|
|
الصفحة السابقةالعهد: هو الإيمان بالله والإقرار بالولايةونحن نعلم أنّ المجرم هو الذي ليس له إيمان ولا عمل صالح، سواءً كان لميؤمن من قبل أبداً، أم آمن ولم يعمل عملاً صالحاً. لذا فإنّ بعض المجرمين هم علی الدين الحقّ، إلاّ أ نّهم لم يعملوا عملاً صالحاً، وهم الذين اتّخذوا عند الله عهداً، وجري استثناؤهم في آية: لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـ'نِ عَهْدًا. أمّا عهد الله سبحانه، فقد بيّنته الآية الكريمة: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـ'بَنِي´ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـ'نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـ'ذَا صِرَ'طٌ مُّسْتَقِيمٌ؛ [1] حيث إنّ جملة: أَنِ اعْبُدُونِي عهد، وهو الامر. فيكون معناه: أطيعوا أمري. وجملة: هَـ'ذَا صِرَ ' طٌ مُّسْتَقِيمٌ، عهد، بمعني الالتزام، ويعني: التزموا بالصراط المستقيم، صراط الهداية والسعادة والنجاة. ومن هنا، فإنّ ذنوب المجرمين الذين قبلوا بعهد الله تعالی ولميعملوا عملاً صالحاً ستقودهم إلی جهنّم؛ ولكونهم قد آمنوا بالله وقبلوا عهده فانّهم سيخرجون من جهنّم بواسطة الشفاعة. ويشير قوله تعالی إلی عهد الله: وَقَالُوا ( والقول لليهود ) لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ اتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَهِ عَهْدًا. [2] أي أنّ الذين اتّخذوا عند الله عهداً سوف يخرجون من النار ولنيمكثون فيها إلاّ قليلاً. وهذا هو مضمون ما ذكرنا من أن المشمولين بالشفاعة في يوم القيامة هم أصحاب الكبائر ممّن يدينون بدين الحقّ الذين ارتضي الله تعالی دينهم. قال الشيخ الطبرسيّ في ذيل الآية وَ لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـ'نِ عَهْدًا: أي لا يقدرون علی الشفاعة، فلايشفعون ولايشفع لهم حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض، لانّ ملك الشفاعة علی وجهينِ: أحدهما أن يشفع للغير، والآخر أن يستدعي الشفاعة من غيره لنفسه؛ فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفّار لا تنفذ شفاعة غيرهم فيهم، ولاشفاعة لهم لغيرهم. ثمّ استثني سبحانه فقال: إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـ'نِ عَهْدًا. أي لايملكون الشفاعة إلاّ هؤلاء. وقيل لا يشفع إلاّ لهؤلاء؛ والعهد هو الإيمان والإقرار بواحدانيّة الله تعالی وتصديق أنبيائه، وقيل هو شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن يتبرّأ إلی الله من الحول والقوّة ولا يرجو إلاّ الله، عن ابنعباس. وقيل معناه لايشفع إلاّ من وعد له الرحمن بإطلاق الشفاعة كالانبياء والشهداء والعلماء والمؤمنين علی ما ورد به الاخبار. كيفيّة الوصيّة عند الاحتضار وقال علی بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: حدّثني أبي عنالحسن ابنمحبوب، عن سليمان بن جعفر، عن أبي عبدالله عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّي الله عليه وآله: مَنْ لَمْ يُحْسِنُ وَصِيَّتَهُ عِنْدَ المَوْتِ كَانَ نَقْصاً فِي مُرُوءَتِهِ؛ قِيلَ: يَا رَسُولُ اللَهِ! وَكَيْفَ يُوصِي المَيِّتُ؟! قَالَ: إذَا حَضَرَتْهُ وَفَاتُهُ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إلَيْهِ قَالَ: اللَهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ؛ إنِّي أَعْهَدُ إلَيْكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا أَ نِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَنَّ الجنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ البَعْثَ حَقٌّ وَالحِسَابَ حَقٌّ وَالقَدْرَ وَالمِيزَانَ حَقٌّ، وَأَنَّ الدِّينَ كَمَا وَصَفْتَ، وَأَنَّ الإسلام كَمَا شَرَعْتَ، وَأَنَّ القَوْلَ كَمَا حَدَّثْتَ وَأَنَّ القُرْآنَ كَمَا أَنْزَلْتَ، وَأَ نَّكَ أَنْتَ اللَهُ الحَقُّ المُبِينُ، جَزَي اللَهُ مُحَمَّداً عَنَّا خَيْرَ الجَزاءِ، وَحَيَّا اللَهُ مُحَمَّداً وَآلَهُ بِالسَّلاَمِ. اللَهُمَّ يَا عُدَّتِي عِنْدَ كُرْبَتِي، وَيَا صَاحِبِي عِنْدَ شِدَّتِي، وَيَا وَلِيَّ نِعْمِتي، وَإلَهي وَإلَهَ آبَائِي لاَ تَكِلْنِي إلی نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإنَّكَ إنْ تَكِلْنِي إلی نَفْسِي أَقْرَبْ مِنَ الشَّرِّ وَأَبْعَدْ مِنَ الخَيْرِ، وَآنِسْ فِي القَبْرِ وَحْشَتِي، وَاجْعَلْ لِي عَهْداً يَوْمَ أَلْقَاكَ مَنْشُوراً. ثُمَّ يُوصِي بِحَاجَتِهِ؛ وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الوَصِيَّةِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ: «وَلاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـ'نِ عَهْدًا». فَهَذَا عَهْدُ المَيِّتِ. وَالوَصِيَّةُ حَقٌّ علی كُلِّ مُسْلِمٍ؛ وَحَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ هَذِهِ الوَصِيَّةَ وَيُعَلِّمَهَا. وَقَالَ أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ علی عَلَيْهِ السَّلاَمُ: عَلَّمَنِيهَا رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: عَلَّمَنِيهَا جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. [3] المراد بالارتضاء لدي المشفوع لهم: الارتضاء في الدين لا العملروي المرحوم الصدوق في « الامالي » و « عيون أخبار الرضا » بسند واحد عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن عليّبن معبد، عن الحسين بن خالد، عن الإمام عليّ بن موسي الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن أميرالمؤمنين عليه السلام، قال: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِحَوْضِي فَلاَ أَوْرَدَهُ اللَهُ حَوْضِي؛ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَفَاعَتِي فَلاَ أَنَالَهُ اللَهُ شَفَاعَِتِي؛ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إنَّمَا شَفَاعَتِي لاِهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتِي، فَأَمَّا المُحْسِنُونَ فَمَا عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ. قَالَ الحُسَيْنُ بْنُ خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِلرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَابْنَ رَسُولِاللَهِ! فَمَا مَعْنَي قَوْلِ اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي'»؟! قَالَ: لاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي اللَهُ دِينَهُ. [4] روي علی بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد، عن عبداللهبن موسي، عن الحسنبن عليّ، عن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبيعبدالله ( الصادق) عليه السلام في تفسير قوله تعالی: لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَـ'عَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ اللَهِ عَهْدًا. قَالَ: لاَ يَشْفَعُ وَلاَ يُشْفَعُ وَلاَ يُشَفَّعُ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً إلاَّ مَن أُذِنَ لَهُ بِوَلاَيَةِ علی أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَالاَئِمَّةِ مِن بَعْدِهِ، فَهُوَ العَهْدُ عِنْدَ اللَهِ. وروي الصدوق في « الامالي » عن محمّد بن موسي بن المتوكّل، عن محمّدبن يحيي العطّار، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن النضربن شعيب، عن خالد القلانسيّ، عن أبي عبد الله ( الصادق ) عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إذَا قُمْتُ المَقَامَ المَحْمُودَ تَشَفَّعْتُ فِي أصْحَابِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي، فَيُشَفِّعُنِي اللَهُ فِيهِمْ؛ وَاللَهِ لاَ تَشَفَّعْتُ فِيمَنْ آذَي ذُرِّيَّتِي. [5] الشيعة مشمولون بالشفاعةوروي الشيخ الطوسيّ في « الامالي » عن الفحّام، عن المنصوريّ، عن عمّ أبيه، عن أبي الحسن علی بن محمّد العسكريّ، عن آبائه عليهم السلام، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَم: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّي اللَهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إذَا حُشِرَ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، نَادَانِي مُنَادٍ: يَا رَسُولُ اللَهِ! إنَّ اللَهَ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ أَمْكَنَكَ مِن مُجَازَاةِ مُحِبِّيكَ وَمُحِبِّي أَهْلِ بَيْتِكَ المُوَالِينَ لَهُمْ فِيـكَ وَالمُعَادِينَ لَهُـمْ فِيكَ، فَكَافِهِـمْ بِمَا شِـئْتَ! فَأَقُولُ: يَا رَبِّ الجَنَّةَ! فَأُبَوَّأُهُمْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُ، فَذَلِكَ المَقَامُ المَحْمُودُ الَّذِي وُعِدْتُ بِهِ. [6] كما روي الشيخ الطوسيّ في « الامالي » عن الحفّار، عن إسماعيلبن علی الدعبليّ، عن محمّد بن إبراهيم بن كثير، قال: دخلنا علی أبينؤاس الحسنبن هاني نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له عيسيبن موسي الهاشميّ: يا أبا عليّ! أنت في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة، وبينك وبين الله هنات، فتُبْ إلی الله ( عزّ وجلّ ). قال أبو نؤاس: أسندوني! فلمّا استوي جالساً، قال: إيّاي تخوّف بالله، وقد حدّثني حمّاد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن أنسبن مالك، قال: قال رسولالله صلّي الله عليه وآله وسلّم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ شَفَاعَةٌ، وَأَنَا خَبَّأْتُ شَفَاعَتِي لاِهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ»! أَفَتَرَي لاَ أَكُونُ مِنْهُمْ؟! [7] وروي مؤلّف « بشارة المصطفي » في كتابه، بسلسلة سنده المتّصل عن الإمام علی بن موسي الرضا عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، قال: أَرْبَعَةٌ أَنَا لَهُمْ شَفِيعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ: المُكْرِمُ لِذُرِّيَّتِي؛ وَالقَاضِي لَهُمْ حَوَائِجُهُمْ؛ وَالسَّاعِي فِي أُمُورِهِمْ عِنْدَمَا اضْطُرُّوا إلَيْهِ؛ وَالمُحِبُّ لَهُمْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. [8] وقال الصدوق في « الاعتقادات »: اعْتِقَادُنَا فِي الشَّفَاعَةِ أَ نَّهَا لِمَنِ ارْتُضِيَ دِينُهُ مِنْ أَهْل الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؛ فَأَمَّا التَّائِبُونَ مِنَ الذُّنُوبِ فَغَيْرُ مُحْتَاجِينَ إلی الشَّفَاعَةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَفَاعَتِي فَلاَ أَنَالَهُ اللَهُ شَفَاعَتِي. [9] وروي الصدوق في كتاب « فضائل الشيعة » بسنده عن أبي عبدالله (الصادق ) عليه السلام، قال: إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَشْفَعُ فِي المُذْنِبِ مِنْ شِيعَتِنَا؛ فَأَمَّا المُحْسِنُونَ فَقَدْ نَجَّاهُمُ اللَهُ. [10] وروي فرات بن إبراهيم الكوفيّ في تفسيره مُعنعناً عن الإمام الصادق عن الإمام الباقر عليهما السلام، قال: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا وَفِي شِيعَتِنَا: «فَمَا لَنَا مِن شَـ'فِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ»؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَهَ يُفَضِّلُنَا وَيُفَضِّلُ شِيعَتَنَا، حَتَّي أَنَا لَنَشْفَعُ وَيَشْفَعُونَ؛ فَإذَا رَأَي ذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالُوا: فَمَا لَنَا مِن شَـْفِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ. [11] وروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ عن عدّة من الاصحاب، عن سهل، عن ابن سنان، عن سعدان، عن سماعة، قال: كُنْتُ قَاعِداً مَعَ أَبِي الحَسَنِ الاَوَّلِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَالنَّاسُ فِي الطَّوَافِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ؛ فَقَالَ: يَا سَمَاعَةُ! إلَيْنَا إيَابُ هَذَا الخَلْقِ، وَعَلَيْنَا حِسَابُهُمْ؛ فَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ ذَنْبٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَمْنَا علی اللَهِ فِي تَرْكِهِ لَنَا، فَأَجَابَنَا إلی ذَلِكَ؛ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ اسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْهُمْ وَأَجَابُوا إلی ذَلِكَ، وَعَوَّضَهُمُ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ. [12] وروي الصدوق في « علل الشرايع » بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ بَعَثَ اللَهُ العَالِمَ وَالعَابِدَ؛ فَإذَا وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَي اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ قِيلَ لِلْعَابِدِ: انْطَلِقْ إلی الجَنَّة؛ وَقِيلَ لِلْعَالِمِ: قِفْ تَشَفَّعْ لِلنَّاسِ بِحُسْنِ تَأْدِيبِكَ لَهُمْ. [13] حساب الشيعة علی أئمّتهم روي صاحب « كنز جامع الفوائد » بإسناده المتّصل عن محمّدبن جعفربن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام في تفسير الآية الشريفة: «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ»؛ قَالَ: إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ وَكَلَنَا اللَهُ بِحِسَابِ شِيعَتِنَا؛ فَمَا كَانَ لِلَّهِ سَأَلْنَاهُ أَن يَهَبَهُ لَنَا فَهُوَ لَهُمْ؛ وَمَا كَانَ لِمُخَالِفِيهِمْ فَهُوَ لَهُمْ؛ وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: هُمْ مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا. [14] كما روي في « كنز جامع الفوائد » عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل عن تفسير الآية الكريمة السالفة الذكر، فقال: إذَا حَشَرَ اللَهُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، أَجَّلَ اللَهُ أَشْيَاعَنَا أَنْ يُنَاقِشَهُمْ فِي الحِسَابِ، فَنَقُولُ: إلَهَنَا هَؤُلاَءِ شِيعَتُنَا! فَيَقُولُ اللَهُ تعالی: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرَهُمْ إلَيْكُمْ، وَقَدْ شَفَّعْتُكُمْ فِيهِمْ وَغَفَرْتُ لِمُسِيئَهِمْ؛ أَدْخِلُوهُمْ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. [15] وروي في نفس الكتاب بإسناده المتّصل عن جميل، قال: قلتُ لابيالحسن ( موسي بن جعفر ) عليه السلام: أُحدّثهم بتفسير جابر؟ قال: لا تحدّث به السفلة فيوبّخوه؛ أما تقرأ: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ؟ قلتُ: بلي. قال: إذا كان يوم القيامة وجمعالله الاوّلين والآخرين، ولاّنا حساب شيعتنا، فما كان بينهم وبين الله حكمنا علی الله فيه فأجاز حكومتنا؛ وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم فوهبوه لنا؛ وما كان بيننا وبينهم فنحن أحقّ مَن عفا وصفح. [16] وروي الصدوق نظير هذه الرواية في « عيون أخبار الرضا » بسنده المتّصل عن داود بن سليمان، عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام. [17] وفي كتابَي الحسين بن سعيد، بسنده عن ابن أبي عُمير، عن عبدالرحمنبن الحجّاج، عن الاحول، عن حمران، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (البَاقِرَ) عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: إِنَّ الكُفَّارَ وَالمُشْرِكِينَ يَرَوْنَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ فَيَقُولُونَ: مَا نَرَي تَوْحِيدَكُمْ أَغْنَي عَنْكُمْ شَيْئاً، وَمَا أَنْتُمْ وَنَحْنُ إلاَّ سَوَاءٌ. قَالَ: فَيَأْنَفُ لَهُمُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ لِلْملاَئِكَةِ: اشْفَعُوا! فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَهُ؛ وَيَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ حَتَّي إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ تَبْلُغُهُ الشَّفَاعَةُ قَالَ اللَهُ تَبَارَكَ وَتعالی: أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ أُخْرُجُوا بِرَحْمَتِي! فَيخْرُجُونَ كَمَا يَخْرُجُ الفَرَاشُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ثُمَّ مَدَّتِ العَمَدُ وَأَعْمِدَتْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ـ وَاللَهِ ـ الخُلُودُ. [18] بحث تحليليّ في حقيقة الشفاعةيستنتج من مجموع هذه الروايات المستفيضة، بل المتواترة معنويّاً، أنّ الجنّة هي مأوي أصحاب الفطرة السليمة والعقائد النزيهة، وأنّ النار هي مثوي أصحاب السيرة السيّئة والعقائد الرديّة؛ وأنّ فعل الحسنات واجتناب السيّئات أمر ضروريّ لحصول طهارة النفس ونزاهة القلب وصفاء النيّة والعقيدة. وبغير ذلك فإنّ الاعمال الحسنة لن تثمر شيئاً ما لم تمسّ القلب وتطهّر النفس، كما أنّ الاعمال السيّئة لو صدرت من صاحب النفس الطيّبة الطاهرة بصورة متقطّعة غير متعاقبة، لما أدّت إلی تعكير تلك النفس وتدنّسها، حيث ستزول آثار تلك الذنوب بالتوبة أو بالشفاعة أو بالتعرّض للعقوبات الإلهيّة، فتطلع حقيقة النفس الصافية من جديد. إنّ أعمالنا الحسنة لن تغني الله شيئاً، وإن أعمالنا السيّئة لنتضرّه شيئاً. وليست هذه الاوامر والنواهي والمحلّلات والمحرّمات بأجمعها إلاّ مقدّمة لتزكية نفوسنا وتطهير أسرارنا: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ'هَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ'هَا [19] فإذا حصلت تزكية النفس من خلال العبادة والعمل الصالح، فقد تحقّقت النتيجة المتوخّاة؛ وإن لم تحصل التزكية، كان تكرار العبادة صورة جوفاء لاتؤدّي إلی ارتقاء النفس وصعود الروح إلی مدارج الكمال. فما أقبح أن نجعل ميزان السعادة نفسَ العمل الصالح، ونغفل عن الإيمان والعقيدة والنيّة والطهارة! وكم هو ذميم أن نعدّ أدني خطأ في العمل ميزاناً للقبح، ومدعاة للعقاب، ونغضّ طرفاً عن حسن العقيدة وطهارة النيّة وصفاء الضمير! إنّ العقيدة حين تكون حسنةً، والنفس طاهرةً، فسوف تعجز الخطايا والذنوب في أن تترك آثاراً عميقة علی الروح. وحين تكون العقيدة سيّئة، والنفس خبيثة، فإنّ الاعمال الصالحة والسلوك الحسن سوف لنيُخلّفا علی الروح ذات الاعمال الكدرة إلاّ آثاراً سطحيّة طفيفة. ذلك لانّ الظاهر الحسن لن يحتلّ بهذا العنوان موقعاً ما في عالم الحقائق والواقعيّات؛ وسرعان ما سيزول هذا الظاهر، فتطلع النفس الخبيثة بصورة جهنميّة متّقدة ذات ألسنة رهيبة من اللهب. وفي المقابل، فالظاهر المذموم والسيرة القبيحة للبعض من ذوي النفوس الحسنة والعقائد الصالحة، سوف لن تصمد أمام عالم ظهور الحقائق. وسينهار كلّ ذلك ويتلاشي بأدني سبب، كشدّة الاحتضار والنزع، أو بعذاب القبر، أو بالشفاعة يوم القيامة، فتطلع النفس الطيّبة الطاهرة في صورتها البشوشة الخاصّة بالجنّة، مبشّرة بنسائمها اللطيفة بالاصالة والواقعيّة. ليس هناك من كبير قلق من الذنب، إذ قد وُعد بغفران الذنوب: إِنَّ اللَهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ [20] بل الخوف ـ كلّ الخوفـ من فساد الباطن، ذلك الفساد الذي لا يُتسامَح بشأنه مطلقاً. وإنّما كانت المجاهدة من أجل تصيفة الباطن، لا من أجل إعادة طلاء جدار متهرّي متهدّم. إنّ العمل السيّي الصادر من امري ذي باطن جميل، وعقيدة وإيمان راسخينِ أشبه بالزبد الذي يعلو الماء الصافي إثر تلاطم أمواج الشهوة أو الغضب، ثمّ لايلبث أن يتلاشي: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الاْرْضِ. [21] أمّا ذلك الماء الصافي الطاهر فلا زوال له ولا اضمحلال، وهو موجود علی الدوام في تلالؤ وبرِيق، يسقي الارواح الظمأي الصادية. وفي المقابل، فالعمل الحسن الصادر من الشخص الردي ذي الفطرة الخبيثة والباطن السيّي والإيمان الفاسد والوجدان المتزعزع أشبه بالرماد الابيض البارد ذي اللون الجميل، حين يعلو الجمر المتّقد إثر تموّج الهواء، أمّا حقيقة النار فتبقي ناراً محرقة. وسرعان ما يتطاير الرماد بأيسر هبّة نسيم، فتتجلّي تلك النار في حقيقتها المحرقة التي تشعل البيت وتهدم الملجأ والمأوي. فهل علی المرء أن يخاف من الزَّبَد الذي يعلو الماء؟ وهل يُسَرُّ حقّاً بمثل هذا الرماد؟ أبداً... أبداً. مثال لمأمورَينِ أحدهما حسن الطويّة والآخر حسن السلوك افرضوا أنّ رجلاً كان له غلامان، أحدهما كيّس فطن مطيع شغول، يطيع مولاه وينفّذ تعليماته حرفيّاً ولا يتخطّاها أبداً، فهو ينهض كلّ صباح فيكنس الدار ويرشّ فناءها بالماء، ثمّ يزيل الغبار عن جدرانها، ثمّ يرتدي ملابسه في أدب ويُنجز كلّ ما كُلّف به من أعمال في داخل البيت وخارجه. إلاّ أنّ هذا الغلام في حقيقة الامر لصّ خائن، لا نّه يترصّد موت صاحب الدار أو سفره، ليخونه في حريم منزله، أو ليعتدي علی أطفاله ويسرق أمواله، أو لينصب نفسه مالكاً للدار، ناوياً في قرارة نفسه تزوير إمضاء صاحب الدار وخاتمه، والتظاهر بأ نّه صاحب تلك الدار ومالكها. أمّا الثاني فغلام يحبّ مولاه ويكنّ الودّ لحريمه وأطفاله؛ وهو شخص أمين لايفكّر في الخيانة حتّي في نومه. ولو لمح وجه مولاه، لاغرورقت عيناه بالدموع مودّةً؛ ولو أصاب قدم طفل مولاه شوكة؛ لتعكّر صفو روحه. فهو يحبّ أطفال مولاه، ويرجو أن يبقي ذلك المولي سالماً معافي، وأن تبقي داره عامرة؛ إلاّ أ نّه قد يضعف وقد يتكاسل فيبقي راقداً دون أن يكنس الدار، ودون أن يلقي سطل القمامة إلی الزبّال. فأيّ الخادمينِ أجدر بالاحترام؛ وأيّهما أعزّ مقاماً عند مولاه؟ إنّ هذا المولي يعيش في قلق واضطراب من غلامه الاوّل، لا نّه يخشي خيانته علی الدوام نظراً لامتلاكه نفساً شريرة، لكنّه في أمان من غلامه الثاني، فهو يسافر ويغيب عن داره دون أن يتسرّب إلی نفسه القلق والاضطراب. وبهذا يتّضح مفاد جميع هذه الروايات، التي تشير إلی أنّ الإيمان الصحيح والعقيدة الراسخة، والنيّة النزيهة، وحبّ الدين وأوليائه هي معيار السعادة والتقرّب وقبول الاعمال؛ وأنّ العقيدة الفاسدة والنيّة المدنّسة والإيمان المشوب المعكّر، وفقدان الحبّ للدين وأولياء الدين هي معيار الشقاء وحبط الاعمال وضلالها. أجل، لو واجه شخص ما رسول الله وحاججه عن عدم إطاعته لاوامراه باحترام من صميم قلبه وروحه، فما الذي سيحصل عليه من صلاته وصيامه وزهده في الملبس؟ إذ إنّ أمثال تلك الاُمور لا تعدو أن تكون في حقيقتها إلاّ لهواً ولعباً لا معني له. ولو أطاع شخص ما رسول الله إطاعة محضة، وأكنّ الاحترام له ولاهل بيته وخاصّته والمقرّبين إليه، ونظر إليهم نظر إعزاز وإكرام؛ فأيّ ضرر سيُوقعه به ذنب صغير لحقّه من شهوة طارئة، دون أن يكون في الامر إنكار واستكبار وحجود؟ بهذا ينفتح أمامنا باب من المعارف الإلهيّة الدينيّة، فنلج في عالم جديد من العلم من خلال إدراك هذه الحقائق. إنّ المحبّة تهب الروح نشاطاً وحياةً جديدة، وتجعل عمل المحبوب للمحبّ خالصاً، وتصهر روح الحبيب والمحبوب في بوتقة واحدة. المحبّة تستدعي المعيّة، وتستدعي في علم النفس ـكما هو الشأن في خاصيّة الاواني المستطرقة في علم الفيزياءـ توحيد مستويات الافكار والعلوم والعقائد والإيمان لدي الافراد المختلفين. ومن ثمّ فإنّ الشفاعة تختصّ بأهل المحبّة لا بأهل العداوة، وتختصّ بالشيعة لابالنواصب. [22] الشفاعة تحرق بيدر المعاصي الكبيرة بومضة واحدة لانجذابٍ روحيّ مغناطيسيّ؛ فأين ستكون المعصية حينذاك؟ الشفاعة تبدّل السيّئات حسنات؛ فأين ستكون أشواك الذنب والعصيان في هذا الواديّ؟ أجل، إنّ الشفاعة؛ شأنها شأن العمل الصالح؛ تبدّل الذنب إلی حسنة، والعصيان إلی طاعة، وتُحيل المجرم مطيعاً ممتثلاً: إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ'لِحًا فَأُولَـ'ئِكَ يُبَدِّلُ اللَهُ سَيـّـَاتِهِمْ حَسَـنَـ'تٍ. [23] وكما يسبّب العمل الصالح تقوية روح الإنسان، وصعودَ الكلم الطيّب، وارتقاء روح الإنسان الطاهرة إلی الله تعالی، في قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّـيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ؛[24] فإنّ الشفاعة أيضاً تسبّب ارتقاء الكلم الطيّب إلی الله تعالی. والكلم الطيّب هو إيمان المؤمن الذي ترفعه الشفاعة إلی الله سبحانه. والشفاعة هي خليفة العمل الصالح؛ فهي ـ إذاً ـ التي تُلحق المذنبين بالمحسنين. بَيدَ أ نّها لا تلحق جميع المذنبين، بل تُلحق منهم من آمن بأولياء الدين وارتبط بهم، ومن تأصّرت روحه مع أرواح أولياء الدين بأواصر الانجذاب المغناطيسيّ. الإيمان بالله مِن الله تعالی؛ وحاشاه ما يكون من الله عزّ وجلّ أن يدخل جهنّم أو أن يحترق في أُتونها. والمؤمن كذلك لايمكن أن يكون في جهنّم، ولا أن يحترق في لظاها. وسيستحيل رجس الذنوب الذي يعتريه إثر الشفاعة إلی حسنات. فَأُولَـ'ئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ. [25] والشفاعة تسبّب لحوق مذنبي المؤمنين بصالحيهم، وتسبّب تقوية روح المؤمن ذاته من خلال الإعانة الخارجيّة في رفع الموانع والعقبات، كما تمثّل إزاحة الحجاب بين الحبيب والمحبّ، ذلك الحجاب الذي قد وجد علی إثر حصول أكدار صدأ الكثرة. الشفاعة في حكم الدواء الذي يقوّي الطبيعة الإنسانيّةلو أصاب بدن الإنسان مرض ـ مثلاً ـ فانحرف مزاجه بسببه، كأن تكون قرحة شديدة، فلو كان مزاجه معتدلاً قويّاً وطبيعة بدنه سليمة وأجهزة بدنه الرئيسيّة خالية من العيوب، فإنّه سـيستعيد عافيته تلقائيّاً وسيرتفع ذلك المرض عنه، وتلتئم تلك القرحة من جديد. وفي غير هذه الحالة فإنّ المريض سيحتاج إلی استعمال الدواء، وإلي استخدام المضادّات الحيويّة لمكافحة ميكروبات المرض وإبطال تأثيرها؛ فيكون الدواء في حكم المساعد للبدن في إعادة طبيعته إلی حالها الاوّل من الصحّة، وفي تبديل الموادّ الفاسدة التي تراكمت في البدن إلی موادّ صالحة نافعة تلائم طبيعة ذلك البدن. ومن هنا، فالعامل المؤثّر في الصحّة هو طبيعة البدن؛ وكلّ ما هنالك أنّ تلك الطبيعة قد تعتمد علی نفسها أحياناً فيتماثل البدن للشفاء تلقائيّاً دون الاستعانة بعامل خارجيّ؛ وقد تضعف أحياناً أُخري فتحتاج إلی إعانة لدحر الاعداء والقضاء علی الميكروبات وإعادة الصحّة إلی مسارها الاوّل. ولو كانت طبيعة الروح والنفس الإنسانيّة بعد ارتكاب الذنب قويّة متماسكة، لصار بإمكانها إزالة أثر ذلك الذنب من خلال التوبة والاستحياء من الذنب. أمّا لو لم تكن قويّة بالقدر الكافي، فإنّها ستحتاج إلی الشفاعة، ليمكن لتلك الطبيعة أن تعود بإعانة الشفاعة إلی حالتها الاُولي، وتحتل مرتبتها بين صالحي المؤمنين. ولذا نشاهد أنّ الله سبحانه يعدّ الشفاعة مؤثّرة في لحوق العاصين بالمطيعين وإلحاقهم بهم، ويوكّد في كلامه باستمرار علی أنّ كلّ نفس تنتفع بما كسبت: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. [26] ونراه يعدّ نفس اللحوق والإلحاق من مكتسبات الإنسان، كما يعدّ وجود نفس المؤمن الطيّبة دخيلاً في نيل مكتسبات وأعمال الشخص الملحق بالمؤمن، وفي ظهور أعمال المؤمن في ذلك الملحق، وفي إحلال حسناته محلّ سيّئات الشخص الملحق به. الآيات الدالّة علی لحوق الفروع بالاُصولوالآية الكريمة التالية صريحة جدّاً في إلحاق الذرّيّة العاصية بالآباء المطيعين وفي لحوقهم بهم: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـ'نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ'هُمْ مِن عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ. [27] لحوق المؤمنين بأُصولهم ومن الجليّ أنّ اللحوق والإلحاق لا ينحصران في أصل الإيمان؛ علی افتراض إيمان الذرّيّة أيضاً؛ بل هو لحوق في الاعمال. أي أنّ حسنات الآباء تُعطي إلی ذرّيّتهم الملحقين بهم، فيصار إلی إنزال الابناء في مرتبة أُولئك الآباء. والشاهد علی ذلك قوله: وَمَا أَلَتْنَـ'هُم مِّن عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ. أي أنّنا لن نقلّل من عمل الآباء وحسناتهم شيئاً بعد الإلحاق، ولننقسّم حسناتهم بينهم وبين ذرّيّتهم، بل سنعطي نظير أعمال الآباء الصالحة إلی ذرّيّتهم وأبنائهم مع بقاء تلك الاعمال ثابتة للآباء وهذه هي حقيقة اللحوق والإلحاق. ثمّ يقول: كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ؛ أي أنّ نفس هذا اللحوق والإلحاق يحصل إثر طهارة ذوات الذرّيّة وعقائدها المنزّهة وإيمانها ونواياها الخالصة الموجب لإلحاق الذرّيّة بعمل آبائهم وأجدائهم. وبما أنّ هذه العقائد والإيمان والخلوص والنوايا الطاهرة هي من مكتسبات الذرّيّة، فإنّ محو سيّئاتهم ووضع حسنات الآباء محلّها ناجم من كسب تلك الذرّيّة ومرهون بذلك الكسب. وبهذا يتّضح بجلاء أنّ الإيمان يسبّب اتّصال الادني بالاعلي؛ وأنّ ذلك الإيمان سيزيل العقبات التي قد تعترض مسيرة التساوي في الدرجات والمقامات، وصولاً إلی جعل الطرفين في مرتبة واحدة. وهذا هو حاصل الشفاعة التي توجب لحوق المشفوع له بالشافع، وتسبّب إصلاح السيّئات وتبديلها بالحسنات. أوَ لا نري أ نّه تعالی يقول: أُولَـ'ئِكَ يُبَدِّلُ اللَهُ سَيّـَاتِهِمْ حَسَنَـ'تٍ؟ فلو لميكن هناك أصل محفوظ بين المُبْدل والمُبْدل منه، فإنّ التبديل سيفقد معناه حينئذٍ، بل سيكون إعداماً للمُبدل وإيجاداً للمبدل منه؛ وذلك الاصل المحفوظ هو الإيمان والعقيدة والولاية والمحبّة والارتباط. فالشفاعة ـ إذاً ـ هي نوع من التصرّف الخاصّ في الاعمال، بحيث يبدّل تلك الاعمال مع حفظ أصل ثابت في الحالينِ، وهو أصل الإيمان والولاية. الآيات الواردة في لحوق الكافرين بأعمال أسلافهم ولدينا في مجال اللحوق والإلحاق شواهد كثيرة، فقد خاطب الله تعالی في قرآنه الكريم بني إسرائيل، ولامهم علی أفعال آبائهم وأسلافهم؛ كما في: وَإِذْ قُلْتُمْ يَـ'مُوسَي' لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّي' نَرَي اللَهَ جَهْرَةً. [28] و: وَإِذْ قُلْتُمْ يَـ'مُوسَي' لَن نَّصْبِرَ عَلَي' طَعَامٍ وَاحِدٍ. [29] و: إِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ'قَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ. [30] وكثير من الآيات الاُخري التي وردت بسبّب متابعة بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم لآبائهم الذين عاشوا زمن موسي، وبسبب تخلّقهم بنفس العقائد والاخلاق والسلوك، فصاروا كأ نّهم موجود متّصل واحد يمتدّ طرفاه بين ذلك الزمان وهذا الزمان؛ وإذا نظرتم إلی مقاطعه المختلفة لرأيتم شيئاً واحداً. سئل الإمام الرضا عليه السلام: لماذا يُلعن ذراري بني أُميّة الذين أخلفوا آباءهم، ويُساقون إلی جهنّم، مع أنّ بينهم وبين الجرائم التي ارتكبها آباؤهم أمداً بعيداً؛ فقال: لاِ نَّهُمْ رَضُوا بِفِعَالِ آبَائِهِمْ. [31] وأنتم ترون أنّ الحاكم لو ذهب إلی مدينة أو قرية قد ارتكب بعض أهليها جناية ما والباقون قد رضوا بتلك الجناية، فإنّه سيؤاخذ الجميع، بل قد يعاقبهم جميعاً عليها، مع أ نّهم لم يرتكبوا ذلك العمل بأجمعهم؛ كأن تكون تلك الجريمة من فعل عصابة من اللصوص والجناة المتمرّدين الفارّين؛ لانّ أهل تلك المدينة سيُعدّون ـ برضاهم علی تلك الجريمة وسرورهم بهاـ شركاء فيها، لذا فعليهم تحمّل عقوبة ذلك الرضا. رواية إبراهيم الليثيّ في لحوق المؤمنين والكافرين بأوليائهمومن الاجدر ـ وقد جري بنا الحديث إلی هذه الغايةـ أن نورد رواية أبيإسحاق إبراهيم الليثيّ ومحاورته مع الإمام الباقر عليه السلام، وقد سبق أن ذكرنا قدراً منها في بحثنا المفصّل في إلحاق المؤمنين بأولياء الله وإلحاق المنكرين بأولياء الشيطان، المارّ ذكره في المجلس العاشر من الجزء الثاني من هذا الكتاب « معرفة المعاد » بَيدَ أنّ هذا الحديث الشريف لمّا كان معدوداً في أُسس علم الإيمان والمعارف الإلهيّة، ولانّ التدبّر فيه يفتح للمرء أبواباً من المعارف، فإنّنا سنورده بأكمله في هذا المجال لتتطيَّب الارواح بنور معرفة أولياء الدين وولايتهم، وتُقبر في المزبلة ظُلمة الاهواء والآراء الباطلة الشيطانيّة. يروي المرحوم الشيخ الصدوق عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن أحمد، عن أحمد بن محمّد السيّاريّ، عن محمّد بن عبداللهبن مهران الكوفيّ، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي إسحاق: إبراهيم الليثيّ قال: قلتُ لابي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام: يا بن رسول الله! أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل، هل يزني؟ قال: اللهمّ لا. قلتُ: فيلوط؟ قال: اللهّم لا. قلتُ: فيسرق؟ قال: لا. قلتُ: فيشرب الخمر؟ قال: لا. قلتُ: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال: لا. قلتُ: فيذنب ذنباً؟ قال: نعم، هو مؤمن مذنب ملم. قلتُ: ما معني ملم؟ قال: الملم بالذنب لا يلزمه ولا يصرّ عليه. قال: فقلت: سبحان الله! ما أعجب هذا، لا يزني ولايلوط ولايسرق ولايشرب الخمر ولا يأتي بكبيرة من الكبائر ولافاحشة. فقال: لا عجب من أمر الله؛ إنّ الله تعالی يفعل ما يشاء ولايسئل عمّا يفعل وهم يُسألون. فممّ عجبتَ يا إبراهيم؟ سَلْ ولاتستنكف ولاتستحي، فإنّ هذا العلم لا يتعلّمه مستكبر ولامستحي. قلت: يا بن رسول الله! إنّي أجد من شيعتكم من يشرب الخمر ويقطع الطريق ويُخيف السبل ويزني ويلوط ويأكل الربا ويرتكب الفواحش ويتهاون بالصلاة والصيام والزكاة ويقطع الرحم ويأتي الكبائر، فكيف هذا ولِمَ ذاك؟ فقال: يا إبراهيم! هل يختلج في صدرك شيء غير هذا؟ قلت: نعم يابنرسولالله؛ أُخري أعظم من ذلك. فقال: وما هو يا أبا إسحاق؟ قال: فقلتُ: يا بن رسول الله! وأجد مِن أعدائكم ومناصبيكم مَن يكثر من الصلاة ومن الصيام ويخرج الزكاة ويتابع بين الحجّ والعمرة ويحرص علی الجهاد ويؤثر علی البرّ وعلي صلة الارحام، ويقضي حقوق إخوانه ويواسيهم من ماله، ويتجنّب شرب الخمر والزنا واللواط وسائر الفواحش، فممّ ذاك؟ ولِمَ ذاك؟ فسِّره لي يابن رسول الله وبرهنه وبيِّنه، فقد ـ واللهـ كثر فكري وأسهر ليلي وضاق ذرعي. قال: فتبسّم الباقر صلوات الله عليه، ثمّ قال: يا إبراهيم! خُذْ إليك بياناً شافياً فيما سألت، وعِلماً مكنوناً من خزائن علم الله وسرّه. أخبرني ياإبراهيم كيف تجد اعتقادهما؟ قلتُ: يابن رسول الله أجد محبّيكم وشيعتكم ـ علی ما فيه ممّا وصفته من أفعالهمـ لو أُعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهباً وفضّة أن يزول عن ولايتكم ومحبّتكم إلی موالاة غيركم وإلي محبّتهم ما زال، ولو ضُرِبَتْ خياشيمه بالسيوف فيكم ولو قُتل فيكم ما ارتدع ولارجع عن محبّتكم وولايتكم؛ وأري الناصب علی ما هو عليه ممّا وصفته من أفعالهم، لو أُعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهباً وفضّة أن يزول عن محبّة الطواغيت وموالاتهم إلی موالاتكم ما فعل ولا زال، ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيهم ولو قُتل فيهم ما ارتدع ولا رجع، وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلاً اشمأزّ من ذلك وتغيّر لونه ورُئي كراهية ذلك في وجهه بغضاً لكم ومحبّة لهم. قال: فتبسّم الباقر عليه السلام، ثمّ قال: يا إبراهيم! ها هنا هلكت العاملة الناصِبة، تَصْلَي' نَارًا حَامِيَةً تُسْقَي' مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ. [32] ومن أجل ذلك قال تعالی: وَقَدِمْنَآ إِلَي' مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـ'هُ هَبَآءً مَّنثُورًا. [33] ويحك يا إبراهيم! أتدري ما السبب والقصّة في ذلك، وما الذي قد خفي علی الناس منه؟ قلتُ: يابن رسول الله! فبيِّنه لي واشرحه وبرهنه! قال: يا إبراهيم! إنّ الله تبارك وتعالی لم يزل عالماً قديماً خلق الاشياء لامن شيء، ومن زعم أنّ الله تعالی خلق الاشياء من شيء فقد كفر، لا نّه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الاشياء قديماً معه في أزليّته وهويّته كان ذلك الشيء أزليّاً، بل خلق الله تعالی الاشياء كلّها لامن شيء، فكان ممّا خلق الله تعالی أرضاً طيّبة، ثمّ فجّر منها ماء عذباً زلالاً، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت، فقبلتها، فأجري ذلك الماء عليها سبعة أيّام طبقها وعمّها، ثمّ أنضب ذلك الماء عنها، فأخذ من صفوة ذلك الطين طيناً فجعله طين الائمّة عليهم السلام، ثمّ أخذ ثفل [34] ذلك الطين، فخلق منه شيعتنا، ولو ترك طينتكم يا إبراهيم علی حاله كما ترك طينتنا، لكنتم ونحن شيئاً واحداً. قلت: يا بن رسول الله! فما فعل بطينتنا؟ قال: أخبرك يا إبراهيم؛ خلق الله تعالی بعد ذلك أرضاً خبيثة منتنة، ثمّ فجّر منها ماء أُجاجاً آسناً مالحاً، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فلمتقبلها، فأجري ذلك الماء عليها سبعة أيّام حتّي طبقها وعمّها، ثمّ نضب ذلك الماء عنها، ثمّ أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة وأئمّتهم، ثمّ مزجه بثفل طينتكم؛ ولو ترك طينتهم علی حالها ولم يمزج بطينتكم، لميشهدوا الشهادتينِ ولا صلّوا ولا صاموا ولا زكّوا ولا حجّوا ولا أدّوا الامانة ولاأشبهوكم في الصور، وليس شيء أكبر علی المؤمن من أن يري صورة عدوّه مثل صورته. قلت: يا بن رسول الله! فما صنع بالطينتينِ؟ قال: مزج بينهما بالماء الاوّل والماء الثاني، ثمّ عركها عرك الاديم، ثمّ أخذ من ذلك قبضة، فقال: هذه إلی الجنّة ولا أُبالي. وأخذ قبضة أُخري وقال: هذه إلی النار ولا أُبالي. ثمّ خلط بينهما، فوقع من سنخ المؤمن وطينته علی سنخ الكافر وطينته، ووقع من سنخ الكافر وطينته علی سنخ المؤمن وطينته. فما رأيتَه من شيعتنا من زنا أو لواط أو ترك صلاة أو صوم أو حجّ أو جهاد أو خيانة أو كبيرة من هذه الكبائر، فهو من طينة الناصب وعنصره الذي قد مزج فيه، لانّ من سنخ الناصب وعنصره وطينته اكتساب المآثم والفواحش والكبائر. وما رأيت من الناصب من مواظبته علی الصلاة والصيام والزكاة والحجّ والجهاد وأبواب البرّ فهو من طينة المؤمن وسنخه الذي قد مُزج فيه، لانّ من سنخ المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم. فإذا عُرضتْ هذه الاعمال كلّها علی الله تعالی قال: أنا عدلٌ لا أجور، ومنصفٌ لا أظلم، وحَكَم لاأحيف ولاأميل ولااشطط، ألحقوا الاعمال السيّئة التي اجترحها المؤمن بسنخ الناصب وطينته، وألحقوا الاعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن وطينته، ردّوها كلّها إلی أصلها؛ فَإنِّي أَنَا اللَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَنَا عَالِمُ السِرَّ وَأَخْفَي، وَأَنَا المُطَّلِعُ علی قُلُوبِ عِبَادِي لاَأَحِيفُ وَلاَ أَظْلِمُ وَلاَ أُلْزِمُ أَحَداً إلاَّ مَا عَرِفْتُهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَهُ. ثمّ قال الباقر عليه السلام: اقرأ يا إبراهيم هذه الآية! قلتُ: يابن رسول الله؛ أيّة آية؟ قال: قوله تعالی: قَالَ مَعَاذَ اللَهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَب'عَنَا عِندَهُ و´ إِنَّآ إِذًا لَظَـ'لِمُونَ. [35] هو في الظاهر ما تفهمونه، هو ـواللهـ في الباطن هذا بعينه. يا إبراهيم!إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، ومحكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً. ثمّ قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان، أهو باين من القرص؟ قلتُ: في حال طلوعه باين. قال: أليس إذا غابت الشمس اتّصل ذلك الشعاع بالقرص حتّي يعود إليه؟ قلتُ: نعم. قال: كذلك يعود كلّ شيء إلی سنخه وجوهره وأصله، فإذا كان يوم القيامة نزع الله تعالی سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن، فيلحقها كلّها بالناصب؛ وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسناته وأبواب برّه واجتهاده من الناصب فيلحقها كلّها بالمؤمن. أفتري هاهنا ظلماً أو عدواناً؟ قلت: لا يابن رسول الله. قال: هذا ـ واللهِ ـ القضاء الفاصل والحكم القاطع والعدل البيّن، لايُسئل عمّا يفعل وهم يُسألون. يا إبراهيم: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ، [36] هذا من حكم الملكوت. قلتُ: يا بن رسول الله! وماحكم الملكوت؟ قال: حكم الله حكم أنبيائه، وقصّة الخضر وموسي عليهما السلام حين استصحبه، فقال: إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي' مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا. [37] افهمْ يا إبراهيم واعقلْ؛ أنكر موسي علی الخضر وا ستفظع أفعاله، حتّي قال له الخضر: يا موسي! مَا فَعَلْتُهُ و عَن أَمْرِي؛[38] إنّما فعلتُه عن أمر الله تعالی. من هذا ـ ويحك يا إبراهيمـ قرآن يُتلي وأخبار تؤثر عن الله تعالی، مَن ردّ منها حرفاً فقد كفر وأشرك وردّ علی الله تعالی. قال الليثيّ: فكأ نّي لم أعقل الآيات وأنا أقرأها أربعين سنة إلاّ ذلك اليوم، فقلتُ: يا بن رسول الله! ما أعجب هذا! تؤخذ حسنات أعدائكم فتُردّ علی شيعتكم، وتؤخذ سيّئات محبّيكم فتردّ علی مبغضيكم؟! قال: إي والله الذي لا إله إلاّ هو فالق الحبّة وباري النسمة وفاطر الارض والسماء، ما أخبرتك إلاّ بالحقّ، وما أنبأتُك إلاّ الصدق وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَهُ؛ [39] وَمَا اللَهُ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ،[40] وإنّ ما أخبرتُك لموجود في القرآن كلّه. قلتُ: هذا بعينه يوجد في القرآن؟ قال: نعم، يوجد في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن؛ أتحبّ أن أقرأ ذلك عليك؟ قلتُ: بلي يا بن رسول الله. فقال: قال الله تعالی: استدلال الإمام الباقر في اللحوق والإلحاق بآيات القرآن وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـ'يَـ'كُمْ وَمَا هُم بِحَـ'مِلِينَ مِنْ خَطَـ'يَـ'هُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَـ'ذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ ـ الآية. [41] أزيدك يا إبراهيم؟ قلتُ: بلي يابن رسول الله. قال: لِيَحْمِلُو´ا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةٍ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُونَّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ، [42] أتحبّ أن أزيدك؟ قلتُ: بلي يابن رسول الله. قال: فَأُولَـ'ئِكَ يُبَدِّلُ اللَهُ سَيّـَاتِهِمْ حَسَنَـ'تٍ وَكَانَ اللَهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. [43] يبدّل الله سيّئات شيعتنا حسنات، ويبدّل الله حسنات أعدائنا سيّئات، وجلال الله إنّ هذا لمن عدله وإنصافه، لا رادّ لقضائه ولامعقّب لحكمه وهو السميع العليم. ألم أبيّن لك أمر المزاج والطينتينِ من القرآن؟ قلتُ: بلي يا بن رسول الله. قال: اقرأ يا إبراهيم: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـ'ئِِرَ الإثْمِ وَالْفَوَ'حِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَ ' سِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَْكُمْ مِّنَ الاْرْضِ؛ [44] يعني من الارض الطيّبة والارض المنتنة. فَلاَ تُزَكُّو´ا أنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَي'´؛ [45] يقول: لايفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه، لانّ الله تعالی أعلم بمن اتّقي منكم، فإنّ ذلك من قبل اللمم ـ وهو المزاجـ. أزيدك يا إبراهيم؟ قلت: بلي يابن رسول الله. قال: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَي' وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَـ'لَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيْـ'طِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَهِ؛ [46] يعني أئمّة الجور دون أئمّة الحقّ وَيَحْسَبُونَ أَ نَّهُمْ مُّهْتَدُونَ. [47] خُذها إليك يا أبا إسحاق فوالله إنّه لمن غرر أحاديثنا وباطن سرايرنا ومكنون خزائننا، وانصرف ولاتطلع علی سرّنا أحداً إلاّ مؤمناً مستبصراً، فإنّك إن أذعتَ سرّنا بُليتَ في نفسك ومالك وأهلك وولدك. [48] أخبار الطينة لا تستلزم الجبروينبغي أن تعدّ هذه الرواية الشريفة من أُصول المعارف الشيعيّة؛ ومن المهمّ هنا أن نذكّر بأنّ خلق أفراد من البشر من طينة طيّبة وخلق آخرين من طينة منتنة سبخة، أو كما في تعبير بعض الروايات الاُخري: من طينة علّيّين ومن طينة سجّين، لا منافاة له أبداً مع أمر الاختيار، لانّ الله تعالی قد جعل هذه الطينة الطيّبة وهذه الطينة السبخة مختارتينِ، وقد أشار الإمام في نفس الرواية ـ دفعاً لشبهة الجبر والاضطرارـ إلی قول الله تعالی: وَأَنَا المُطَّلِعُ علی قُلُوبِ عِبَادِي لاَ أَحِيفُ وَلاَ أَظْلِمُ وَلاَ أُلْزِمُ أَحَداً إلاَّ مَا عَرَفْتُهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَهُ. ومن هنا، فإنّ التكاليف الإلهيّة ترد حسب القدرة والوسع؛ وحين يعطي الله سبحانه لشخص ما شيئاً معيّناً، فإنّه يطلب منه كمال ذلك الشيء، لا كمال شيء آخر. فالإنسان المخلوق من طينة علّيّين مكلّف بتكليف معيّن، والمخلوق من طينة سجّين مكلّف بتكليف معيّن آخر، وهو مختار مريد، وعليه أن يبلغ بالقابليّة التي وهبه الله إلی منصّة الفلعيّة والظهور. والله سبحانه لميأمره أبداً أن يصل إلی فعليّة الإنسان المخلوق من علّيّن، لانّ هذا الطلب ظلم، أمّا ذاك الاوّل فعدل مَحض. إنّ الله تعالی لم يأمر الشَّمر أن يصبح كسيّد الشهداء عليهالسلام، ولاينتظر منه أن يصبح كذلك؛ لكنّ الشمر مختار ذو إرادة؛ وعليه ـ ضمن إدراكاته وسعتهـ أن يجتنب فعل القبيح، فإن هو فعل ذلك القبيح، لحقه الخزي والعار، واستحقّ العقاب والنار. وخلاصة الكلام: أنّ الله عزّ وجلّ لم يخلق الخلق مجبورين، وإذ إنّه جعل كلّ فردٍ من طينةٍ معيّنة، فينتظر منه كمال تلك الطينة. كما أنّ علم الله بالمعاصي والذنوب التي يرتكبها الناس باختيارهم لايستدعي الجبر، بل هو نقيض الجبر؛ إذ علی فرض علمه تعالی بالمعاصي التي يفعلها الناس اختياراً، فكيف يكون ذلك جبراً؟ إذ لو كان الامر جبراً لاستلزم الانقلاب، والانقلاب محال. وإذاً، فإنّ الله تعالی كان عالماً قبل خلق الناس بخلقهم وأفعالهم التي يجترحونها اختياراً، لانّ الخلقة هي خلقة الإنسان المختار، وهذا هو عين العدل. ولقد منح سبحانه الافراد قابليّات مختلفة بالوجدان، إلاّ أ نّه ينتظر من كلّ فرد ظهور تلك القابليّة المعيّنة التي منحه إيّاها، وذلك عين العدل؛ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. ارجاعات [1] ـ الآيتان 60 و 61، من السورة 36: يس. [2] ـ الآية 80، من السورة 2: البقرة. [3] ـ «تفسير مجمع البيان» ج 3، ص 531 طبعة صيدا. وقد ورد هذا العهد والوصيّة في «تفسير علی بن إبراهيم» ص 416 بنفس هذه الالفاظ، إلاّ أ نّه أورد جملة وَأَسَرُّ فِي الفِتَنِ وَحْدي، بدلاً من جملة وَآنِسْ فِي القَبْرِ وَحْشَتِي. كما رواه الحرّ العامليّ في كتاب «وسائل الشيعة» ج 2، ص 661، طبعة أمير بهادر، كتاب الوصايا، عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ، عن عليّبن إبراهيم، عن علی بن إسحاق، عن الحسين بن حازم الكلبيّ ابن أُخت هشامبن سالم، عن سليمانبن جعفر، عن الإمام الصادق عليه السلام؛ وقال بعد خاتمة العهد: ورواه أيضاً الشيخ الطوسيّ بإسناده عن علی بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن الحسنبن محبوب، عن سليمانبن جعفر، عن أبيه، عن الصادق عليه السلام. كما رواه الشيخ الطوسيّ في «المصباح» مرسلاً بزيادات في الدعاء؛ ثمّ قال: قَالَ النَّبِيٌّ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: تَعَلَّمْهَا أَنْتَ وَعَلِّمْهَا أَهْلَ بَيْتِكَ وَشِيعَتَكَ! ـانتهي كلام صاحب «الوسائل». ويقول هذا الحقير: ومن المناسب أن يقول بعد الشهادة بالرسالة في قوله: وأنّ محمّداً عبدك ورسولك: وَأَنَّ علی بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَوَصِيُّ رَسُولِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَنَّ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ وَعَلِيَّبْنَ الحُسَيْنِ وَمُحَمَّدَ بْنَ علی وَجَعْفَرَبْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَي بْنَ جَعْفَرٍ، وَعَلَيَّبْنَ مُوسَي وَمُحَمَّدَبْنَ علی وَعَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ وَالحَسَنَ بْنَ علی وَالحُجَّةَ القَائِمَ المَهْدِيَّ أَئِمَّتِي، بِهِمْ أَتَوَلَّي وَمِنْ أَعْدَائِهِمْ أَتَبَرَّأُ إلی اللَهِ تعالی. [4] ـ «الامالي» ص 5؛ و«العيون» ص 91، الطبعة الحجريّة سنة 1375؛ و«بحار الانوار» ج 8، ص 34، نقلاً عن هذين الكتابين. [5] ـ «أمالي الصدوق» المجلس التاسع والاربعون، ص 177. [6] ـ «أمالي الطوسيّ» ج 1، الجزء 11، ص 304، طبعة النجف؛ و«بحار الانوار» ج 8، ص 39 و 40. [7] ـ «أمالي الشيخ الطوسيّ» ج 1، ص 389، طبعة النجف. [8] ـ «بشارة المصطفي» ص 36، طبعة النجف؛ وأوردها أيضاً الشيخ الطوسيّ في «الامالي» ج 10، ص 286، وج 13، ص 376، بسنده عن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام، عن رسولالله صلّي الله عليه وآله وسلّم. [9] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 58، الطبعة الحروفيّة. [10] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 59. [11] ـ «تفسير فرات» ص 108. [12] ـ «روضة الكافي» ص 162. [13] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 56. [14] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 50. [15] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 50. [16] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 50. [17] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 40. [18] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 361 و 362. [19] ـ الآيتان 9 و 10، من السورة 91: الشمس. [20] ـ الآية 53، من السورة 39: الزمر. [21] ـ الآية 17، من السورة 13: الرعد. [22] ـ يقال لمن نصب العداوة لآل محمّد عليهم السلام وعاداهم وسبِّهم «ناصبيِّ»؛ وجمعه نواصب. [23] ـ الآية 70، من السورة 25: الفرقان. [24] ـ الآية 10، من السورة 35: فاطر. [25] ـ الآية 40، من السورة 40: غافر. [26] ـ الآية 286، من السورة 2: البقرة. [27] ـ الآية 21، من السورة 52: الطور. [28] ـ الآية 55، من السورة 2: البقرة. [29] ـ الآية 61، من السورة 2: البقرة. [30] ـ الآية 63، من السورة 2: البقرة. [31] ـ «عيون أخبار الرضا» الباب 28، ص 178، الطبعة الحجريّة؛ روي عن أحمدبن زيادبن جعفر الهمدانيّ، عن علی بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبدالسلامبن صالح الهرويّ، قال: قلتُ لابي الحسن الرضا عليه السلام: يا بن رسول الله! ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السلام أ نّه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين بفعال آبائها؟! فقال عليه السلام: هو كذلك. فقلتُ: قول الله عزّ وجلّ: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي'» ما معناه؟! قَال: صدق الله في جميع أقواله، ولكنّ ذراري قتلة الحسين يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه. ولو أنّ رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب، لكان الراضي عند الله عزّ وجلّ شريك القاتل؛ وإنّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعال آبائهم. [32] ـ الآيتان 4 و 5، من السورة 88: الغاشية. [33] ـ الآية 23، من السورة 25: الفرقان. [34] ـ الثفل: ما سَفَل من كلّ شيء. [35] ـ الآية 79، من السورة 12: يوسف. [36] ـ الآية 60، من السورة 30: آل عمران. [37] ـ الآيتان 68 و 69، من السورة 18: الكهف. [38] ـ مقطع من الآية 82، من السورة 18: الكهف. [39] ـ الآية 117، من السورة 3: آل عمران؛ والآية 33، من السورة 16: النحل. [40] ـ ليس في القرآن آية بهذا اللفظ، بل ورد بثلاثة تعابير قريبة: أـ وأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد (الآية 182، من السورة 3: آل عمران؛ والآية 51، من السورة 8: الانفال؛ والآية 10، من السورة 22: الحجّ.) بـ وما ربّك بظلاّم للعبيد (الآية 46، من السورة 41: فصّلت). جـ وما أنا بظلاّم للعبيد. (الآية 29، من السورة 50: ق). لذا يمكن أن يكون كلام الإمام اقتباساً من القرآن وليس استشهاداً به. [41] ـ الآيتان 12 و 13، من السورة 29: العنكبوت. [42] ـ الآية 25، من السورة 16: النحل. [43] ـ الآية 70، من السورة 25: الفرقان. [44] ـ الآية 32، من السورة 53: النجم. [45] ـ مقطع من الآية 32، من السورة 53: النجم. [46] ـ الآيتان 29 و 30؛ من السورة 7: الاعراف. [47] ـ الآية 30، من السورة 7: الاعراف. [48] ـ «علل الشرايع» ص 606 إلی 610، الباب 385، نوادر العلل، الرواية 81، طبعة المطبعة الحيدريّة في النجف الاشرف، سنة 1385 ه. |
|
|