‌ 19: مريم‌.

[26] ـ الآية‌ 4، من‌ السورة‌ 32: السجدة‌.

[27] ـ الآية‌ 23، من‌ السورة‌ 34: سبأ.

[28] ـ الآية‌ 3، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[29] ـ الآية‌ 4، من‌ السورة‌ 32: السجدة‌.

[30] ـ الآيتان‌ 41 و 42، من‌ السورة‌ 44: الدخان‌.

[31] ـ الآيتان‌ 156 و 157، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[32] ـ الآية‌ 107، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

[33] ـ الآية‌ 16، من‌ السورة‌ 45: الجاثية‌.

[34] ـ الآية‌ 78، من‌ السورة‌ 17: الاءسراء.

[35] ـ الآية‌ 2، من‌ السورة‌ 1: الحمد.

[36] ـ الآية‌ 5، من‌ السورة‌ 93: الضحي‌.

[37] ـ «تفسير القمّيّ» ص‌ 539.

[38] ـ «محاسن‌ البرقي‌ّ» ج‌ 1، ص‌ 183.

[39] ـ الغُرْل‌: جمع‌ الاغرل‌ وهو الاقلف‌ غير المختون‌.

[40] ـ «تفسير العيّاشي‌ّ» ج‌ 2، ص‌ 310 إلی 314؛ وفي‌ نسخة‌ «البحار» ج‌ 8، ص‌ 47: فيجلس‌ علی العرش‌ ربُّنا.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com