|
|
الصفحة السابقةالإشكالات الواردة علی الشفاعة والردّ عليهاالإشكال الاوّل: أنّ رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعدما أثبته الله تعالی بالوعيد، إمّا أن يكون عدلاً أو ظلماً. فإن كان عدلاً، كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلماً لا يليق بساحة قدس الحضرة الاحديّة. وإن كان ظلماً، كانت شفاعة الانبياء ـ مثلاً ـ سؤالاً للظلم من الله تعالی، وهو جهل لايجوز نسبته إلی ساحة الانبياء صلوات الله عليهم. والجواب علی هذا الإشكال بالنقض والحلّ. فأمّا بالنقض فإنّه منقوض بالاوامر الامتحانيّة التي يكون فيها إثبات الحكم الامتحانيّ أوّلاً ورفعه ثانياً كلاهما من العدل وكلاهما صحيح، لانّ الحكمة في ذلك تتمثّل في اختبار سريرة المكلّف وإظهار نيّته، أو إخراج ما في قوّته إلی الفعل. ونقول أيضاً في مورد الشفاعة بأنّ من الممكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثمّ توضع الاحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب، ليهلك الكافرون بكفرهم، وأمّا المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم، ويبقي المسيئون فينالون بالشفاعة تلك النجاة الغائيّة والسعادة النهائيّة ولو بالنسبة إلی بعض أنواع العذاب، مع مقاساة عذاب البعض الآخر كأحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أوّلاً عدلاً، ورفع عقابه ثانياً عدلاً. وأمّا الجواب بالحلّ، فإنّ رفع العقاب بواسطة الشفاعة ـكما ذكرناـ لاينافي الحكم الاوّل ليستلزم العدل أو الظلم، إذ إنّ تضادّ وتزاحم حكم العفو مع حكم العقاب إنّما يحصل عند مغايرتهما لبعضهما. أمّا حكم الشفاعة والعفو الذي يتبعها، فله حكومته علی الحكم الاوّل. أي أ نّه يخرج المجرم عن كونه مصداقاً لشمول العقاب بجعله مصداقاً لحكمٍ آخر مثل رحمة الله وعفوه وغفرانه وإكرامه مقام الشافع بالإكرام والإعظام. فأين المغايرة والتضادّ في ذلك. إنّ كلا الحكمينِ صحيح، وكلاهما صادق في موضوعه ومحلّه. الإشكال الثاني: أنّ سنّة الله جرت علی صون أفعاله من التخلّف والاختلاف، فما قضي وحكم به يجريه علی وتيرة واحدة من غيراستثناء وعلي هذا جرت سُنّة الاسباب. قال تعالی: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ'نٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. [1] وقال تعالی: وَأَنَّ هَـ'ذَا صِرَ ' طِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبَعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. [2] وقال تعالی: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَحْوِيلاً. [3] وتحقّق الشفاعة موجب للاختلاف في سنّة الله تعالی، لانّ رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين موجب لنقض الغرض، ونقض الغرض محال، وهو لعب يُنافي حكمة الله تعالی، ورفعه عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم أو ذنوبهم موجب للاختلاف في فعل الله، ومستلزم لتغيير سُنّته الجارية وطريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أنّ كلّ واحد منهم مجرم، ولا بين الذنوب في أنّ كلاّ منهم ذنب وخروج عن نهج العبوديّة. فتخصيص بعضهم أو بعض ذنوبهم بالشفاعة والصفح محال. وإنّما تجري سنّة الشفاعة وما يماثلها في هذه الحياة من ابتناء الاعمال والافعال علی الاهواء والاوهام التي كثيراً ما تقضي في الحقّ والباطل علی حدٍّ سواء، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة علی نسق واحد. والجواب أ نّه لا ريب في أنّ صراط الله تعالی مستقيم وسنّته واحدة، إلاّ أنّ هذه السنّة الواحدة غير المختلفة ليست قائمة علی أساس صفة واحدة من الصفات الإلهيّة، كصفة التشريع والحكم ـ مثلاً ـ حتّي لايتخلّف حكم عن مورده، ولا جزاء حكم عن محلّه قطّ؛ بل إنّ هذه السنّة قائمة بمجموع صفاتالله المرتبطة بهذا الموضوع وهذه الجهة. وبيان هذه الحقيقة هو أنّ الله سبحانه وتعالی هو الواهب الفرد، والمفيض علی جميع موجودات عالم التكوين بالحياة والموت والرزق والنعمة والقدرة وغيرها، وهي أُمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه علی السواء، ولابرابطة واحدة كيف كانت، لانتفاء السببيّة إذ ذاك، ولبطلان الارتباط والسببيّة حينئذٍ فهو تعالی لا يشفي مريضاً من غير سبب ومصلحة، كما لايشفي المريض بصفته الله المميت المنتقم الجبّار شديد البطش. أي أ نّه تعالی لا يفيض الشفاء عن طريق هذه الصفات، بل يشفي لا نّه الله الرؤوف الرحيم العطوف المنعم المشافي المعافي. كما أنّ الله تعالی لا يهلك جبّاًراً مستكبراً بلا سبب ومصلحة، ولايهلكه بصفته الله الرؤوف الرحيم، بل بصفته شديد البطش شديد الانتقام. ولذا، فإنّ كلّ حادث من حوادث هذا العالم ينضوي تحت اسم خاصّ وصفة خاصّة، وإنّ الله تعالی يُنشي بأسمائه الحسني كلّ شيء بما يتناسب وذلك الاسم وتلك الصفة. والقرآن الكريم يجهر بندائه الصريح بحقيقة أنّ كلّ حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود مستند إلی صفة أو أكثر من صفات الحقّ وأسمائه المختلفة، وأنّ تلك الحوادث ترتبط بذاته القدسيّة من خلال التلاؤم والائتلاف الواقع بينها والاقتضاء الناشي من ذلك، وبواسطة صفاته العليا وأسمائه الحسني. ويمكن القول باختصار بأنّ كلّ أمر من الاُمور يرتبط بالله تبارك وتعالی من جهة ما يتضمّنه ذلك الامر من المصالح والخيرات. ولذلك فإنّ استقامة صراط الله ووحدة سببيّته وعدم تبدّل سنّته وعدم اختلاف فعله، إنّما هو بالنسبة إلی ما يفعله. بجميع صفاته المرتبطة بذلك الشيء، لابالنسبة إلی مقتضي مصلحة واحدة فحسب. وبعبارة أبسط، فإنّه يحصل بواسطة نتيجة الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الاحكام والمصالح المرتبطة بالموارد والموضوعات، لابالنسبة إلی مقتضي مصلحة واحدة. وبناء علی ذلك، فلو كانت سنّة الحكم المجعول هي فقط نفس الاجر في خصوص البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، والعادل والفاسق، فإنّها لنتتغيّر بطبيعة الحال. وسيجري هذا الحكم ـمن ثمّـ علی وتيرة واحدة في جميع تلك الاحوال. لكنّنا نعلم بكثرة تلك الاسباب التي ربّما يستدعي توافق عدد منها أثراً يغاير الاثر الذي يقتضيه بعض تلك الاسباب. والشفاعة حادثة كسائر الحوادث الاُخري. وهي غير مستثناة من هذه القاعدة العامّة. لذا، فإنّ رفع العقاب إثر الشفاعة إثر عدّة من الاسباب، كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه والفصل في القضاء، لايوجب اختلافاً في السنّة الجارية والصراط المستقيم، بل من شأنه أن يُمضي هذه السنّة ويدعم هذا الصراط. الإشكال الثالث: أنّ الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يصرف الشافعُ المشفوع عنده عمّا عزم عليه، ويحمله علی خلاف ما أراده أوّلاً، سواءً أراد فعل أمرٍ ما أم أراد تركه. فلا تتحقّق الشفاعة إلاّ بترك الإرادة ونسخها لاجل الشفيع. فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغيرّ علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن يقع في الخطأ ـ مثلاًـ ثمّ يعرف الصواب ويري أنّ المصلحة في خلاف ما أراده وحكم به. أمّا الحاكم المستبدّ الظالم، فإنّه يقبل شفاعة المقرّبين عنده في الشيء وهو عالم بأ نّه ظلم وأنّ العدل في خلافه، لكنّه يفضّل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرّب عنده علی العدالة والحكم بالحقّ. وكلا النوعين من الشفاعة محال علی الله تعالی، لا نّه ليس ظالماً، ولانّ إرادته علی حسب علمه، وعلمه أزليّ لا يتغيّر ولا يتبدّل. والجواب علی ذلك أنّ الشفاعة ليست من قبيل تغيير الإرادة والعلم، بل هي من قبيل التغيير في المراد والمعلوم، إذ إنّ الله سبحانه وتعالی يعلم بأنّ الإنسان الفلانيّ ستطرأ عليه حالات مختلفة، فيكون في الحين الفلانيّ علی الحال الفلانيّ، وفي حينٍ آخر علی حال آخر يخالف حاله الاوّل لاقتران أسباب وشرائط أُخر، فيريد تعالی فيه بإرادة أُخري، إذ له ـ تعالیـ إرادة مختلفة تبعاً لاحوال الناس المختلفة: كُلُّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. [4] يَمْحُو اللَهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ و´ أُمُّ الْكِتَـ'بِ. [5] بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ. [6] مثال ذلك: أ نّنا نعلم أنّ الليل يحلّ فيشغل الظلامُ العالَم، وتعجز أبصارنا عن الرؤية مع قيام الحاجة إليها. كما نعلم أنّ الشمس تشرق صباحاً فيزول ذلك الظلام وتزول حاجتنا إلی شيء يساعدنا علی الرؤية. لذا، فحين يحلّ الليل فإن إرادتنا تتعلّق بإضاءة المصباح؛ ثمّ ينتهي الليل فتتعلّق إرادتنا بإطفاء ذلك المصباح. ونري في هذه الفرضيّة أنّ علمنا وإرادتنا لميتغيّرا أبداً، وأنّ المتغيّر كان المعلوم والمراد، فخرجا عن كونهما منطَبقاً عليه للعلم والإرادة. وبطبيعة الحال فإنّ الإرادة لا تتعلّق بكلّ مراد، بل تتعلّق بالمراد الذي تعلّقت به هذه الإرادة؛ كما أنّ العلم لا ينطبق علی كلّ معلوم، بل ينطبق علی خصوص المعلوم الذي تعلّق به العلم. ولا يطرأ علی هكذا علم وإرادة تغيير ولا فساد، وكلّ منهما موجود في موضعه وعند تحقّق شرائطه، وإنّما يتغيّر المعلوم والمراد، أي أ نّهما يخرجان عن كونهما منطبقاً عليه للعلم والإرادة، فينتفي العلم والإرادة بانتفاء المراد والمعلوم. وإلاّ فإنّ الإرادة موجودة ما دام المراد موجوداً، كما أنّ العلم موجود ما دام المعلوم موجوداً، وكلاهما ثابت باستمرار في موضوعه علی نحو القضيّة الحقيقيّة، لا يتغيّر ولا يتبدّل. نعم، إنّ تغيّر العلم والإرادة الذي يستحيل عليه تعالی هو بطلان انطباق العلم علی المعلوم والإرادة علی المراد مع بقاء المعلوم والمراد علی حالهما، وهو الخطأ والفسخ، وذات الحقّ القدسيّة مبرّأة عن ذلك. كأن يري الشخص شبحاً من بعيد فيحكم بكونه إنساناً، ثمّ يقترب الشبح فيتّضح أ نّه فَرَس لا إنسان. فقد تغيّر العلم في هذه الحالة مع بقاء المعلوم؛ ونسبة ذلك إلی الحقّ أمر محال. أو كأن يريد المرء فعل أمرٍ ما لمصلحة معيّنة يعلمها، ثمّ يظهر له أنّ المصلحة في خلافه، فتزول إرادة الفعل عند ذلك؛ ولا يجوز نسبة ذلك إلی الحقّ تعالی. أمّا الشفاعة ورفع العقاب إثر الشفاعة فليست من هذا القبيل، بل هي من قبيل تغيّر الإرادة بتغيّر المراد، وتغيّر العلم بتغيّر المعلوم، مع ثبات الإرادة والعلم علی متعلّقهما من المراد والمعلوم. نظير إرادة العقاب عند عدم التوبة والاستغفار، وإرادة الثواب عند التوبة والاستغفار. الإشكال الرابع: أنّ وعد الشفاعة منه تعالی أو تبليغها من الانبياء عليهم السلام مستلزم لتجرّي الناس علی المعصية، وإغراء لهم علی هتك محارم الله تعالی، وهو منافٍ للغرض الوحيد من الدين والتشريع والشرائع الإلهيّة، من سوق الناس إلی العبوديّة والطاعة، فلابدّ من تأويل ما يدلّ عليه من الكتاب والسنّة بما لا يتنافي وهذا الاساس البديهيّ. والجواب عنه، أوّلاً بالنقض؛ وثانياً بالحلّ. أمّا النقض، فبالآيات الدالّة علی شمول المغفرة وسعة رحمة الله تعالی، كقوله تعالی: إِنَّ اللَهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَ ' لِكَ لِمَن يَشَآءُ. [7] وهذه الآية ـ كما مرّ سابقاً ـ في غير مورد التوبة، بدليل استثناء الشرك المغفور بالتوبة. وأمّا بالحلّ، فإنّ وعد الشفاعة أو تبليغها إنّما يستلزم إغراء الناس بالمعصية بشرطينِ: أوّلهما: تعيين المجرم بنفسه ونعته، أو تعيين خصوص الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعييناً لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز، من غير تعليق بشرط جائز. وثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته، بأن تقلعه من أصله تماماً. فلو قيل ـ مثلاً ـ بأنّ جميع طبقات الناس، أو الطائفة الفلانيّة منهم لايُعاقبون علی ما أجرموا، ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا؛ أو قيل بأنّ الذنب الفلانيّ لا عذاب عليه قطّ، كان ذلك باطلاً من القول ولعباً بالاحكام والتكاليف المتوجّهة إلی المكلّفين. أمّا إذا أُبهم أمر الشفاعة من حيث الشرطينِ، فلم يعيّن أنّ الشفاعة في أيّ الذنوب وفي حقّ أيّ المذنبين، أو أنّ العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الاوقات والاحوال، فلا يعلم المرء هل ينال الشفاعة الموعودة أو لا، فلن يكون هناك تجرٍّ علی هتك محارم الله تعالی. غير أنّ ذلك الوعد بالشفاعة يوقظ قريحة رجاء نفس المذنب وأملها، فلا يجعل مشاهدتها ذنوبها وآثامها التي اقترفتها قنوطاً من رحمة الله، ويأساً من رَوح الله تعالی. ومن الجليّ أنّ اليأس هو منشأ جميع أنواع الشقاء والتعاسة، وأنّ الرجاء منبع أنواع السعادة والنشاط والحيويّة. وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ الله تعالی وعد بمغفرة الصغائر في قوله عزّ من قائل: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ،[8] الدّال بصراحة علی رفع عقاب السيّئات والمعاصي الصغيرة علی تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة. فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن اتّقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم؛ فلماذا لا يجوز أن يقول: إن تحفّظتم علی إيمانكم، فجئتموني يوم القيامة بإيمان سليم، قبلتُ فيكم شفاعةَ الشافعين؟! ولكن، مَن يطمئن أ نّه سيأتي ربّه بإيمان سليم، وأ نّه سيحفظ إيمانه حتّي ذلك الحين؟ فالمعاصي تقسّي القلب وتضعف الإيمان وتجلب الشرك. ألميقل تعالی: فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَـ'سِرُونَ. [9] ألم يقل: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَي' قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. [10] ألم يقل: ثُمَّ كَانَ عَـ'قِبَةَ الَّذِينَ أَسَـ'´ـُوا السُّـ´وأَي'´ أَن كَذَّبُوا بِـَايَـ'تِ اللَهِ. [11] ولربّما أوجب الرجاء في الشفاعة إقلاع الشخص العاصي عن معاصيه، وركوبه صراط التقوي، وصيرورته من المحسنين. بينما قد يقول إذا انعدمت في وجوده أيّة نافذة للرجاء: لقد قُضي الامر، وبلغ السيل الزُّبي؛ وإذا طغي الماء، فما الفرق أن يغمر شخصاً واحداً أو مائة؟ وما دمنا من أصحاب النار، فلماذا نفعل أعمال الخير؟ أمّا إذا لاحت أمام أعينه نافذة رجاء العفو وطلائع الرحمة، ورجي شموله بالشفاعة، فلربّما أقلع عن غيّه وانزجر عن معاصيه، وانساق إلی الطاعات والعبادات، وَذَ ' لِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْعَظِيم. وكذا إذا عُيِّن المجرم المشفوع له، أو الجرم المشفوع فيه، وصُرِّح بشمولها علی بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته، فإنّه لنيوجب تجرّي المجرمين قطعاً. والقرآن الكريم لم ينطق في خصوص المجرمين، وفي خصوص الذنب بالتعيين، ولم ينطق في رفع العذاب إلاّ بالبعض؛ فلا إشكال أساساً. الإشكال الخامس: أنّ الادلّة التي ذكرها القائلون بالشفاعة هي إمّا عقليّة أو نقليّة؛ فأمّا الدليل العقليّ فإنّه لو دلّ، فإنّما يدلّ علی إمكان وقوع الشفاعة لا علی فعليّة وقوعها، مضافاً إلی أنّ أصل دلالته ممنوع. وأمّا الدليل النقليّ، فما يتضمّنه القرآن لا دلالة فيه علی وقوع الشفاعة، فإنّ آيات القرآن في هذا الشأن علی ثلاثة أقسام: الاوّل: الآيات الدالّة علی نفي الشفاعة مطلقاً، كقوله تعالی: لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَـ'عَةٌ. [12] الثاني: الآيات الدالّة علی نفي فائدة الشفاعة مطلقاً، كقوله تعالی: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـ'عَةُ الشَّـ'فِعِينَ. [13] والثالث: الآيات الدالّة علی تقييد الشفاعة بإذن الله ومشيئته، كقوله تعالی: إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ. [14] وآية: إِلاَّ بِإِذْنِهِ. [15] وآية: إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي'. [16] وهي آيات تدلّ بدورها علی نفي الشفاعة، لانّ هذا الاستثناء استثناء بإذن الله ومشيئته سبحانه في مقام النفي القطعيّ للإشعار بأ نّه لاشيء أعلي من مشيئة الله وإذنه، وأنّ كلّ شيء منوط بإذنه تعالی ومشيئته؛ كقوله تعالی: سَنُقْرِنءُكَ فَلاَ تَنسَي'´ * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَهُ. [17] وقوله تعالی: خَـ'لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ. [18] أي ليس فوق إرادة الله ومشيئته شيء. وليس المراد مجيء ظرف تتعلّق به هذه الإرادة الإلهيّة خارجاً. فليس هناك ـ إذاً ـ من نصٍّ قطعيّ علی الشفاعة في القرآن الكريم. وأمّا السنّة، فلا تعويل علی ما دلّت عليه الروايات من الخصوصيّات؛ وأمّا المتيقّن منها، فلا يزيد علی ما في الكتاب دلالة. والجواب: أمّا عن الآيات النافية للشفاعة، فقد ذكرنا أ نّها لاتنفي مطلق الشفاعة، بل الشفاعة بغير إذن الله وارتضائه. وأمّا عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة ـ علی زعم المستشكلـ فإنّها تثبت الشفاعة ولاتنفيها. والآيات الواقعة في سورة المدّثّر إنّما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصّة من المجرمين لا عن جميعهم. ومع ذلك فالشفاعة مضافة لامجرّدة مقطوعة عن الإضافة. وفرقٌ بين أن يقول القائل: فَلاَ تَنْفَعُهُم الشَّفَاعَةُ؛ وبين أن يقول: فَلاَ تَنْفَعُهُم شَفَـ'عَةُ الشَّـ'فِعِينَ، فالمصدر المضاف يُشعر بوقوع الفعل في الخارج، بخلاف المقطوع عن الإضافة. وقد نصّ علی ذلك الشيخ عبدالقاهر في «دلائل الإعجاز». فقوله: شَفَـ'عَةُ الشَّـ'فِعِينَ، يدلّ علی أنّ شفاعةً ما ستقع، غير أنّ هؤلاء لاينتفعون بها. علی أنّ الإتيان بصيغة الجمع في الشَّـ'فِعِينَ ـحيث لميأت التعبير بالمفرد؛ الشافع ـ يدلّ علی تحقّق الشفاعة في الخارج؛ كقوله: كَانَتْ مِنَ الْغَـ'بِرِينَ؛ [19] وقوله: كَانَ مِنَ الْكَـ'فِرِينَ؛ [20] وقوله: كَانَ مِنَ الْغَاوِينَ؛ [21] وقوله: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّـ'لِمِينَ، [22] وأمثال هذه الآيات. ولولا ذلك، لكان الإتيان بصيغة الجمع ـوله مدلول زائد علی صيغة المفردـ لغواً زائداً في الكلام. فقوله: فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَـ'عَةُ الشَّـ'فِعِينَ من الآيات المثبِتة للشفاعة دون النافية لها. وأمّا الإجابة عن الآيات المشتملة علی استثناء الإذن والارتضاء، فدلالة قوله: إلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ وقوله: إِلاَّ بِإِذْنِهِ هي علی وقوع الشفاعة. لانّ المصدر مضاف، وذلك ممّا لايخفي علی العارف بأساليب الكلام والادب العربيّ. وكذا قوله إنّ: إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ و: إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي' بمعني واحد هو المشيئة، ممّا لاينبغي الإصغاء إليه. علی أنّ الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة؛ كقوله: إِلاَّ بإِذْنِهِ؛ و: إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ؛ و: إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي'؛ و: إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وغير ذلك. فهبْ أنّ الإذن والارتضاء واحد، وهو المشيئة، فهل يمكن التفوّه بذلك في قوله: إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟ وهل المراد بهذا الاستثناء هو استثناء المشيئة أيضاً؟ فهكذا تساهل في البيان ممّا لا يصحّ أن ينسب إلی كلام سوقيّ، فكيف بالكلام البليغ؟ وكيف بأبلغ الكلام؟! وأمّا الإجابة عن السنّة والروايات، فإنّ دلالتها ـإجمالاًـ علی الشفاعة للمؤمنين في المعاصي الكبيرة عند بقاء الإيمان، وذلك ممّا لايعتريه شبهة ولا ريب. وقد وردت الروايات المستفيضة، بل المتواترة، في شفاعة رسول الله والانبياء والائمّة الطاهرين عليهم السلام، ودلالتها مطابقة لدلالة الآيات القرآنيّة. الإشكال السادس: أنّ الآيات الواردة في الشفاعة ليست صريحة في رفع العقاب الثابت علی المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم ولزوم العقاب، بل المراد بها شفاعة الانبياء، بمعني توسّطهم ـ بما هم أنبياءـ بين الناس وبين ربّهم بأخذ الاحكام بالوحي وتبليغها للناس وهدايتهم. وهذا المعني للشفاعة والتوسّط كالبذر ينمو وينشأ منه ما يستقبله من الاقدار والاوصاف والاحوال. فالانبياء عليهم السلام شفعاء المؤمنين في الدنيا وشفعاؤهم في الآخرة. والجواب: أ نّه لا شكّ في أنّ عمل الانبياء من جهة نبوّتهم نوع من أنواع الوساطة والشفاعة ومصداق من مصاديقها، إلاّ أنّ الشفاعة ـكما ذكرنا سابقاًـ غير مقصورة فيه. ومن الدليل علی ذلك قوله تعالی: إِنَّ اللَهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَ ' لِكَ لِمَن يَشَآءُ. [23] وقد ذكرنا أنّ الآية في غير مورد الإيمان والتوبة، لانّ الشرك سيُغفر فيه أيضاً عند تحقّق التوبة والإيمان، والشفاعة التي ذكرها المستشكل في الانبياء إنّما هي بطريق الدعوة إلی الإيمان والتوبة. الإشكال السابع: أنّ طريق العقل لا يوصل إلی تحقّق الشفاعة وإثباتها، وما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفي الشفاعة تارةً وتثبتها أُخري، وربّما قيّدتها وربّما أطلقتها. والادب الدينيّ يقتضي الإيمان بها وإرجاع علمها إلی الله تعالی. والجواب عنه: أنّ الآيات المتشابهة في الشفاعة تصير بإرجاعها إلی المحكَمات محكمات مثلها، وهو أمر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجيء بيانه عند قوله تعالی: مِنْهُ ءَايَـ'تٌ مُّحْكَمَـ'تٌ... وَأُخَرُ مُتَشَـ'بِهـ'تٌ. [24] أمّا قول البعض بانعدام الدليل العقليّ علی الشفاعة، فجوابه أن الامر ليسمنحصراً في خصوص الشفاعة، بل إنّه يشمل كثيراً من الخصوصيّات التفصيليّة لمسائل المعاد، لانّ البراهين العقليّة لايمكنها أن تحلّ كمقدّمات متوسطة في إنتاج المسائل المعاديّة علی نحو التفصيل. لذا، فاستخلاص النتائج العقليّة من البرهان لن يكون ميسوراً في مثل هذه المسـائل؛ وقد صرّح بهذا المطلب ابن سينا في « الشفاء ». إلاّ أنّ الادلّة العقليّة تُعدّ كافية لإنتاج الكمالات العقليّة والمثاليّة للإنسان خلال مسيرة السعادة والشقاء بعد مفارقة نفس الإنسان لبدنه، بسبب حصول التجرّد المثاليّ والتجرّد العقليّ، لانّ التجرّد المثاليّ والعقليّ من المسائل التي بُرهن علی صحّتها في الحكمة المتعالیة. وعلي هذا الاساس يمكننا إقامة الدليل العقليّ علی حصول الشفاعة للمذنبين والعاصين. الدليل العقليّ علی شفاعة النفوس الكاملة للنفوس الضعيفة يوم القيامةوبيان هذا المطلب هو أنّ الإنسان إذا فعل فعلاً قبل أن يبلغ مرحلة الفعليّة، أنتج ذلك الفعل في نفسه هيئة نفسانيّة وحالاً من أحوال السعادة أو الشقاء. والمراد بسعادة ذلك الفعل هو كونه خيراً قد حصل للإنسان بوصفه إنساناً، والمراد بشقاء الفعل عكس ذلك، أي كونه فعلاً يعدّ شراً للإنسان بوصفه إنساناً. ثمّ تحصل في نفس الإنسان ملكة راسخة من خلال تكرار أفعال الخير والشرّ، فيحصل له بتلك الملكة الراسخة صورة نفسانيّة سعيدة أو شقيّة، بحيث تصبح تلك الصورة النفسانيّة البسيطة الواحدة منشأ لظهور هيئات وصور كثيرة أُخري. فإن كانت تلك الصورة النفسانيّة سعيدة، كانت جميع آثارها وجوديّة ومنسجمة مع تلك الصورة ومع أصل نفس الإنسان، باعتبار أنّ النفس الإنسانيّة بمثابة مادّة قابلة لتحقّق تلك الصورة وتجسّدها. أمّا لو كانت تلك الصورة النفسانيّة شقيّة، فتكون جميع آثارها عدميّة عائدة إلی الشرّ والخسران من حيث التحليل. ومن هنا، فالنفس الإنسانيّة السعيدة تلتذّ بآثارها بصفتها نفساً إنسانيّة، كما تلتذّ بها باعتبار بلوغها فعليّة السعادة. وفي المقابل فإنّ النفس الإنسانيّة الشقيّة تنزعج وتتألّم من آثارها، بصفتها نفساً إنسانيّة، علی الرغم من انسجامها معها وأُنسها بها لكونها سبب نشوئها وظهورها. هذا بالنسبة إلی النفوس الكاملة، سعيدة كانت أم شقيّة، أي بالنسبة إلی الإنسان الذي له ذات سعيدة وأفعال صالحة حسنة، وبالنسبة إلی الإنسان الذي له ذات شقيّة وأفعال فاسدة. أمّا النفوس الناقصة فهي علی صنفينِ: الاوّل: النفوس التي لها ذوات سعيدة وأفعال شقيّة، بمعني أنّ تلك النفوس تمتلك صوراً سعيدة واعتقاداً حقّاً ثابتاً، إلاّ أنّ هيئات شقيّة ورديئة طرأت علی تلك النفوس من المعاصي والذنوب والانحرافات التي اكتسبتها تلك النفوس الإنسانيّة من خلال تعلّقها بالابدان الدنيويّة، ومن خلال تلوّث تلك النفوس بواسطة ارتضاعها ثدي الاختيار حتّي الارتواء، فتسبّب ذلك في تراكم صدأ الحُجب وغبار ظلمة الكثرة وآثارها. ومن الجليّ في هذه الحال أنّ هذا الدنس الظاهريّ يمثّل أُموراً قسريّة غير منسجمة مع ذوات النفوس السعيدة. والبرهان قائم علی عدمدوام الاُمور القسريّة، لذا فإنّ هذه النفوس الصالحة المؤمنة السعيدة ستطهر من خلال الضغوط والمحن التي تواجهها خلال الحياة الدنيا، أو في عالم المثال والبرزح، أو في يوم القيامة وأهوالها، حسب مقدار ذلك الدنس ومقدار ترسّخه في تلكم النفوس. والصنف الثاني هو النفوس التي لها ذوات شقيّة وأفعال سعيدة، أي أنّ تلك الذوات تمتلك صورة شقيّة، إلاّ أنّ ظاهراً قسريّاً عرض عليها من خلال طروء الهيئات الحسنة من الطاعات والعبادات علی تلك النفوس. وسيفني ويزول هذا الظاهر عاجلاً أم آجلاً، فتظهر حينها تلكم الذوات الشقيّة في شقائها. أمّا النفوس التي لم تبلغ مرحلة الفعليّة، في أيّة من جهتي السعادة والشقاء، فبقيت ناقصة وضعيفة عند مفارقتها لابدانها، فهي ممّن وُصفوا بأ نّهم مُرْجَوْنَ لاِمْرِ اللَهِ يقضي فيهم ما يشاء. وهذا المطلب هو مقتضي برهان الجزاء في الثواب والعقاب، وهو من لوازم الاعمال ونتائجها، لا نّه ينبغي للاُمور الوضعيّة والعلاقات الاعتباريّة أن تعود في نهاية المطاف إلی العلاقات الوجوديّة الحقيقيّة. ومن جهة أُخري فإنّ البرهان قائم علی أنّ الكمالات الوجوديّة تختلف فيما بينها بحسب مراتب الكمال والنقص، والشدّة والضعف. وهذه هي مسألة التشكيك، وبخاصّة في النور المجرّد. ومن هنا، فإنّ للنفوس مراتب تختلف في قُربها وبُعدها عن مبدأ الكمال ومنتهاه خلال سيرها الارتقائيّ وفي عودتها إلی حيث بدأت، بحيث تقف في درجات يعلو بعضها البعض الآخر، وخاصة فيما يتعلّق بالعلل الفاعلة ووسائط الفيض من جانب الحقّ الاوّل تبارك وتعالی. لذا، فالنفوس الكاملة، كنفوس الانبياء عليهم السلام ونفس رسول الله صلّيالله عليه وآله وسلّم خاصّةً، التي تقف في ذروة درجات الكمال والفعليّة وفي أرقي منازلها، لها مقام الوساطة في إزالة الهيئات الشقيّة الرديئة عن نفوس الضعفاء وعن النفوس التي تقف أدني منها في الدرجة، إن كانت تلك النفوس من نفوس السعداء الذين طرأت علی نفوسهم تلك الهيئات الشقيّة الرديئة، وهذه هي حقيقة الشفاعة الخاصّة في يوم القيامة، وهي مختصّة بمرتكبي الذنوب الكبيرة. وكما شاهدنا، فقد كان ما ذكرناه برهاناً عقليّاً علی هذا المطلب، وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. الشفاعة لا تستدعي تجرّي الاُمّة الإسلاميّة علی المعصيةوأمّا ما ذكره بعض الباحثين في المسائل الاجتماعيّة من أنّ الشفاعة تستدعي تراخي الناس في مجال العمل، وانحرافهم عن الصراط المستقيم من خلال اعتمادهم علی أمر المغفرة الحتميّة، فهو أيضاً كلام عارٍ عن الحقيقة. ويتلخّص مجمل هذه الشبهة بما يلي: أنّ القوانين الجزائيّة المطبّقة في المجتمعات البشريّة عقاباً وثواباً، لو نُفّذت علی نحوٍ جيدّ، لتسبّب ذلك في زيادة احترام الناس لتلك الاحكام الاوّليّة التي دُوّنت ووضعت في تلك المجتمعات من أجل إصلاحها وتنميتها، وأنّ أفراد أيّ مجتمع سيبلغون ـ وعلي نحوٍ أفضلـ الهدف المنشود من الرقيّ والإصلاح في ظلّ تطبيقهم للاحكام والقوانين الاوّليّة الموضوعة في ذلك المجتمع، حسب اختلاف تلك القوانين الموضوعة. أمّا إذا تقرّر تعطيل العمل بالقوانين الجزائيّة لسببٍ ما، فإن ذلك سيوجب تساهل الافراد في تطبيق القوانين، وإلي جرأة أهل الهوس علی التعدّيّ. لذا، ينبغي إغلاق سبيل احتمال نجاة المجرم من العقاب بواسطة الارتشاء أو الشفاعة أو الفدية والعوض، أو بسائر أنواع الحيل، منعاً لحصول المجرم علی نافذة للخلاص عند ارتكابه للجرم، وردعاً له في النتيجة عن ارتكاب الجرم. وعلي هذا الاساس العامّ فقد وُجّه الانتقاد إلی المسيحيّة بأنّ ما ورد فيها من أن عيسي كان مستعداً لاعتلاء خشبة الإعدام فداءً لذنوب العاصين هو أمر غير صحيح، لانّ أتباع المسيحيّة سيتكّلون علی فداء عيسي لتخليص أنفسهم يوم القيامة من حكم الله تعالی وإنقاذها من طائلة العقاب، فيعكفون في العاقبة علی الذنوب والمعاصي. وفي هذه الحال، فإنّ الدين سيتسبّب في انهيار التعالیم الاخلاقيّة واضمحلال شرف النفس وعفّتها، وفي سقوط مقام الإنسانيّة الشامخ، وإلي سوق الإنسان المتحرّك نحو كماله وسعادته القهقري، إلی الانحراف، وإكسابه الرذائل الاخلاقيّة بدلاً من الفضائل بدلاً من أن يكون ذلك الدين مدعاة لرقي المجتمعات وصعودها إلی كمال الأخلاق والإنسانيّة. وقد دلّت إحدي الإحصائيّات علی أنّ المتديّنين بالمسيحيّة يكذبون ويتنكّبون عن صراط الاخلاق والعفّة والعدل أكثر من غير المتديّنين منهم، والعلّة في ذلك هي باعتماد أتباع شريعة عيسي علی حقّانيّة دينهم وتعويلهم علی شفاعة المسيح يوم القيامة، وعدم مبالاتهم بالتدنّس بالذنوب والمعاصي؛ خلافاً للذين لم ينتهجوا ديناً معيّناً، والذين أسلسوا قيادهم لغرائزهم وصفاتهم الفطريّة، إذ لم يُبطل حُكمَ الاخلاق والصفات الغريزيّة والفطريّة في وجود هؤلاء شيء، فتكفّلت الفطرة الإنسانيّة والاخلاق وحكم الوجدان بردعهم عن المعصية والجريمة. وبناء علی هذا الاساس، فقد لجأكثير من الباحثين في العلوم الإسلاميّة إلی تأويل مسألة الشفاعة الواردة في الإسلام عن مدلولها الابتدائيّ وحملوها علی معانٍ أُخري، مثل الشفاعة التكوينيّة والشفاعة والوساطة في تبليغ الاحكام، والتوسّط في إرشاد الاُمّة وهدايتها إلی سبيل الكمال من خلال إبلاغ الرسالات الإلهيّة، علی الرغم من دلالة الآيات القرآنيّة علی تلك الشفاعة وإمضاء سنّة رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم لذلك الحكم الإلهيّ حسب ما جاءت به الروايات المستفيضة المتضافرة. ونقول في الإجابة علی هذه الفئة بأ نّها أخطأت في جميع جوانب البحث، وأ نّها لفّقت كلامها دونما تعمّق في موضوع الشفاعة وحكمها. فالإسلام أوّلاً لم يقرّر مثل هذه الشفاعة التي وضعوا لها هذا التفسير، كما أنّ الشفاعة التي أكّدها الإسلام ليس لها آثار وخصائص كالتي تخيّلوها. علی أنّ من الاجدر بمن يتعمّق في مسائل الإسلام الاجتماعيّة أن يغور في بحث معارفه الدينيّة وأحكامه التشريعيّة القائمة علی هيكل المجتمع الصالح والمدينة الفاضلة، وأن يطبّق جميع الجوانب التي أوردها الإسلام من الاُسس والقوانين الاجتماعيّة علی مواردها الخاصّة، ثمّ ينظر إلی ما تعينه الشفاعة الموعودة، وإلي موضعها بين المعارف التي ذكرها الإسلام والاُسس التي ترتكز عليها. وينبغي أن يُعلم في بداية الامر بأنّ الشفاعة التي أثبتها القرآن الكريم خاصّة بالمؤمنين، وأ نّها تعني عدم خلودهم يوم القيامة في نار جهنّم، بشرط أن يأتوا ربّهم بإيمان مرضيّ ودين حقّ. هذا هو الوعد الذي وعد القرآن المؤمنين بتحقّقه، جعل مشروطاً ببقاء الإيمان والنهج المرضيّ السديد الحميد. ومن جهة أُخري فقد بيّن الإسلام أنّ بقاء الإيمان في خطر عظيم، حيث تهدّد الذنوب، وعلي الاخصّ الكبائر منها، وبخاصّة الإصرار عليها وإدمان ارتكابها، بقاءَ إيمان المؤمن، لانّ نفس ارتكاب المؤمن، وخاصّة كبائر المعاصي، وعلي الاخصّ الإدمان عليها والعكوف عليها، سيؤدّي إلی كسر ذلك الإيمان، وقد يؤدّي إلی الهلاك الدائميّ والشقاء الابدي. لذا، فإنّ الشخص العاصي يقف باستمرار علی مشارف الهلاك، وعلي شفا جرف الزوال والبوار. وتبعاً لذلك فلن يكون بمقدور المذنب أن يحسب نفسه بمنجاة من العقاب، بل يراها متأرجحة علی الدوام بين أمل النجاة والخوف من الهلاك. كما أنّ نفس المؤمن تتردّد دوماً بين الخوف والرجاء، فهو يعبد الله تعالی رغبة ورهبة. كما أنّ له سيراً في حياته الدنيويّة لايجرّه إلی مرحلة اليأس، ولا يوقفه عند مرحلة التساهل والتكاسل والوثوق الكاذب. كما ينبغي أن يُعلم ثانياً بأنّ الإسلام قد وضع قوانينه الاجتماعيّة في الاُمور الماديّة والمعنويّة معاً ودوّنها علی نحوٍ يجعلها تشمل جميع حركات الفرد والمجتمع وسكناتهما، وأ نّه أقرّ لكلّ واحد منهما جزاءً دنيويّاً مناسباً، من العقاب والقضاء والكفّارة والدية والحدّ والتعزير وغير ذلك، وصولاً إلی الحرمان من الحقوق الاجتماعيّة والتوبيخ والملامة. كما أ نّه عمل من أجل ضمان هذه الجهات ـإضافة إلی دعمه حكومة أُولي الامرـ علی إيجاب قانون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل الجميع يتنافسون في تنفيذه، وجعل بعضهم رقيباً علی البعض الآخر، ثمّ لميكتفِ بذلك، بل نفخ أصالة روح الدعوة الدينيّة في أمر حفظ الملكينِ الملازمينِ للإنسان وتدوينهما أعماله وسلوكه في السرّ والعلن، وفي الخلوة وبين الملا، فكبح جماح الإنسان باستمرار عن الإفراط والتفريط والاعتداء علی الحقوق والنواميس والتعدّيات التي تنجم عن قواه الشهويّة والبهيميّة والغضبيّة والوهميّة، وعن استكباره وتمرّده علی ذلّ العبوديّة، فساقه إلی الصراط المستقيم في العلم والعمل والعقيدة، وفي الظاهر والباطن. كما حافظ علی توازن الإنسان من خلال الإنذار والتبشير، والوعد بالثواب والوعيد بالعقاب في مراحل الآخرة التي تعقب عالم الدنيا، وقد أرسي الإسلام وباستمرار أُسسه في تربية المجتمع من خلال تلقينه معارف المبدأ والمعاد وفق هذا النهج، ولفت نظره بهذه الكيفيّة. وهذه هي الجوانب الدينيّة الحقيقيّة التي جعلت الناس يعيشون علی الامل الدائم، وأنجتهم من براثن اليأس المطلق والانتحار، ولفتت المرء علی الدوام إلی أصالة نفسه وحقيقتها، وأعلنت بأنّ الله تعالی هو الرقيب الحاضر والشاهد الدائم. وحقّاً، فإنّ مثل هذه التعالیم والاحكام ستؤدّي إلی ترعرع عالم السعادة والامل في قلوب المذنبين، وخاصّة إذا اقترنت تلك التعالیم بأهل رحمة الشفاعة الخاصّة. بل ما أكثر أن أنجت أُولئك المذنبين من الهلاك الابديّ بهذه البشري بالرحمة والمغفرة، وهذه هي حقيقة الشفاعة وآثارها الإيجابيّة. وثانياً: فإنّ الشفاعة التي ذكرها الإسلام تشريعاً بلحاظ الآيات القرآنيّة والروايات الواردة عن النبيّ والائمّة عليهم السلام عائدة إلی يوم القيامة. وأثرها ـ كما سبق أن ذكرنا ـ يتمثّل في إنقاذ المؤمنين من الخلود في النار. أمّا سائر أنواع العذاب الدنيويّ والاُخريّ، فمحفوظة في مواضعها. لذا، فهذه الاحكام الجزائيّة من الحدود والتعزيرات، وهذه الاحكام التكوينيّة الدنيويّة، من انعكاسات الذنوب، وشدّة سكرات الموت، وهول عالم القبر وسؤال منكر ونكير، وأنواع الغصص والآلام المثاليّة البرزخيّة، وهول البعث والنشور والقيام في يوم القيامة، ومقام العرض وغير ذلك، محفوظة بأجمعها كلاّ في موضعه. وافرضوا الآن أنّ المؤمن يوقن بأ نّه لن يخلّد في جهنّم؛ أفلايكفي نفس وروده عالم البرزخ ومكثه فيه بالقدر الذي يطهّره، ومشقّات ومصاعب عالم القيامة، من السؤال والحساب والميزان والصراط وصحيفة الاعمال والموقف عند الله تعالی، ومصاعب عالم البرزخ وتطاوله، وعالم القيامة وفي ردع المؤمن عن الذنب وصرفه عنه؟ وبغضّ النظر عن ذلك، أفينحصر سبيل ردع المؤمن عن المعصية في تخويفه وإنذاره؟ أفلا يكفي نظر رحمة الربّ الودود وهبوب نسائم الجذبات الإلهيّة والنغمات القدسيّة لسوق المؤمن إلی المنزل المقصود وهدايته إلی حرم أمن الله وأمانه؟ أفلا يكفي ذلك لإحراق جذور المعصية واستئصالها من وجوده. الجانب العاطفيّ لدي الشيعة أقوي بسبب أملهم في شفاعة أوليائهموثالثاً: أنّ هذه الشفاعة بذاتها هي سبب لتقليل الذنوب وليس لزيادتها، لانّ اتّهام أتباع عيسي بأنّ ذنوبهم تفوق ذنوب سائر الاقوام لميقم الدليل علی صحّته، وسيبقي مجرّد ادّعاء يفتقر إلی الدليل؛ يضاف إلی ذلك أنّ إحصائيّة ذنوب المسيحيّين وتجرّؤهم علی المعصية لاتشير إلی هذا الامر، بل الامر عند اليهود أشدّ وأكثر، والخشونة والعنف في أوساطهم أكثر بأضعاف مضاعفة. وفي المقابل فإنّ الرحمة والعطف والشفقة في أوساط المسيحيّين تفوق نظائرها لدي اليهود. وهو أمر نابع من أمر الشفاعة والاعتقاد بتضحية السيّد المسيح، علی الرغم من أنّ ذلك لاحقيقة له. يضاف إلی ذلك أنّ القرآن الكريم وصف المشركين واليهود بالفظاظة والغِلظة والقسوة وتحجّر القلوب وتبلّد الاحاسيس، ونعتهم بشدّة عدائهم للمؤمنين، بينما نعت المسيحيّين في مواضع بالرحمة والرأفة والعطف، ووصفهم بقربهم مودّةً من المؤمنين. والعلّة في مماثلة الدين المسيحيّ للدين الإسلاميّ في سرعة الانتشار وسرعة اعتناق الناس له تكمن في هذه الرحمة والجوانب العاطفيّة التي تنسجم مع فطرة البشر. وعلي أساس رحمة السيّد المسيح هذه صرنا نري الكثير من أتباعه يشاركون في أعمال ذات جانب عاطفيّ كبير، كمعالجة المجذومين وتمريضهم، وصرنا نشاهدهم وهم يعرّضون أنفسهم إلی مثل هذه الاُمور الشاقّة تجليلاً منهم لتضحية المسيح الذي جسّد أمامهم ينبوع الرحمة. أمّا قساوة المسيحيّين وغلظتهم في كثير من الاُمور، فغير نابعة عن تلك الشريعة، بل ناشئة عن انحرافهم عنها. والامر كذلك بالنسبة إلی المسلمين الذين يؤدّي انحرافهم عن الشريعة النبويّة المقدّسة ـ بدل تمسّكهم بها ـ إلی قساوتهم وتجرّؤهم. ونلحظ بالوجدان والبديهة أنّ العطف والمودّة والرحمة لدي الشيعة تفوق نظائرها لدي غيرهم، بسبب اقتفاء الشيعة خطوات أئمّتهم في الدين الذين ضحّوا بكلّ ما لديهم فداءً للإسلام والمسلمين، فأشرقت في نفوس الشيعة روح الرقّة واللين حتّي صار ذكر الإمام الحسين عليه السلام ـ وهو الذي فدي نفسه عملاً لمذهب جدّه رسول الله ولنهج أبيه علی وليّاللهـ كافٍ بمفرده لكبح بحار ثائرة من الغضب والحقد والطمع والبخل وغيرها، ولتفجير بحار من الرحمة والمودّة واللين والإيثار والعفو تجاه المجتمعات والاقوام والملل الاُخري. أفليس هذا ناشئاً عن الشفاعة العمليّة؟! إنّ هذه الشفاعة العينيّة الظاهريّة تمتلك باطناً وحقيقة في الملكوت الاعلي، وستطلع هذه الشفاعة هناك أيضاً، فتحرق بيادر الذنوب وتستأصلها بشرارة واحدة من الرحمة. والسبب الذي حدا بهؤلاء الباحثين إلی تصوّر عدم امتلاك الشفاعة لمثل هذا الاساس الراسخ، هو أ نّهم تطلّعوا إلی الإسلام من زواية واحدة وجانب واحد، وهو الجانب الظاهريّ المتمثّل في القوّة والشوكة والامر والنهي والتنظيم والجزاء والعقاب. وإذ أعمي هؤلاء المساكين أنفسهم بأيديهم، فلم يكن لهم بعدُ ثمّة أعين ينظرون بها إلی الإسلام ليعلموا أنّ له كذلك مقاماً للرحمة والعطف والإيثار والعفو والعرفان والتوحيد والفناء والولاية والشفاعة وآلاف من الاُمور المعنويّة والحقيقيّة والباطنيّة والروحيّة التي يجهلون أمرها. يَعْلَمُونَ ظَـ'هِرًا مِّنَ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَِا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَةِ هُمْ غَـ'فِلُونَ. [25] أجل، إنّ نتيجة امتلاك عين واحدة هي الحرمان عن إدراك كثير من الحقائق. حصول الشفاعة يوم القيامة وليس في البرزخوخلاصة الامر، فقد بقيت ضمن مسائل الشفاعة مسألة واحدة لمنتعرّض لها بعدُ، وقد أشرنا لها مؤخّراً، وهي أن نعلم متي تتحقّق الشفاعة. والمراد بالشفاعة تلك الشفاعة التي ترفع العذاب. من جملة الآيات التي يمكن من خلالها إدراك زمن تحقّق الشفاعة: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَـ'بُ الْيَمِينِ * فِي جَنَّـ'تٍ يَتَسآءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. [26] وقد مرّ خلال بحثنا في هذه الآيات أ نّها تتحدّث بلسان طائفة يقول أفرادها: لقد كنّا كذا وكذا، ولقد فعلنا كذا وكذا؛ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـ'عَةُ الشَّـ'فِعِينَ. وهذه الآيات تتحدّث عن أوصاف المشمولين بالشفاعة وأوصاف المحرومين منها. ونقول الآن بأنّ الآيات المذكورة تدلّ ـ مضافاً إلی دلالتها علی أصل الشفاعةـ علی أنّ شفاعة الشافعين نافعة في فكاك النفوس من الارتهان، وفي نجاتها من الخلود في جهنّم؛ أمّا سائر أهوال يوم القيامة ومشقات البرزخ ومخاوفه، فباقية في مواضعها، ولا دليل لدينا علی تحقّق الشفاعة في شأنها. ويمكننا أن نقول إنّ هذه الآيات تفيد انحصار الشفاعة في أمر الاستخلاص من رهن جهنّم، كما يمكن الاستفادة منها علی أنّ المحاورات بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار إنّما تجري بعد استقرار أصحاب الجنّة فيها واستقرار أصحاب النار فيها، وأ نّها تحصل بعد تحقّق الشفاعة في حقّ طائفة من المجرمين وإخراجهم بواسطتها من النار. وذلك لعدّة أُمور: أولاً: قوله: فِي جَنَّـ'تٍ يَتَسَآءَلُونَ؛ الدالّ علی الاستقرار في الجنّات. ثانياً: قوله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؛ لانّ السلوك لايطلق علی مطلق الدخول، بل علی نوع من الدخول المنظّم لطائفة وجماعة. وثالثاً: قوله: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـ'عَةُ الشَّـ'فِعِينَ؛ وكلمة « ما » نافية للحال؛ يعني أنّ شفاعة الشافعين لن تنفعهم في حالهم تلك. ورد في « تفسير علی بن إبراهيم » في ذيل قوله تعالی: وَمِن وَرَآنءِهِمْ البَرْزَخُ هُوَ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرِينِ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَهُوَ رَدّ علی مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ القَبْرِ وَالثَّوَابَ وَالعِقَابَ قَبْلَ القِيَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَاللَهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِلاَّ البَرْزَخَ، فَأَمَّا إِذَا صَارَ الاَمْرُ إِلَيْنَا فَنَحْنُ أَوْلَي بِكُمْ. [27] وهذه الرواية صريحة في أنّ الشفاعة لا تعني رفع العذاب قبل يوم القيامة؛ أمّا الروايات الواردة في حضور رسول الله والائمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين عند الاحتضار وفي القبر، وإعانتهم للمؤمن في الشدائد التي تواجهه، فلا تدخل في باب الشفاعة، بل هي من قبيل التصرّف والحكومة التي فُوّضت إليهم بإذن الله تعالی. وسنذكر قريباً في باب الاعراف إن شاء الله تعالی أنّ مخاطبة أصحاب الاعراف ( وهم الائمّة الطاهرون ) لاصحاب النار: أَهَـ'´ؤُلآءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمْ اللَهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلآ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ؛ [28] وخطابهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ هو خطاب من نوع الحكومة صادر من الائمّة وولاة الامر. ويمكن ـ لجهة من الجهات ـ أن نعتبر الآية التالية من هذا القبيل: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـ'مِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ ـ الآية، لانّ وساطة الإمام في إعطاء صحيفة الاعمال وفي قرائتها هو من قبيل الحكومة المفوّضة له. ونستخلص من مجموع ما مرّ أنّ زمن تحقّق الشفاعة مقارن للموقف الاخير من مواقف يوم القيامة، وأ نّها تحصل من خلال شمول البعض بغفران الله تعالی، أو من خلال منع دخول البعض نار جهنّم، أو بإخراج بعض الداخلين في النار بواسطة اتّساع رحمة الحقّ وظهور الكرامة والحَمْدُ لِلَّهِ. وقد انتهي بحثنا في أمر الشفاعة وَ لِلَّهِ الحَمْدُ وَلَهُ المِنَّةُ، وكان بحثاً وافياً كاملاً قد استوعب جميع جوانب مسألة الشفاعة، فصار جليّاً أنّ الشفاعة هي من المسلّمات؛ ويدعم هذا القول كلام الإمام الصادق في رواية عمارة؛ فقد روي الصدوق في « الامالي » عن القطّان، عن السُّكّري، عن الجوهريّ، عن ابن عمارة، عن أبيه عمارة، قال: قال الصادق جعفربن محمّد عليه السلام: مَنْ أَنْكَرَ ثَلاَثَةَ أَشْيَاءَ فَلَيْسَ مِن شِيعَتِنَا: المِعْرَاجَ وَالمُسَاءَلَةَ فِي القَبْرِ وَالشَّفَاعَةَ. [29] اللهمّ إنّك تعلم وتخبر ما في ضمائرنا، من أ نّنا لانعتقد بالشفاعة فحسب، بل إنّنا ـ كذلكـ لا نعوّل علی شيء غير أملنا بشفاعة موالينا المعصومين الاربعة عشر، وتعلم أ نّنا قد جعلنا ولايتهم والبراءة من أعدائهم شعارنا الذي رضعناه قبل لَبن الاُ مّهات، فهو معنا لا يفارقنا حتّي بعد الموت، وتخبر أ نّنا أوكلنا الدنيا والآخرة وما فيهما لاهليهما وطالبيهما، فلميكن لنا من بُغية وقصد إلاّ المحبّة الخالصة الممحّضة لاهل البيت: امشب آن نيست كه در خواب رود چشم نديم خواب در روضة رضوان نكند أهل نعيم خاك را زنده كند تربيت باد بهار سنگ باشد كه دلش زنده نگردد به نسيم [30] بوي پيراهن گم كردة خود ميشنوم گر بگويم، همه گويند ضلالي است قديم عاشق آن گوش ندارد كه نصيحت شنود درد ما نيك نباشد به مداواي حكيم توبه گويندم از انديشة معشوق بِكن هرگز اين توبه نباشد، كه گناهي است عظيم اي رفيقان سفر! دست برداريد از ما كه بخواهيم نشستن به دَرِ دوست مقيم اي برادر غم عشق آتش نمرود انگار بَر مَن اين شعله چنانست كه بر إبراهيم مرده از خاكِ لحد رقص كنان بر خيزد گر تو بالاي عظامش گذري، وَهْيَ رميم طمع وصل تو ميدارم وانديشة هجر ديگر از هر چه جهانم نه اميدست ونه بيم عجب از كشته نباشد به در خيمة دوست عجب از زنده كه چون جان به در آورد سليم سعديا عشق نياميزد و شهوت با هم پيش تسبيح ملايك نرود ديو رجيم [31] لِي خَمْسَةٌ أُطْفِي بِهِمْ حَرَّ الجَحِيمِ الحَاطِمَةَ المُصْطَفَيوَالمُرْتَضَي وَابْنَـاهُمَـا وَالفَاطِمَة اللَهُمَ بِحَقِّهِمْ وَبِحَقِّ أَبْنَائِهِم الطَّاهِرِينَ الطَّيِّبِينَ لاَ سِيَّمَا وَلِيِّكَ القَائِمِ المُنْتَظَرِ نُوِّرْ قُلُوبَنَا بِمَعْرِفَتِهِمْ وَارْزُقْنَا لِقَاءَهُمْ وَشَفَاعَتَهُمْ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. ارجاعات [1] ـ الآية 43، من السورة 15: الحجر. [2] ـ الآية 153، من السورة 6: الانعام. [3] ـ الآية 43، من السورة 35: فاطر. [4] ـ الآية 29، من السورة 55: الرحمن. [5] ـ الآية 39، من السورة 13: الرعد. [6] ـ الآية 64، من السورة 5: المائدة. [7] ـ الآية 48، من السورة 4: النساء. [8] ـ الآية 31، من السورة 4: النساء. [9] ـ الآية 99، من السورة 7: الاعراف. [10] ـ الآية 14، من السورة 83: المطفّفين. [11] ـ الآية 10، من السورة 30: الروم. [12] ـ الآية 254، من السورة 2: البقرة. [13] ـ الآية 48، من السورة 74: المدّثّر. [14] ـ الآية 3، من السورة 10: يونس. [15] ـ الآية 255، من السورة 2: البقرة. [16] ـ الآية 28، من السورة 21: الانبياء. [17] ـ الآيتان 6 و 7، من السورة 87: الاعلي. [18] ـ الآية 107، من السورة 11: هود. [19] ـ الآية 83، من السورة 7: الاعراف. [20] ـ الآية 34، من السورة 2: البقرة. [21] ـ الآية 175، من السورة 7: الاعراف. [22] ـ الآية 124، من السورة 2: البقرة. [23] ـ الآية 48، من السورة 4: النساء. [24] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 1، ص 164 إلی 171. والآية هي الآية 7، من السورة 3: آل عمران. [25] ـ الآية 7، من السورة 30: الروم. [26] ـ الآيات 38 إلی 42، من السورة 74: المدّثّر. [27] ـ «تفسير القمّيّ» ص 449. [28] ـ الآية 49، من السورة 7: الاعراف. [29] ـ «أمالي الصدوق» ص 177. [30] ـ «كلّيات سعدي» ص 237 و 238، الغزليّات، طبعة فروغي. يقول: «ليست الليلة بالتي يهجع فيها النديم، وبالتي لا يرقد فيها في جِنان الرضوان أهلُ النعيم». يتعاهد نسيمُ الربيع الارضَ القفر فيبعث فيها الحياة، ولا غَرو أنّ القلب قُدّ من جلمدٍ إنّ لميُحيِه هبوبُ النسيم». [31] ـ يقول: «ها أنا ذا أشمّ رائحة قميص حبيبي الضائع، ولو فُهمْتُلقلتم: ها أنت ذا في ضلالك القديم. ليس للعاشق ثمّة أُذن ليُصغي لنُصح ناصح، لانّ سقمنا لايشفيه ترياق طبيب حكيم. يقولونَ، وأ نّي لي الامتثال، تُبْ واقلعْ عن الحبيب، وهيهات فذاك ذنبٌ عظيم. فيا رفاق المسير، سألتكمُ أن تكفّوا، فقد نوينا عند أعتاب دار خِلّنا أن نُقيم. إنّ حزن العشق ـ يا صاح! ـ كنار نمرود، لكنّها كانت عَلَيَّ كما كانت قبلُ علی إبراهيم. سينهض الميّت المسجّي من تراب لحده راقصاً، لو خَطرتَ علی عظامه وهي ï ïرميم. أطمع في وصالك، وأخشي هجرانك، فليس لي من كلّ دنياي خوف ولارجاء مُقيم. ولا عجب من القتيل المردي عند اعتاب خيمة الحبيب، بل العجب من الحيّ المعافي السليم». «فحذار يا «سعدي» لا تشيبنَّ عشقاً بشهوة، إذ لا يدنونّ من الملائكة المسبّحة شيطانٌ غويٌّ رجيم». |
|
|