|
|
الصفحة السابقةفي معني الإنيّة: بیَنِي وَ بَيْنَكَ إِنّیِّي يُنَازِعُنِيو لن يبقي في حال الفناء من فاصلة أو حجاب، بل ستوزل جميع الحُجب، حتّي حجاب الإنيّة. بَيْنِي وَ بَيْنَكَ إِنِّیِّي يُنَازِعُنِي فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إِنِّیِّي مِنَ البَيْنِ العلاّمة: لقد وجد الإنسان كمالات معيّنة في هذه الدنيا، و حين حصل الإنسان ـ بما انّه إنسان ـ علی الكمال، فقد اكتسبه في هذه النشأة، و حين حصل علی تعيّن من العالم العلوي و هبط الی الاسفل، فانّه لم يكن جسماً و لم يكن له جسميّة، لذا فانّه لم يمتلك الإسم و خصئص الموقع و الموضع؛ ثم انّه حين قدم الی بُعد الكثرات واستقرّ في نشأة المادّة و نشأة الجسمانيّة و تلبّس بالجسد، فقد وجدت ـ من ثمّ ـ هذه الآثار و الخصوصيّات و ظهر هذا الإسم، و ظهر: هذا إنسان، هذا زيد، هذا عمرو، ثم سار الإنسان مع هذه الكثرات و الكتسب الكمال؛ امّا حين عاد الی الله و فني في المقام الاخير، فانّ عينه الثابتة ستبقي في النهاية، و لن تضمحلّ الاعيان الثابتة لزيد و عمرو و بكر و لن تصبح واحدة. انّ الفناء في ذاتا لله ليس ملازماً لزوال العين الثابتة و فنائها، بل لن تزول العين الثابتة و لن تفني بوجه من الوجوه، و لن تفسد أو تزول زيديّة زيد و عمريّة عمرو، و لن تبطل هويّتهما. و لو تقرّر انّ العين الثابتة ستزول و انّ الهوية ستبطل في النهاية عند الكمال (أي عند مقام الفناء في الله)، فما المبرّر ـ يا تري ـ لهذه المساعي، و هذه المحن، و هذه المجاهدات، و هذه العبادات؟! و لمن ستكون الدعوة إن تقرّر عدم بقاء إسم و لا رسم و لا «أنا» و لا «نحن»؟ و الی مَ يدعو الانبياء و الاولياء الإنسان فيقولون له: جاهد و تحمّل المحن؟ أللفناء و العدم؟ إن كان العدم نتيجة كسب الكمالات، كانت الدعوة عبثاً، و ما استجاب أحد، و ما كان لإستجابته من مغزي. لقد كانت الكمالات مختصّة بأجمعها بذات الحقّ جلّ و علا منذ البدء، و هي الآن كذلك؛ و الدعوة الی الكمال المطلق، أي الی الفناء في ذات الحضرة الاحديّة، أي الی فناء زيد في الكمال المطلق. فيجب ـ اذاً ـ أن يبقي زيدٌ ما، و أن يبقي تعيّن و عين ثابتة و هويّة، لنقول انّ زيداً ذلك و الهويّة تلك قد نالا كمالهما و فنيا في ذات الحقّ تعالي. سيكون كلامنا هذا صحيحاً حين نقول: فني زيد في ذات الحقّ؛ و هذا هو منتهي كمال زيد و غايته. امّا ان يفني أصل زيد و يعدم من خلال الفناء، و أن لا تكون العين ثابتة خلال الفناء، لنقول انّ زيداً قد فني؛ فانّه كلامٌ واهٍ بلا.ساس و لا يمكن التفوّه به. امّا في الشعر القائل: بَيْنِي وَ بَيْنَكَ إِنِّي يُنَازِعُنِي، فغيه أشياء عدّة، الاوّل «بيني»، الثاني «بينك»، الثالث «إنّيي» و الرابع «يُنازعني»، و هي تمثّل أموراً واقعيّة أربعة. و لا يمكن القول بأن القائل يطلب بكلامه زوالها جميعاً و استحالتها جوفاء بلا معني و لا جدوي. أو ليس هناك أيّ أثر للإنسان و الإنسانيّة في الجنّة و العالم العلوي! إن تقرّر أن لا يكون في الجنّة من شيء و هي عالم الفناء فأيّ جنّةٍ هي يا تري؟ التلميذ: ليس هناك من شيء في عالم النفاء غير ذات الحضرة الاحديّة، لانّ الفرض انّ الفناء في الذات. و اذا تقرّر أن تدخل الكثرات في ذات الحضرة الاحديّة، فإنّ اشكالات لا تُحصي ستُثار علی ذلك. فالزيديّة و العمريّة و الاسماء والنقوش و التعيّنات و الاعيان الثابتة هي بأجمعها من مثار الكثرة و لا سبيل لها الی تلك الاعتاب. وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا. [1] لذا لا يمكن وجود شيء ثابت في عالم الفناء، إذ لا يمكن ورود شيء في عالم الذات، و هذا الامر من المسلّمات. بلي، جميع الكثرات باقية في عالم البقاء بعد الفناء بحدودها و شؤونها و آثارها، أي حين تعود النفس الی الكثرات بعد حال الفناء، فييدأ السير الی الخَلْقِ بِالْحَقِّ، فانّ جميع آثار الكثرة ستكون قائمة كلاّ في موضعه و محلّه دون ذرّة من زيادة أو نقصان، و جميع الكمالات المكتسبة في هذه العوالم، و التي تلتذّ بها النفس و تبتهج، منا لعلوم و الفنون و المعارف، موجودة بأجمعها في عالم البقاء. امّا في نفس الفناء فليس من شيء، و لا يمكن أن يكون شيء، فالكمال هناك منوطٌ بالفناء، و هذا الكمال هو أعظم الكمالات، إذ من يمكنه أن يري في نفسه الكمال في مقابل الذات الاحديّة؟ و هي إذ تمتلك الكمال، فانّه لن يوجد في محلّ آخر. و أعلي درجة لمنزلة الإنسان و الإنسانيّة، أن يري الإنسان نفسه معدومة، و يري الوجود المطلق منحصراً في ذات الحقّ. و حين يختصّ الوجود و حقيقة الكمال بذات الله، فانّ الحديث عن الوجود و الكمال ـ من ثمّ ـ سيكون غير صحيح. و حين يمتلك الهويّة و التعيّن، فانّ حمل الاعيان الثابتة و اصطحابها الی هناك سيكون أمراً غير لائق. هناك مقام هو هو؛ فما شأن الاعيان الثابتة. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. [2] انّ بُطلان و فناء و زوال العين الثابتة في عالم الفناء يمثّل الإقرار و الإعتراف بوحدانيّة الله و الاعتراف بالولاية، أي الاعتراف بحقّ العبوديّة المحضة للعبد، و ليس معني ذلك العبث و اللاجدوي. أي انّ الإنسان يدّعي الربوبيّد في عالم الكثرة، و تتجاذب التعلّقات قلبه، فكلُّ يجرّه اليه؛ امّا اذا وصل الی عالم الفناء و أقرّ أماما لحضرة الاحديّة بفنائه المحض و اعترف بانعدامه الصرف، ثمّ تخلّي أخيراً عن وجوده في المرحلة الاخيرة خفني و صدق عليه معني الفناء، فليس هناك من ذات لتري نفسها، أو لتري الله، لانّ الذات لن توجد في الله، و لا سبيل لزيد و عمرو الی هناك، اذ هناك الحقّ الذي يري نفسه، و الحقّ الذي يُدرك الحقّ، إذ لا شيء غير الحقّ، لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ وَ لاَ هُوَ إلاَّ هُوَ. انّ الجنّة و لذّاتها عائدة بأجمعها الی عالم الكثرة، و تحقّق في مرحلة البقاء بعد الفناء؛ و لدينا ثمان جِنان، و ليس هناك في جنّة اللقاء و جنّة الذات (التي يمثّل الفناء درجتها العليا) الاّت ذات حضرة الحقّ. و هذا الإنهدام و الفناء يفوق بوجوده جميع الوجودات. فِداءً لهذا الفناء الذي يمثّل حقيقة الوجود و أصل الوجود. امّا في شعر «بَينِي وَ بَيْنَكَ إِنِّیِّي يُنَازِعُنِي»، فمع انّ هذه الاشياء الاربعة موجودة، الاّ انّ الشاعر قد ملّ منها و تعب، فهو يرجو رفعها و إحالتها عدماً، فيقول: « فَأرْفَعْ بِلُطْفِكَ إنِّیِّي مِنَ البَيْنِ »؛ إرفع إنّني و أعدمني و أفني في ذاتك، و أوصلني الی الفناء المحض. فإن زالت الإنيّة من البين، تبعتها الاشياء الثلاثة الاخري في الزوال، و لن تبقي حينذاك منازعة و لا «بيني» و لا «بينك»، لانّ جميع هذه الإضافات و المنازعات قد تبعت الإنيّة. هناك في عالم التوحيد وحدة محضة، و الاّ لما كان توحيداً؛ و ليس فيه من أحد غير الله، فهو وحده بتأمّل نفسه و يستغرق في ذاته. امّا أمثال زيد و عمرو و الإنيّات و الاعيان الثابتة، فستبقي بأجمعها خارجاً لاحقّ لها في الورود. فيمعني: وَ مِن غِيرَتِهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَ مَا بَطَنَو لقد قال رسول الله صلّي الله عليه وآله: إِنَّ سَعْداً لَغَيُورٌ وَ أَنَا أَغَيْرُ مِنْهُ وَاللَهُ تَعَالَي أَغَيْرُ مِنِّي، وَ مِن غِيرَتِهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَ مَا بَطَنَ. و لازم الغيرة أن لا تدع غيراً يدخل في البين، و الاّ ما كانت غيرةً؛ و لقد كانت حُرمة الفواحش و القبائح علی هذا الاساس، فالاعتماد علی الوجود الشخصي و الانيّة في مقابل الله ينبع من الفرعونيّة. و أنّي سيمكن لهذه الانيّة أن تجد سبيلها في ذات الحقّ؟ اذ سيطردها و يبعدها بصرخة واحدة لا تبقي لها أثراً الی حدود الجزائر الخالدة. كما انّ مآل بقاء العين الثابتة حال الفناء، إنكارٌ للفناء؛ أفلن يكون لدينا ـ من ثمّ ـ فناءٌ في ذات الله! و ما الذي سيؤول اليه آنذاك مفاد: الی اللَهِ الْمَصِيرُ؛ و الی اللَهِ تَصِيرُ الاْمُورُ؛ و إِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ و أساساً فأيّ إشكال عقليّ أو نقليّ سيستلزمه الفناء في ذات الله، ليُلزمنا ذلك الإشكال بالقبول ببقاء الاعيان الثابتة؟ العلاّمة: إن كان للكمالات اختصاص بعالم البقاء، و كان الزوال و العدم المحض حاكماً علی عالم الفناء بشكل مطلق عموماً، و كانت العين الثابتة ستصبح مضمحلّة هالكة؛ فبأيّ شيء ـ إذاً ـ ستكون العودة في عالم البقاء؟ ذلك لانّه ـ و حسب الفرض ـ لا شي في عالم الفناء، و قد بطلت زيديّة زيد و أصبحت مندكّة معدومة. فبأيّ شيء ستحصل العودة من ثمّ الی البقاء؟ إذ ليس هناك من زيد و لا تعيّن و لا عين ثابتة؛ الكثرات في هذه الحال سواسية بأجمعها، و كان الرجوع قد صار علی حدٍّ سواء لجميع الموجودات و الماهيّات و الإنيّات، فإذا شاء زيد العودة، فبأيّ شيء سيعود يا تري؟ و في أيّ شيء سيعود؟ و تبعاً لذلك فلن يكون للبقاء ـ اصولاً ـ من معني في تلك الحال. و بغضّ النظر عن ذلك، فليس في الفناء من شيء، و لانّه لا شيء هناك فبأي هويّة و إنيّة سيتحقّق عنوان العودة من الفناء؟ و تبعاً لذلك، فانّ البقاء سيتّخذ لنفسه صورة الحدوث و الخلق الجديد، فلقد كان زيد و تحرّك ثم فني و اندكّ في الذات البسيطة و فني و انعدم دون أن يبقي له أثر؛ ثمّ انّ الله تعالي يخلق انيّة و عيناً ثابتة اخري و يخلق فيها وجوداً و يتجلّي فيها، و هو ما يمثّل حدوثاً و خلقاً جديداً لا بقاءً بعد الفناء. لذا فانّ عالم الكثرات محفوظ في محلّه، و ستكون الكثرات موجودة و متحقّقة في العالم بعنوان حقائق، و سيكون لكلّ حقيقة من هذه الحقائق كمال في أقصي نقطة في مسيرها فنحن ندعوها الی هذا الكمال، و ليس الكمال معقولاً دون بقاء العين الثابتة. امّا لو قلنا أن ليس هناك عند العود في الفناء و في المعاد من شيء غير الفناء و غير الفناء في الله، و أن ليس هناك من كثرات في البين، فانّه سيكون قولاً لا يمكن القبول به. و في حال الخلق الجديد التي ندعوها بإسم البقاء، فانّها لا تختصّ بهذا الموجود الفاني، بل لانّ هذا الخلق الجديد ـ تبعاً للفرض ـ لا يرتبط بذلك الموجود الفاني، و لانّ العين الثابتة لا تبقي لتوجب الإرتباط و حمل هو هو، لذا فانّه يمكن عدّ أيّ! خلق جديد بقاءً لايّ موجود فانٍ. فيمكن ـ مثلاً ـ ان نعتبر زيداً حال البقاء بعد الفناء بقاءً لعمرو الفاني، أو نعتبر عمرو الباقي بعد الفناء بقاءً لزيد؛ و هكذا فانّ بامكاننا اعتبار أيّ شيء بقاءً لايّ شيء، و بطلان هذا الامر واضح. و لا يمكن إخراج الكلام عن مداره بقراءة إِنَّ سَعْداً لَغَيُورٌ و أمثال هذه الروايات؛ كما انّ الآيات القرآنية الی اللَهِ تَصِيرُ الاْمُورُ و أمثالها صحيحة بأجمعها، لكن المشكل في معناها؛ فهل هي تبيّن فناء الموجودات علی نحوٍ نزول معه أعيانها الثابتة أم لا؟ أتبيّن الفناء علی نحوٍ تبقي معه الاعيان الثابتة؟ و هذا المعني هو المراد، لانه يقول: تَصِيرُ الاْمُورُ؛ فيجب أن تكون اُمورٌ ما قد بقيت لتصدق صيرورتها الی الله. و لقد أُثبت في بحث الفلسفة انّ كلّ نوع من أنواع المجرّدات (مثل الملائكة) متميّز متفرّد، فليس هناك في الملائكة عنوان النوع و أفراداً من ذلك النوع، لانّها مجرّدة غير ماديّة، و لا جنس لها و لا فصل. لذا فانّ كلّ نوع من المجرّدات متميّز لا يتكرّر. و قد أُشكل في هذه الحال أن كيف تنزل هذه الانواع المتميّزة المتفرّدة الی هذا العالم مع انّه لا كثرة لديها؟ و كيف تُوجِد هذه الكثرات؟ في وحدة جبرئيل و كيفيّة ارتباطه مع الموجودات الكثيرة في الدنياليس لدينا في تلك النشأة الاّ جبرئيل واحد و ميكائل واحد لا أكثر؛ فبأيّ! كيفيّة تتحقّق منهما هذه الكثرات و الآثار الكثيرة التي تمثّل آثارهما الوجوديّة؟ أجابوا: بواسطة التعيّن الإسمي الذي يمتلكانه. فالكثرات تحصل في الخارج بواسطة هذا التعيّن، و لا تزول خصوصيّة الكثرة. و لهذا الجانب فانّ الفرد لدينا ليس واحداً، بل هو آحاد و أفراد مختلفة و كثرات متباينة، الاّ انّه ـ علی أيّ! حال ـ لا يمكن اثبات الكثرة لها بحيث يكون لها كثرة حقيقيّة ان جبرئيل واحد، و فردئٌ من نوع مجرّد، فهو يأتي الی هذا العالم فيوجد نوعاً من الكثرة بواسطة الارتباط الذي يمتلكه مع هذا العالم. و لان جبرئيل يمتلك تعيّناً إسميّاً و وحدة عدديّة، فانّه يقف في مقابل ميكائيل و عزرائيل و إسرافيل؛ الاّ انّه باعتبار امتلاكه تعيّناً اسميّاً، فانّه ـ لهذه الجهة ـ ينتشر في جميع العالم كالشمس و يُوجِد الكثرات. انّ الشمس واحدة و نورها واحد أيضاً، الاّ انّ هذه الشمس الواحدة توجد نوعاً من الكثرة بلحاظ إشراقها و سطوعها علی أكان متعدّدة، فهي تشرق علی ألف موضوع فتُدعي في كلّ موضوع بإسم ذلك الموضع و توجد ألف فرد. انّنا لا نتملك سبيلاً الی جبرئيل الكثير، بحيث تكون حقيقته متعدّدة، و يكون له أفراد كثيرون، و لكن و مع وجود وحدته بسبب التعيّن الذي له، فانّه يوجد الكثرة في العالم. فهو بنفسه غير متكثّر، الاّ انّه يوجد الكثرة. قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ علی قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَهِ. [3] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ علی قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِينٍ. [4] و القصد انّ جبرئيل قد اكتسب نوعاً من الكثرة بسبب نزوله الی هذا العالم، فحصل علی ارتباط مع الكثرات و اتّصل بها بواسطة هذه الكثرة التي اكتسبها، فذهب عند النبيّ، كما ذهب عند هذا الإمام و ذلك الإمام؛ و الخلاصة فقد قالوا هذا الكلام في شأن الانواع المجرّدة المتفرّدة كمثل جبرئيل، امّا اذا قلنا في أمر الارواح الفانية بأنّ العين الثابتة نزول حال الفناء و تنعدم فلا يبقي لها أثر؛ فبأيّ نحوٍ ستنزل من ثمّ؟ و كيف ستأتي الی عالم البقاء؟ هنالك حيث لا تعيّن لزيد و لا هويّة باقية له، فكيف سيكون نحو ارتباطه مع عالم الكثرة؟ من البديهيّ انّه لن يتمكّن من إقامة أيّ نوع من الإرتباط، لانّه لايمتلك تعيّناً بأي وجه! في معني الفناء في الله، و معني الفداء، و حقيقة العدم و خلع لباس التعيّنالتلميذ: انّ زيداً لا يري و لا يسمع و لا يشعر حال الفناء؛ فما هي هذه الحال؟ و بماذا سيُجيب لو سُئل: من أنت؟ أين أنت؟ ما كنت؟ و ما ستكون؟ فهو لا يمتلك لساناً و لا شعوراً و لا عقلاً و لا إدراكاً، بل هو غارقٌ في أنوار الجَلَوات الإلهيّة، قد خسر نفسه و تخلّي عن الوجود، و نفض أثواب التعيّن و تخلّي عنها، و أغرق الوجود في أنوار عظمة حضرة الحقّ جلّ و علا؛ فهو حقيقة لا يمتلك انيّة و لا إسماً و لا رسماً؛ لا يفهم إذا كلّمناه و لا يقدر علی إجابة، كما لا شيء هناك ليُجيب. انّ مضرة الحقّ جلّ و علا موجود، قد كان كذلك دوماً و سيبقي؛ و سيُجيب: الحقّ هو الحقّ، أزليّ و أبديّ. انّ زيداً فان في المفنيّ فيه، أي في الله سبحانه و تعالي، في أنوار الرحمة و العظمة و الجلال و الجمال. و لقد كانت جميع العبادات و المجاهدات و المساعي للحصول علی هذه الدرجة من الكمال، لانّها تمثّل الكمال المطلق و الوجود المطلق. و لقد كان وجود زيد حتّي الآن محدوداً، و كان زيد متحقّقاً بوجود متعيّن و مقيّد، و كان هذا القيد و الحدّ و التعيّن يؤلمه، فرفع تعيّنه و ألغاه، و ضحّي بوجوده و جعله فانياً في سعة وجود حضرة الحقّ. و بعبارة اخري فقد كان الوجود مختصّاً بذات الحقّ و كان زيد في غفلة، فاتّضح ـ بتمزيق ستر الاوهام ـ أنّ الوجود منحصر بالحقّ فحسب. و لقد كانت العبادات و المجاهدات للحصول علی هذه الدرجة، فهذا الفناء المحض مساوق للوجود المحض. هذا هو معني و مفاد: عَبْدِ أَطِعْنِي حَتَّي أَجْعَلَكَ مِثْلِي. فالفراشة التي ترمي بنفسها علی الشمع فتشتعل فيها النار و تحترق، ما هو هدفها من عملها هذا؟ أتريد أن تُبقي لنفسها إنيّة و هويّة و عيناً ثابتة؟ أتريد الوصول الی درجة الكمال الصوري؟ أتريد أن تضيف علی تعيّناتها شيئاً آخر؟ أم أنّهاتريد أن تنعدم و تمحّي و تصبح شمعاً و نوراً. انّها ـ و قد احترقت ـ لا تمتلك تعيّناً، و لم تبقَ لها عينٌ ثابنة، فهناك شمعٌ فقط، ليس فراشة استحالت شمعاً. بل الشمع شمع، و النور نور. لقد كانت هناك فراشة، أمّا الآن فلا فراشة موجودة، بل الشمع هو الموجود فعلاً. انّ لباس التعيّن هذا يؤلم الإنسان، لان الطبيعة الإنسانيّة تجرّه صوب التجرّد، و هذه الحركة ـ اذاً ـ حركة فطريّد و الهيّة و غريزيّة، و هناك سعة و فسحة. ليس هناك من شيء، أي ليس في نفس الفناء ضحك و لا بكاء، و لا غمّ و لا حزن و لا سرور؛ لا إنسان و لا زيد؛ فأتعاب الإنسان و سعيه لله لا لنفسه. فلم يكن هو و إنيّته الاّت ستاراً للوهم لا غير؛ أمّا الآن فقد زال الوهم بالتحقّق بالحقّ، و أشرقت شمس الحقيقة، فكلّ شيء لله تعالي؛ حين ينزاح الإسم و الرسم جانباً فانّ الحقّ سيتجلّي. طَلَعَ الشَّمْسُ أَيُّهَا العُشَّاقُ فَاسْتَنَارَتْ بِنُورِهِ الآفَاقُ ما إن نفني حتّي نصبح قرابينَ له و نغدو فداءً له. ما الذي يعنيه وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَهِ؟ أي انّ عملي فداء له، و فكري و وجهتي له. ما الذي يعنيه بِأَبِي أنتَ وَ أُمِّي؟ ما الذي يعنيه «فديتُك»؟ ما الذي يعنيه بِأَبِي أَنتَ وَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَهِ؟ اي انّني أفني لاجلك و فيك و أُعدم فلا اسم يبقي لي و لا رسم. فإن كان المراد بالفداء بقاء الإنيّة و تقوية الهويّة، فليس ذلك بالفداء، و ليس ذلك معني التعلّق برسول الله. بل معني الفداء أن أفني و أصبح عدماً و لا يبقي منّي ـ من أجل إقرار وجودك ـ عين و لا أثر. ما هو ـ يا تري ـ هدف الام التي تلقي بنفسها في النار من أجل نجاة طفلها و خلاصه؟ أتريد ترسيخ إنيّتها و إحكام هويّتها؟ أم تريد أن تفني و تمّحي من أجل أن يوجد طفلها و يكتسب الوجود و لا يكتنفه النقصان و البوار و الهلاك؟ و يجب في النهاية اثبات أحد أمرين من أجل إثبات بقاء العين الثابتة حال الفناء: أمّا إثبات استحالة الفناء في الذات؛ و امّا سلخ معني الفناء عن هذا المعني المتبادر الی الذهن و منحه معنيً آخر. فهل للفناء حقيقة أم لا! انّ حقيقة الفناء مشهودة اضطراراً و غير قابلة للإنكار. إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَواتِ وَ الاْرْضِ إِلآ ءَاتي الرَّحْمَـ'نِ عَبْدًا. [5] و لقد كان الفناء الاختياري نهج الانبياء و المرسلين و الائمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين و نهج أولياء الله المقرّبين و المخلَصين، و هذه هي حقيقة معني الفناء. و لو تقرّر أن يكون المفني فيه غير ذات الله تعالي، أو أن يكون معني الفناء شيئاً آخر؛ فإنّ هذه الحقيقة و المسألة الواقعيّة (التي تمثّل نهاية السير التكاملي) ستكون متزلزلة. إذ لو بقي في طريق سلوك العبد الی الله أبسط قدر من أنانيّته و شخصيّته، فانّ سيره سيكون غير كامل آنذاك، و محتاجاً للتصحيح و التدارك المقدار الذي لم يحصل فناء فيه. تا يك سر موي از تو هستي باقيست آئين دكّان خود پرستي باقي است گفتي بتِ پندار شكستم رستم اين بت كه ز پندار برستم باقي است [6] انّ أساس حفظ الشخصيّة و الإنيّة باقٍ في جميع المقاصد و الاهداف، الاّ انّ هذا الاساس سيتحطّم عند الفناء، و سيقوم الشخص الطالب للفناء بتقديم أصل وجوده و تحقّقه في طبق من الإخلاص. لذا فانّ هذا المقام أعلي، و الوصول اليه أعسر، و لن يكون أحد مستعدّاً بهذه السرعة للتضحية بنفسه و فدائها، و لتخطّي وجوده في طريق حضرة الحقّ جلّ و علا، ليكتسب الوجود الحقيقي (الحاصل عن طريق الإنعدام) مقابل فقدان وجود تعيّني و اعتباريّ. انّ العاشق الذي يبرّح به الوله الی معشوقة مستعدّ أن يفديه بنفسه، و أن لا يري في نفسه وجوداً أمام وجود معشوق. فمعني العشق الحقيقي أن لا يري العاشق غير المعشوق، و أن لا يتحدّث أو يسمع شيئاً من أحد غيره، و الاّ كان هذا ادّعاءً لا عشقاً. و لم علم المعشوق انّ العاشق يريد حفظ إنيّته و عينه الثابتة، و انّه قد جعل هذا العشق وسيلة للإبقاء علی هويّته و شخصيّته؛ و انّه يريد بذلك كسب كمالِ لنفسه، فانّه سيصفعه علی رقبته صفعةً لا تُبقي له رأساً و لا شالاً. جميع الموجودات متوجّهة الی عالم الفناء، و ليس من شيء الاّ الله، لا هو الاّ هوما هو معني لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ؟ إن كانت إنّيّة الوجود و هويّته و حقيقته مختصّة بالحقّ سبحانه و تعالي، و كان اصل وجود الموجودات ـ تبعاً لذلك ـ مظهراً لا وجوداً حقيقيّاً، و ظهوراً و تجليّاً لا وجوداً بالاصالة و الحقيقة؛ فالافضل اذاً ـ و الحال هذه ـ تمزيق هذا الستار من الاوهام الذي ينسب الوجود إليها، و إيكال الوجود الی صاحب الوجود، لتبرز حقيقة سرّ و روح لا هو الاّ هو، و يتجلّي واضحاً التوحيد المحض المساق لفناء جميع الموجودات و الكائنات في ذات الحقّ تعالي. إن كانت الاعيان الثابتة تفني، فانّ معني فناء الموجود في الله لن يكون صادقاًالعلاّمة: لو لم يكن للفناء علاقة بنا؛ و لو لم يبق عند الفناء شيء؛ فما الذي يعنيه «أنا» و «أنت»؟ و الی مَ ترجع هذه المحادثات و كلّ هذا النفي و الإثبات؟ و ما شأننا نحن و ذلك؟ و لماذا نتّبع الحقّ و نفتّش عنه؟ لماذا يعبد الإنسان؟ لانّه ليس هناك من لذّة أخري، و لانّ العذاب و الالم و الاذي ستنزاح جانباً. انّ عبارة وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَهِ تمثّل أمراً واقعيّاً و حقية معيّنة؛ و هناك معني معقول في تضاعيف هذه العبارة. فهذه العبادة و هذا التوجيه بحاجة الی تبرير مقنع، و الاّ لما كانت شيئاً و لما كان لها من معني معقول. ذلك لانّنا معدومون و لا نمتلك وجهاً، و ليس هناك من ذات و لاهويّة و لا إدراك. انّ الفناء في الذات ليس غير مستحيل فقط، بل و واجبٌ أيضاً؛ و معني الفناء هو المعني المتبادر الی الذهن، و لا معني آخر له، الاّت انه يجب العثور علی طريق لإثباته. بِأَبِي أَنتَ وَ أُمِّي، و «فَدَيْتُكَ» قولان صائبان؛ اي انني مستعدّ لفداء نفسي الی مشارف الفناء و العدم من أجل حفظ الحقائق و الامور الواقعية التي أدركها فيكم و نخن لا ننكر هذا المعني. و الامر يدور في انّ الفناء إن استلزم انعداما لهويّة، فاننا لن نُدرك معني صحيحاً للدعوة. و تبعاً لعدم إدراكها، فاننا لن نمتلك من سبيل الی المدعوّ اليه. و آنذاك فانّ جميع جوانب الدعوة و الداعي و المدعوّ و المدعوّ إليه و المدعوّ به ستصبح باطلة بأجمعها؛ و علينا ـ اذاً ـ أننبرّر الفناء، بينما لا سبيل لنا للتبريز. و الكلام انّما هو في هذا الامر. امّا أشعار العشق و العرفان هذه، فأنا أيضاً أحفظ قدراً منها، بيد أنّي أتعمّد عدم قراءة الشعر. الاّ انّ علينا امّا إثبات انّ الفناء يمثل حقيقة تفوق الحقائق، و انّه لا يضمّ ـ بأي وجه ـ كثرةً و خصوصيّة و سمّواً و أمثال ذلك؛ أو الإثبات ـ من الجانب الآخر ـ بأنّه حقيقة ثابتة، لكن هذه الحقيقة الثابتة ليس فيها إسم و لا رسم؛ و هو ما يماثل قولنا الذي قلناه في الانواع المجرّدة. نفي الانواع المجرّدة لا يتحقّق أكثر من فرد واحد، الاّ انّها ـ في الوقت نفسه ـ تكتسب كثرات جمّة عن طريق التعلّق بمرحلة الماديّة؛ فهي مجرّدة الاّ انّها في عين الحال قد حفظت الخصائص الفرديّة و الإسميّة. و هذه المسألة دقيقة جداً و لا يمكن أن نتخطّاها و نحكم بسرعة. انّ أساس هذا الكلام، أي أمر الفناء في ذات الله، صحيح لا يمكن إنكاره، الاّ انه يجب العثور علی سبيلٍ له، لانّ المطلب لن يستقيم بتخية العين الثابتة. و لقد كان محيي الدين يقول ببقاء الاعيان الثابتة، و كان يصرّ علی بقائها، مع انّه كان يقول بالفناء في ذات الله. و قد ذكروا نظير هذا المطلب في موضع بعث الناس و حضورهم للحشر، و قالوا انّه بالنظر لتجرّد وجودهم، فانّهم يمتلكون كثرات بواسطة هذا لتجرّد (كما انّهم قالوا بهذه الكثرات أيضاً)؛ ولكن بواسطة كثرات التجرّد، فانّ الشر ليس صحيحاً لهم؛ اي أنّه لا يمكن القول بأنّهم معذّبون في يوم القيامة و غير منعميّن؛ بل هم معذّبون تحت طائلة العذاب. بلي، لقد قالوا هذا الكلام، و هناك كلام طويل في هذا الموضع، الاّ انّه يجب بيانه و إيضاحه. اننا لا ننكر أمر انحصار جميع الهويّات في الذات المقدّسة للحضرة الاحديّة في اللفظ المبارك لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ، لكنّ كلامنا هو: بأيّ ميزان يمكننا اعتبار هذا الكلام صحيحاً؟ ذلك لانّنا في عالم الفناء لا نمتلك هويّات و لا موجود و لا أرض و لا سماء؛ و آنذاك فنحن حين ننفي أي هويّة في الذكر المبارك لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ، فانّنا لا نمتلك هويّة لنجعلها منحصرة في ذات الله. فنحن لا نمتلك الجميع، و ليس لدينا غيراً؛ ليس لدينا سوي الله تعالي. انّ الكلام صحيح و صائب، الاّ انّه يجب اكتساب الفن لمعرفة ما الذي يجب قوله؛ و الفناء في الذات صحيح، الاّ انّه يجب العثور علی سبيله و إثباته. و قولكم «أنّ القيد لا يدخل في عالم الوحدة؛ فنحن لا نمتلك عالماً و لا وحدة، و مهما قلتم من شيء فانّنا لا نمتلكه؛ لانّه مهما افتُرض من شيء فانّ ادراكنا لن يصل اليه، لانّه فناء و انعدام للهويّة؛ فعمّن سنتحدث بعدُ؟ و قصّة الفراشة و الاحتراق و الفداء و الإستحالة نوراً، و قصّة إلقاء الام بنفسها في خضمّ النار لحفظ الطفل، و قصّة عشق العشّاق الی مرحلة الفناء و الفداء» صحيح بأجمعه، الاّ انّنا يجب أن نعثر علی سبيله و نفهم فنّه، و إلاّ حرنا في في أمرنا. انّ جميع هذه البيانات حقّ، الاّ اننا لا نعلم من هذه البيانات شيئاً، لا عن ظاهرها و لا خصوصيّاتها، مع انّ أساس الكلام حقّ، امّا اثباته فليس عن هذا السبيل، و هذه المسألة لا يمكن الإغضاء عنها، كما اننا لا ندّعي خطأها. في معني الاشعار الغزليّة أنشدها العلاّمة نفسه في الفناء في اللهالتلميذ: ان سبيل اثباته نفس الإلهام الذي يُجريه الله علی لسان الإنسان و قلبه، و ذلك في قوله: من خسي بي سر و پايم كه به سيل افتادم او كه ميرفت مرا هم به دل دريا برد من به سرچشمة خورشيد نه خود بردم راه ذرّهاي بودم و مِهر تو مرا بالا برد خَم ابروي تو بود و كف مينوي تو بود كه بيك جلوه ز من نام و نشان يكجا برد [7] فهو حقيقة و أمر واقعي في نهاية المطاف، و تحقّق خارجي أجراه الله بإلهامه في القلب المحترق، و أورد هذه الحقيقة علی اللسان. و علاوة علی ذلك فانّنا نجد في أنفسنا بالفطرة و الغريزة و الجبلّة اننا نُفني أنفسنا، و انّنا مستعدّون للفناء في كثير من الامور. فنحن حين نُلقي بأنفسنا في النار أو نُغرقها في البحر، انّما نقوم بذلك من أجل نجاة طفلنا و عزيزنا فقط. أفنفعل ذلك من أجل إثبات أنفسنا أم لفنائها؟ قولوا: ليس لدينا «من أجل»؛ لا إثبات و لا فناء. فليكن اننا لا نمتلك ذلك؛ فهذه التعبيرات انّما هي بلحاظ ضيق التعبير، الاّ ان حقيقة المسألة باقية في موضعها. انّ طريق اثباتها انّ الانسان في حقيقة الامر متحقّق بإنيّة الله و شخصيّته، و موجود بوجود الحقّ تعالي، الاّ انّه كان يتخيّل قبل الفناء انّه يمثّل بنفسه شيئاً ما له وجود و إنيّة؛ امّا حين يسير صوب الفناء، أي حين يكفّ عن هذه الإنيّة و الشخصيّة و التعيّن المحدود و يتّجه صوب الإطلاق، فانّ من الواضح مدي اللذة التي يتضمّنها هذا السفر. فالفناء يعني تخطّي الحدود لا فقدان الوجود؛ الفناء يعني تمزيق ضيق الوجود، و الوصول الی الوجود المطلق؛ فأين هي العين الثابتة هنا يا تري؟ و ما أبدع ما جسّد الشاعر هذا المعني، و ينبغي ـ أصولاً ـ أن يكون مُحيي الدين، حيث استشهد الملاّ صدرا بهذا الشعر في «الاسفار»: أُعَانِقُهَا وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشوقَةٌ إِلَيْهَاوَ هَلْ بَعْدَ العِنَاقِ تَدَانِي وَ أَلْثِمُ فَاها كَي تَزُولَ حَرَارَتِي فَيَزْدادُ مَا أَلْقَي مِنَ الْهَيْجَانِ كَأَنَّ فُؤادي لَيْسَ يُشفِي غَلِيلُهُ سِوَي أَنْ يُري الرُّوحَانِ يَتَّحِدَانِ[8] و حين تتحّد الروحان، فمن أين يُتصوّر أثر للعين الثابتة؟ كما استشهد في نفس بحث العشق هذا بهذين البيتين: أَنَا مَنْ أَهْوَي وَ مَن أهْوَي أَنَا نَحْنُ رُوحانِ حَلَلْنَا بَدَنا فَإذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ وَ إذا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنا [9] و ما أجمل هذه الاشعار و أنضرها؛ فالعشق المجازي ـ أساساً ـ هو قنطرد العشق الحقيقي، و ما أكثر ما يمكن للتشبيهات و الإستعارات و الكنايات و العبارات المعبّرة عن المحبوب الحقيقي و المستعملة في العشق المجازي أو في المظاهر و التجليّات، أن تشير الی هذا العشق الحقيقي و تُلقي الاضواء عليه. اننا في هذه الدنيا نلحظ الفناء و الفداء في العشق المبتلي بالمظاهر، و نري تحقّقها كالشمس؛ فنحن نقول بهذا المعني بالنسبة للفناء في ذات الحضرة الاحديّة. و حين نقبل هنا بأمر ذهاب الهويّة و انعدام الإنّية و العين الثابتة، فلماذا لا نقبل بذلك هناك؟ لقد قلنا: هل تمتلك الامّ التي تضحّي بنفسها من أجل طفلها شعوراً و عقلاً حينذاك! أفتلقي بنفسها في لُجج النار العظيمد لتحفظ تعيّنها؟ أو لتحفظ عينها الثابتة؟! أترانا إذا قرأنا ما يدور في خلدها آنذاك، نري فيه شيئاً غير العدم، و غير الزوال المحض؟ فهي تقول: أحرقوني، اعدموا مفاصلي و أوصالي الواحد تلو الآخر! ألقوني في البئر و ألقوا عليّ حجر المطحنة لتندقّ عظامي! دُكّوا جبل أبي قبُيس فوق رأسي! الاّ انّ طفلي يجب أن يحيا! انّ هذا الفناء و العدم المُشاهد الآن لدي هذه الامّ هو نفس المعني الذي يجده السالك في عالم الفناء، غاية الامر انّه بعد أن يعود الی وعيه ثانية و يرجع الی البقاء، فانّ هذه الكثرات و لوازم الكثرة و آثارها ستكون موجودة بأجمعها معه. ستكون الزوجة موجودة، و الولد موجود، و الابوان موجودين، و الجنّة و النار موجودتين، و سيكون كلّ شيء موجوداً. و سبيل إثباته هو أن نقول: انّ قوس النزول (و هو نفسه إرادة و مشيئة الخالق التي تبدأ من الذات المقدّسة و من عالم هوهو) الذي ينزل و يهبط، يجب أن يعود ثانية الی حيث كان، فيصدق آنذاك: كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ [10]؛ كَمَا بَدَأَنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [11] و لو تقرّر انّ الموجودات التي هبطت من هناك و نزلت الی عوالم الكثرة هذه سوف لن تعود الی هناك عند عودتها، فانّ هذا لن يكون سيراً الی الله، و الدائرة ستبقي غير تامّة. في معني سجود عالم السواد و عالم الخيال و عالم البياض للحقّ تعالي و تقدّسو لقد وردت حقيقة هذا المعني من الفناء في الادعية، فقد كان رسول الله يقول في سجوده ليلة النصف من شعبان و قد اخضلّت الارض من دموعه: اللَهُمَّ لَكَ سَجَدَ سَوَادِي وَ خَيَالِي وَ بَيَاضِي. [12] و من الجليّ انّ المراد بالسواد و الخيال و البياض، العوالم الثلاثة: الطبع و المثال و النفس التي سجدت بأجمعها، أي وصلت الی مقام الفناء. و الكثير من أشعار ابن الفارض، و خاصّة تلك الواردة في نظم السلوك «التائيّة الكبري» صريحة في الفناء المطلق. و بغض النظر عن ذلك، فكيف تقولون في الابحاث الفلسفيّة بأصالة الوجود، و تُحكمونه و تُبرمونه بألف دليل، و تسدّون تغور الشبهات بإتقان، و لا تقولون للماهيّة الاّ بعنوان الحدود و الإعتبار؛ أمّا هنا فانّكمن تعتبرون ما الذي تعنيه الاعيان الثابتة أساساً؟ ليس لدينا شيئاً بعنوان الثابت غير الوجود و الموجود، و لا من فاصلة بين العدم و الوجود. فما الذي سيغيه هذا الاّ الإلتزام بوجود فاصلة بين الوجود و العدم؟ كما اننا نقول هنا بأن الاصل هو الوجود، و انّ الماهيّة ليست الاّ حدّ الوجود و الاعتبار، و انّ الوجود سارٍ في كماله، حتي يصل الی حيث يمّحي و يفني في الذات القدسيّة للحضرة الاحديّة، و انّ الماهيّة ليس لها من معني و لا تحقّق بعد انعدام الوجود، و لم يبقَ منها شيء الاّ عنوان المفهوم؛ كما انّها لا تمتلك حقيقة في الخارج. فما الذي سيعنيه ـ من ثمّ ـ قولنا بأن العين الثابتة ستبقي؟ أوليس مرجع هذا القول الی التناقض و التضادّ؟ بل انّنا سنكون منكرين للاعيان الثابتة بصورة كاملة. امّا محيي الدين و أتباع نهجه المصرّون علی الاعيان الثابتة، فان دليلهم لا ينسجم مع أصالة الوجود. العلاّمة: امّا كلام محيي الدين، فلم نورده بعنوان سند، اذا سواء لدينا ـ بلحاظ الاستدلال ـ كلام محيي الدين و كلام سواه؛ و له في أوائل أبحاثه أشعار سخيفة اثنان أو ثلاثة، لكنّ أبحاثه ـ انصافاً ـ تصبح بعد ذلك شائقة و أخّاذة؛ اما ابن الفارض فانّ له ـ انصافاً... طغياناً في رقيّ شعره و علوّ درجته و في بيانه للمطالب العرفانيّة. و يمكن القول حقّاً بأنّ ابن الفارض في العرفان و الشعر العربي بمثابة حافظ الشيرازي في العرفان و الشعر الفارسي. فابن الفارض أوحد لا نظير له في العرفان و الشعر العربي، كما انّ حافظ الشيرازي أوحد لا مثيل له في العرفان و الشعر الفارسي. و الاشعار التائيّة لابن الفارض لوحدها ما بين سبعمائة الی ألف بيت، [13] و إنصافاً فقد أحسن في إنشادها و أجمل. و كان المرحوم استاذنا الحاج الميرزا علی آقا القاضي رضوان الله عليه يقول: كان ابن الفارض تلميذاً لمحيي الدين، فقال محيي الدين له يوماً: اكتبوا شرحاً لقصيدتكم التائيّة! فردّ عليه ابن الفارض: شيخنا! انّ فتوحاتكم المكيّة هي شرح لتأئيّة ابن الفارض! و لقد كان محيي الدين قريباً من التشيّع غاية القرب، [14] و لقد كانت مسألة التشيّع ذات وجه آخر في الصدر الاوّل و الازمنة السابقة، وكان غالبيّة الاعلام من العلماء و العرفاء شيعةً في الحقيقة، بيد أنّهم كانوا مُجبرين ـ بلحاظ الضرورة ـ علی التقيّة، و كانوا يسعون الی حفظ تلك الحقيقة فيهم بحيث لا تصطدم مع المزعجات الخارجيّة، و لذا فقد كانوا يصونون أنفسهم بشكلٍ ما من خلال الكتمان، و كانوا يمتنعون عن إشاعة ذلك، اللهم الاّ بالرَمز و الإشارة و الكناية. و لابن الفارض بيتان لهما في بيان عقد ولايته لاهل البيت عليهم السلام كمال الجلاء و الوضوح، و ذلك في قوله: ذَهَبَ العُمْرُ ضِياعاً وَانْقَضَي بَاطِلاً إِذْ لَمْ أَفُزْ مِنْكُمْ بِشَيء غَيْرَ مَا أَوْلَيْتُ مِن عِقْدِي وَ لاَ عِتْرَةِ المَبْعُوثِ مِن آلِ قُصَيّ [15] في حقيقة احتراق الفراشة في الشمع، و الامّ في النار، و فناء الاشياءو الخلاصة، فامّا بشأن المطلب، فانّ آية كَمَا بَدَأَكُم تَعُودُونَ و أمثالها تدلّ علی انّ الإنسان يعود الی حيث كان بدؤه، و هو أمر مسلّم، و انّ بدءه كان أوّل نقطة لتحقّق المشيئة بوجوده في عوالم الملكوت، و هو بنفسه عينه الثابتة، و لا تدلّ الآية علی أكثر من هذا. امّا قصّة اشتعال الامّ بالنار و احتراق الفراشة و غيرها؛ فأنتم تقولون: فنيت الامّ، و احترقت الفراشة؛ فهناك ـ اذاً ـ ضميران في هاتين الجملتين أحدهما يعود الی الام، و الآخر يعود الی الفراشة؛ و هذان الضميران يمثّلان العين الثابتة. و ما لم يكن هناك ضمير التاء في جملة «فنيت الام»، فلن يكون لدينا ـ ثمّ ـ من جملة و لا حمل، و لن يكون هناك أمّ و لا فناء و لا ضمير. و ستكون هذه الجملة، تبعاً لذلك، ذات ارتباط محفوظ و معني معقول حين ستحتوي علی ضمير رابط، و ذلك الضمير هو العين الثابتد. التلميذ: لو قلنا ـ عموماً ـ بأنّ العين الثابتة باقية حال الفناء، فيلزم من ذلك أن يكون هناك تعيّنٌ في الذات القدسيّة للحضرة الاحديّة (أي في مقام هُوهُو) سبحانه و تعالي. أو سيلزم أن نقول بأنّ معني الفناء ليس فناء و انعداماً و اندكاكاً و اضمحلالاً؛ أو أن نقول بأنّ الفناء في ذات الله محال أساساً، و انّ ما يتحقّق من الفناء، انّما هو الفناء في الاسماء و الصفات. فسماحتكم تقولون: لو قلنا بالفناء في الذات للزم من ذلك محذور، و هو أن تكون هناك دعوة لجميع العالم الی الفناء؛ و ان الكمال منوط بالعدم و الزوال؛ بينما ليس من موجود يحبّ التخلّي عن وجوده ليمّحي و يضمحلّ. لذا فانّ هذه الدعوة دعوة الی الفناء المطلق، و دعوة الی إندكاك الوجود المحض، و الی زوال أصل الهويّة و الإنيّة و التعيّن؛ و مآلها زوال العين الثابتة، بينما لا تسمح غريزة الإنسان له بإسقاط نفسه من الوجود الی العدم. هذا هو أحد الإشكالات. امّا الإشكال الآخر فهو اننا لو قلنا بأن الفناء هو العدم المطلق، و انّ العين الثابتة لن تبقي آنذاك؛ فأيّ موجود ـ والحال هذه ـ سيحصل علی تعيّن حال البقاء و زوال الفناء؟ إذ لن يكون هناك من موجود بعد الفناء، ليعود عند البقاء في تلك الهويّة؟ و علينا في هذه الحال أن نلتزم بأنّ البقاء لن يكون بقاءً آنذاك، بل حدوثاً جديداً. هذا هو مُجمل الإشكال، و ليس ردّه بالامر العسير، لان تخطّي الوجود الی العدم هو عبورٌ من التعيّن الی الإطلاق، و يمثّل في الحقيقة مبادلة درهم بدينار. امّا في مورد البقاء، فسنلتزم بأنّ جميع الموجودات الفانية ستبقي حال الفناء، و أنّها لن تمتلك بقاءً بعد الفناء، و انّ قوس الصعود سينتهي بواسطة الرجوع بالله، فتكمل الدائرة حينئذٍ مِنَ اللَهِ وَ الی اللَهِ. و امّا خصوص أفراد الإنسان الباقون حقيقةً، إذ لم يحصل لديهم فناء بتمام معني الكلمة، فلن يبقي منهم عند حصول الفناء الكامل عين و لا أثر؛ و الشواهد علی هذا الامر كثيرة و جمّة. هل يبقي الضمير حال الفناء أم يهلك هو الآخر؟العلاّمة: هذا الكلام صائب، و لكن لمن سيرجع الضمير في قولكم «فني زيد»؟ انّ الجملة تحتاج الی ضمير، و الضمير في «فني زيد» يعود الی زيد؛ و اذاً فزيديّة زيد (التي هي هويّته) ثابتة. التلميذ: أفنريد الحصول علی زيديّة زيد قبل الفناء أم حال الفناء؟ انّ زيداً قبل الفناء هو زيد، له عين ثابتة و هويّة و إنيّة؛ أمّا بعد الفناء فليس زيداً بعد، إذ لن يبقي له آنذاك من إسم و لا رسم و لا ضمير و لا عين و لا أثر. و حين نقول «فني زيد» فليس هناك زيد من ثمّ، هناك عالم الوحدة، و لا إسم في عالم الوحدة. فزيدٌ الفاني ليس زيداً حال الفناء، بل هناك الحقّ لا غير. امّا في الضمير، فنذكره علی نحو الاستخدام. «فني زيد» يعني انّ تلك الهويّة التي كانت قبل الفناء هويّة زيد، و التي كانت عينها الثابتة هي الزيديّة، قد فنيت. اي انّ عينها الثابتة عدمت و زالت، إذ استحال تعيّنها إطلاقاً، أي انّها عبرت حجاب التعيّن و غرقت في اطلاق الوجود، و ذلك يعني انّها امّحت و فنيت. امّا حال الفناء فلا ضمير لها من ثمّ؛ «فني» يعني انّ زيداً ذلك الذي كان قبلاً زيداً، لم يعد له الآن وجود. نقول: ألقينا حبّة السكّر في الماء فذابت؛ و حين ذابت فليس هناك بعدُ من حبّة. فلمن سيرجع الضمير في «ذابت» انذاك؟ اي ان تلك الحبّة من السكّر (التي كانت قبل سقوطها في الماء حبّة سكّر) قد ذابت. امّا حين ذابت فليس هناك من حبّة بعدُ، و ليس من عين و لا أثر من كونها حبّة. و بالطبع فانّ اصل المادّة الحلوة موجود، لكننا في هذه الجملة نمتلك حبّة سكّر، و جليّ أنّها قد فنيت و انعدمت. لقد كانت حبّة السكر حبّة سكّر قبل ذوبانها،.مّا الآن فالماء ماء؛ و لقد كان زيد قبل فنائه يري الحقّ، امّا بعد الفناء فانّ زيداً لا يري الحقّ، بل الحقّ يري الحقّ. و لا شبهة هناك في انّ أحداً غير ذات الحقّ لا يمكنه إدراك ذاته، و انّ زيداً لا يمكنه إدراك ذات الحقّ. فإن كان زيد الذي يفني لا يزال زيداً، فانّه لم يصل بعدُ الی مقام الفناء؛ و سيكون زيد هو الذي يري جمال الحقّ. امّا لو حصل الفناء بتمام معني الكلمة، فليس من زيد آنذاك، إذ انتهي أمره، فلا إسم له و لا أثر في الذات المقدّسة للحقّ الحقّ هو الحقّ، و هو كذلك دوماً. أفلدينا من شكّ في جملتنا هذه: ذابت حبّة السكّر و انعدمت و ضاعت في الماء؟ لو ألقينا قطرة في الماء ففقدت تلك القطرة شكلها، ثم قلنا: صارت القطرة ماءً؛ أفلدينا شبهة في هذه الجملة؟ كيف نقول «صارت القطرة ماءً» بينما لم تعد القطرة قطرةً حين تحوّلت ماءً؟ فهو كمثل قولنا «فني زيد في ذات الحضرة الاحديّة» بينما ليس هناك من زيد حال الفناء. فعناية الاستعمال و صياغة الجملة في كلا الحالين متشابهة. و قولنا «فني زيد» كقولنا «صارت القطرة ماء»؛ و ذلك بالطبع علی نحو الإستخدام؛ اي انّ ذلك الحدّ المعيّن من الماء الذي يُدعي قطرة، و الذي تمتلك حقيقته حجماً كرويّاً و شكلاً خاصّاً، قد فقد الآن حجمه الكرويّ و ألغي إسم القطرة عن نفسه، إذ لم يعد قطرةً بسقوطه في الماء. الماء هناك هو الماء، و لا معني في سعة الماء لتعيّن القطرة و حجمها. و استعمال الضمائر علی نحو الاستخدام كثير في الادب. حين نقول «فني زيد»، فانّ زيداً يجب أن يكون موجوداً، و اًلاّ لما صدق الفناءالعلاّمة: مهما ضربتم من مثال، أو سلكتم من طريق، فانّ لدينا في النهاية ضميراً هنا، و عليكم أن تُشيروا الی محلّ الضمير و مرجعه. فنحن نقول «فني زيد في الحقّ» و الضمير فيه يعود الی زيد، و نحن نطلب مرجعاً للضمير، فكيف يمكن تصوّر عكس ذلك! و حين نقول «فني زيد في الحقّ تبارك و تعالي»، أو ليس هو نفسه زيداً الذي فني؟ إن لم يكن حال الفناء بزيد، فما معني «فني زيد» إذاً؟ انّ جملات «فني زيد»؛ «صارت القطرة ماء»؛ و «ذابت حبّة السكّر»، تمتلك بأجمعها ضميراً، فإلي مَ سترجع هذه الضمائر عند افتراض انعدام العين الثابتة؟ انّ هذه الامثال لا تشفي غليلاً، فحين لا نمتلك مرجعاً للضمير، و لا مُشاراً اليه، فما الذي سيُجديه المثل يا تري؟ يمكنكم أن تقولوا: «ذابت حبّة السكّر»، «صارت القطرة ماءً»، لكنّ هذا القيد و هذا المعني موجودان الی جانبه، بأن هذها لعين ثابتة و محفوظة. و لن يكون لديكم عند انعدام الهويّة من حبّة سكّر لتتحدّثوا عنها، و سيكون إضاركم عن فناء حبّة السكّر إخباراً صحيحاً. «فني زيد»، و لقد كان يري نفسه مادام بعدُ لم يفنَ؛ امّا حين فني فانّه صار يري الحقّ بدلاً من نفسه، و هذا المعني يمكن عدّه صحيحاً أمّا قولنا بأن ليس هناك من زيد حالا الفناء، فالحقّ يري الحقّ، لا أن يكون زيد هو الناظر الحقّ؛ فهو أمر لا يمكن عدّه صحيحاً. فلو كان الحقّ يري الحقّ، لما كان زيد فانياً. و بعبارة أخري: لو كان زيد قد فني، فانّ زيداً موجود ليكون قد فني، و هو الذي يري الحقّ. و إن كان الحقّ هو الذي يري الحقّ، فما شأن زيد و ذلك؟ فزيدٌ ـ اذاً ـ لم يفنَ بعدُ، و تبعاً لذلك فان قولنا «فني زيد» سيكون خاطئاً. و علی كلّ حال فانّكم كيفما تحرّكتم، و أيّ! سبيل سلكتم، فانّه يجب فرض زيدٍ ما لتصحّ الجملة و يصّح الكلام و الحمل و مرجع الضمير والنسبة، و تكون في محلّها، و هذا ال «زيدٌ ما» هو العين الثابتة. كما إن الإشكال بأنّ أحداً غير ذات الحقّ لا يمكنه إدراك ذات الحقّ لن يوجب الإلتزام بعدم قبول العين الثابتة لزيد في «فني زيد» في ذات الحقّ. بلي، هذا الكلام صحيح و صائب، الاّ انّنا حين نقول «فني زيد في ذات الحقّ» فانّ الضمير يجب الاّ يزول، فإن زال صار كلامنا بأنّ زيداً فني في الحقّ كلاماً خاطئاً، إذ انّ جميع البشر يفنون في ذات الحقّ. انّ جملة «صارت القطرة ماءً» صحيحة، و لكن لا تقولوا بأن ليس هناك من قطرة فعلاً، بل قولوا هكذا: لقد كانت هناك قطرة، ففنيت في الحقّ، و اندكّت في الماء! فنحن نحتاج الی قطرةٍ ما، و علينا أن نُري أنّ قطرةُ ما قد فنيت، و ليس لهذا من معني بدون فرض العين الثابتة. التلميذ: لدينا جملة «فنيت القطرة» و جملة «صارت القطرة ماءً»؛ فلقد كانت القطرةُ قطرةً قبل دخولها في الماء؛ أمّا بعد ذلك فليست قطرة. إذ ليس هناك من قطرة بالبديهة و الوجدان. و مهما أثبتّم ألف عين ثابتة، فليس هناك ـ بعد دخول القطرة في الماء ـ من قطرة. و ليس لدينا من قطرة بعد سقوط القطرة في الماء، و لا من عين ثابتد، و لا من اسم و رسم و ضمير و إشارة و مُشار اليه. و لا يمكننا إنكار وجداننا، إذ ليس هناك من قطرة. و لقد ذكرتُ بأنّ هذا الضمير انّما هو علی نحو الإستخدام، اي انّ ما كان قطرة، و ما كان له اسم القطرة و رسمها و تعيّنها قد صار ماءً؛ اي انّه فقد اسمه و رسمه و تعيّنه، و يعني ذلك انّه انعدم و فني. و لو قلتم: انّ «فقد» و «انعدم» و «فني» و «زال» تحتوي بأجمعها علی ضمير و تحتاج مرجعاً للضمير؛ فأقول: انّ مرجعها هي الاخري كمثل مرجع «صارت القطرة ماءً» علی نحو الإستخدام، و ليس في ذلك محذوراً. فلو كانت زيديّة زيد باقية لكانت غيراً، و الغير لا يمكنه إدراك ذات الحقّ. و نعلم من جهة أخري انّ معرفة ذات الحقّ غير ممكنة بدون حصول حال الفناء. فعليكم ـ اذاً ـ ان تقولوا بأنّ معرفة ذات الحقّ غير ممكنة حتّي مع الفناء. أو أن تقولوا بأن العين الثابتة لا تبقي حال الفناء. و الثاني أولي عند أهل البصرة. [16] ثمّ انّ الدعوة الی الفناء دعوة الی الوجود (أي الی الوجود المطلق) لا الی العدم، إذ حسب قضيّة التوحيد بأن ليس في العالم الاّ وجود واحد فحسب، فانّها لن تكون ـ و الحال هذه ـ دعوةً الی العدم، بل دعوةً الی الوجود المطلق. ذلك لانّ وجود زيد ليس الاّ الوجود المطلق؛ فزيدٌ يري نفسه في التعيّن، و حين ندعوه الی العدم، فليس معني ذلك دعوته الی التخلّي عن وجوده، بل الی التخلّي عن تعيّنه، و الی إنعدامه، أي دعوته الی الوجود المطلق. انّ قطرة الماء ليست قطرةً بعد سقوطها في الماء، و نحن انّما نقول بهذا المعني في شأن زيد الفاني؛ و جليّ أن ليس هناك ثَمَّ من زيد. و أصولاً فانّ مفهوم الفناء يُغاير مفهوم الوجود و التعيّن، فهما مفهومان متضادّان. و لو قلنا «القطرة»، فانّها ليس ـ من ثمّ ـ ذائبة في الماء؛ و لو قلنا «الماء»؛ لما كان هناك إذ ذاك من قطرة. فقد صارت القطرة ماءً، اي انّها فقدت كونها قطرة. أو ليس لدينا مفاهيم متضادّة؟ انّ مفهوم التعيّن ضدّ مفهوم الإرسال و الإطلاق، و مفهوم الوجود و الإنيّة ضد مفهوم الفناء. انّ جملة «صارت القطرة ماءً» تعود في التحليل الذهني الی جملتين: الاولي: الی تلك الهويّة التي كانت قطرة. و الثانية: الی الهويّة التي هي ماء فعلاً. و هما هويّتان مختلفتان لا تجتمعان معاً قطّ. و تبعاً للحركة الجوهريّة لذلك الوجود و لتلك الذات التي كانت قطرة، فانّها تحرّكت من كونها قطرة فتبدّلت الی ماهيّة الماء. أو أن نقول ـ بواسطة الحركة في الكيف ـ انّ شكل ذلك الوجود للقطرة قد استحال الی اللاشكل، و انّه غيّر تعيّنه و كيفيّته بواسطة امتزاجه بالماء. انّ معني الفناء هو فقدان التعيّن (أي فقدان تعيّن الوجود لا اصل الوجود)، إذ يزول تعيّن الوجود و حدوده؛ فهذه القطرة التي تسقط في الماء و تفني، لا يفني أصل وجودها، بل تلتحق بوجود الماء فتصبح ماءً مطلقاً دونما شكل، الاّ انّ تعيّنها يجب أن يزول حتماً و الاّ لما صدق الفناء، و لو بقيت العين الثابتة لما كان الفناء صادقاً. و أساساً فليس لدينا عيناً ثابتة، و الذي كان هناك وجودٌ تحرّك من الماهيّة الإنسانيّة و وصل الی الفناء. امّا الآن فليس هناك غير الفناء في ذات الحقّ. و ليس للماهيّة الاّ مفهوم لا أكثر، و ليس بين الماهيّة و الوجود من مرحلة بإسم الثبوت و العين و الاثر. و لو كانت العين الثابتة موجودة في الذات، لصارت الذات مثاراً لكثرة و لورود الاغيار، سُبحانه و تعالي. و لو بقيت العين الثابتة خارجاً عن الذات، فانّ فناء زيد في ذات الحق لم يحصل حسب قول سماحتكم؛ فعلينا ـ اذاً ـ ان نقول بأن ثبوت العين الثابتة كان حال وجود زيد؛ امّا حال الفناء فلا وجود لزيد، و لا لعين و لا اثر و لا اسم و لا رسم منه. وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَـ'كِنَّ اللَهَ رَمَي'. [17] في حقيقة معني: وَ مَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَهَ رَمَيانّنا لو نظرنا الی الكثرة لكان النبيّ موجوداً، و لكان رسول الله هو الذي رمي السهم؛ فهو ـ بلا شكّ الذي أمسك بالقوس و رمي بالسهم؛ أمّا لو نظرنا الی جانب الوحدة و الفناء، فانّ الله هو الذي رمي السهم، و ليس هناك رسول الله، و ليس هناك من نبيّ و لا من محمّد. إِن هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَ ءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطـ'نٍ. [18] انّ جميع الموجودات في عالم التوحيد مظاهر لا وجود لها بأنفسها و لا أصالة، فهي مُظهرة لغيرها و ليست موجودة، و هي أسماء لو سلبتَ عنها الإسم لما بقي منها شيء، و هذه الاسماء من وضعكم أنتم: سَمَّيْتُمُوهَا. و هذه الارض، و هذا السقف، و هذا الجدار، و هذه الباب، و هذا السجّاد، موجوداتٌ لو نظرنا الی كثرتها لكانت بأجمعها تعيّناً و حدوداً و مثاراً للكثرة و التفرّق، امّا لو نظرنا الی وحدتها لتوجّب علينا حتماً ان نرفض الحدود والتعيّن، إذ ليس لها آنذاك من جانب للكثرة. و من ثمّ فانّ زيداً هذا الذي هو في حال الفناء، لو نظرنا الی تعيّناته في غير حال الوحدة، لكانت تلك الحدود و التعيّنات بأجمعها لزيد؛ و لو نظرنا الی حال فناء زيد، لكان صرف الوجود. في كلتا الحالين اللتين نظرنا فيهما و قلنا «زيد فانٍ»، فانّ مرجع الضمير يعود الی تلك الذات التي كان خارج الفناء زيداً، امّا حال الفناء فليس هناك من زيد، فقد كان زيداً مادام خارج الذات، امّا حال الفناء فلا مرجع للضمير إذ ليس هناك من زيد. و لو قلتم: يجب ـ من أجل تحقّق الفناء ـ أن يعود ضمير زيد في جملة «فني زيد» الی العين الثابتة، و انّ العين الثابتة موجودة. فاننا نقول: انّ الفناء في الذات سيكون ـ بنائً علی ذلك ـ مستحيلا؛ لانّ ورود العين الثابتة في الذات محال. و ناهيك عن الفناء في الذات، فلو قلتم بالفناء في صفات و أسماء الحقّ سبحانه و تعالي، فانّ نفس الاسئلة و الاجوبة و الإشكالات ستُثار أيضاً، لان العين الثابتة لو بقيت موجودة عند الفناء في الإسم و الصفة، للزم من ذلك ورود تعيّن زيد في الصفة و الإسم، و هو محال. و في حال ورد التعيّن فانّ الفناء لن يكون صادقاً، اما حال عدم ورود العين الثابتد فانّكم ستسألون منجديد:الي مَ يرجع الضمير؟ و الإشكال هو الإشكال. و أخيراً، أفيمكننا ـ يا تري ـ إنكار الفناء في الإسم و الصفة، كالفناء في إسم القادر و العليم و المُجي، أو ـ علی أقل تقدير ـ الفناء في الاسماء الجزئيّة، كفناء كلّ موجود من الموجودات في موجودٍ آخر؟ و كفناء العاشق في المعشوق؟ ذلك لانّ جميع الموجودات هي مظاهر و آيات لله تعالي، و هي بأجمعها أسماؤه، سواءً أسماؤه الكليّة أو الجزئيّة. و عموماً فانّ من لوازم الفناء في جميع هذه الصور و الإشكال، زوال الضمير، إذ لا يتحقّق الفناء مع حفظ الضمير، سواءً الفناء في الذات أو الصفات. العلاّمة: نحن نقول «فنيت القطرة»؛ فلو أزلتم الضمير، لبقي هناك «القطرة» و «فني» بلا نسبة بين هذين الاثننين، أي لن يبقي أيّ شيء، و مهما صوّبتم فإنّكم إما أن تشيروا الی القطرة، أو تكفّوا يدكم عن الفناء؛ و لانّه لا يمكن رفع اليد عن الفناء، فالقطرة ـ اذاً ـ ثابتة. تقولون: لقد زال تعيّن القطرة، لا أصل وجود القطرة، و هو أمرٌ صحيح؛ و لكن ماذا نفعل بالضمير؟ انّ هذه الضمير من دواعي التعب. ارجاعات [1] ـ الآية 111، من السورة 20: طه. [2] ـ ذيل الآية 16، من السورة 40: غافر. [3] ـ صدر الآية 97، من السورة 2: البقرة. [4] ـ الآية 193 ـ 195، من السورة 26: الشعراء. [5] ـ الآية 93، من السورة 19: مريم. [6] ـ يقول: مادام هناك وجود منك باقً ـ و لو قيد شعرة ـ فانّ دكّان عبادة النفس سيكون باقياً. قلتَ «حطّمتُ صنم الخيال و صرتُ حرّاً طليقاً»، فهذا الصنم (صرتُ حرّاً من الخيال) لا يزال باقياً. [7] ـ الاشعار من أنشاد العلاّمة، لذا فقد ذُكرت في المحاورات بعنوان شاهد. يقول: كنتُ قشّة ضائعة حين سقطتُ في السيل، فساقني معه في مسيره إلی قلب البحر. و لم أُيمّم طريق منبع الشمس بنفسي، فلقد كنتُ ذرّة فسما بي حُبّك إلی الذري. كانت استدارةُ حاجبكُ، و كفّك القادمة من الفردوس، مَن سلبني في تجلٍّ واحد إسمي و عنواني. [8] ـ «الاسفار» الطبعة الحروفيّة، ج 7، ص 179. يقول: كما قال قائلهم؛ و يبدو انّ مراده من هذا القائل مُحيي الدين. [9] - «الاسفار» الطبعة الحروفيّة، ج 7، ص 178. [10] ـ ذيل الآية 29، من السورة 7: الاعراف. [11] ـ مقطع من الآية 104، من السورة 21: الانبياء. [12] ـ «مصباح المتهجّد» ص 583. [13] ـ أشعار تائيّة ابن الفارض سبعاتة و واحد و ستّون ستاً علی وجه الدقّة. [14] ـ ذكر الملاّ محمد صالح الخلخالي في مقدّمة كتاب «مناقب محيي الدين» في أمر تشيّع محيي الدين دلائل کثیرة علی تشیّعه. [15] ـ البيتان الاخيران من أبيات القصيدة التائيّة لابن الفارض، و مطلعها: سَائِقَ الاظْعَانِ يَطْوِي البيدَ طَيّ مُنعِمًا عَرّج علی كُثبانِ طَيّ «ديوان ابن الفارض» ص 25. [16] ـ كناية عن أهل البصيرة. (م) [17] ـ مقطع من الآية 17، من السورة 8: الانفال.
|
|
|