|
|
أنّ متقدّمي علماء النجوم، أعرضوا عن تخريج ضابطة كلّيّة لرؤية الهلال في جميع الشهور؛ وذلك لتعذّر تعيين ضابطة كلّيّة للاهلّة، من حيث البعد السوي والبعد المعدّل والارتفاع وانحرافه عن مغيب الشمس ومكثه فوق الاُفق، وسائر الجهات الفلكيّة التي لايمكن إدراج جميعها تحت قاعدة كلّيّة أبداً. وأمّا متأخّروهم فقد أتعبوا أنفسهم في تخريج هذه الضابطة، لكن لم يأتوا بشيء في المقام؛ وكلّ ما أوردوه ناقص مراعيً فيه بعض الجهات دون بعض. وقد أتعب نفسَه المحقّق الطوسيّ كثيراً علي ما في «زيج إيلخانيّ» وغيره من الكتب؛ وذكر نتيجة حساباته من لحاظ البعد بين تقويمَي النيّرين وبين مغربَيهما المعبّر عنهما بالبعد السوي والبعد المعدّل، وذهب إلي أنّ البعد المعدّل إذا كان عشر درجات فالهلال قابل للرؤية علي أيّ نحو كان. فبني علي أنّ الهلال في كلّ ناحية يكون قابلاً للرؤية، يبقي في السماء أربعين دقيقةً؛ لما مرّ عليك من ضرب عشر درجات في أربع دقائق. ولم يكن في علماء الاءسلام فلكيّ خبير مثل هذا المحقّق مجدّاً في تعيين هذه القاعدة الشاملة؛ ولذلك تري أنّ أصحاب التقاويم المستخرجة من بعده، ذهبوا إلي هذا المرام ولم يتعدّوا عنه وبنوا علي أنّ أقلّ درجة البعد المعدّل لابدّ وأن يكون عشر درجات حتّي يصير الهلال قابلاً للرؤية. ولكنّه قدّس سرّه مع هذا التعب لم يأت بحساب صحيح دقيق، بل هو عين التقريب؛ لانّه أوّلاً: أدخل تحت حساباته البعد السوي الواقعيّ والبعد المعدّل الواقعيّ؛ وهذا غير مجدٍ، بل لابدّ من حساب البعد السوي المرئيّ والبعد المعدّل المرئيّ، لانّه باختلاف المناظر يختلف البعدان؛ والمرئيّ منهما يختلف باختلاف النواحي والبلاد وباختلاف الشهور ولا يكون تحت ضابط.[45] و ثانياً: أنّه ذهب إلي أنّ أقل البعد المعدّل عشر درجات، مع أنّه إذا اجتمع سائر الشرائط بنحو أعلي من كثرة البعد السوي والارتفاع ربّما يمكنالرؤية مع تسع درجات بالنسبة إلي البعد المعدّل.[46] هذا مع أنّه ادّعي فلكيّ خبير جدّاً، أنّه رصد الهلال أوّل الغروب من دخول شهر من الشهور، فوجد البعد المعدّل ثماني درجات. فإذاً تعيين الضابطة الكلّيّة الحقيقيّة لرؤية الهلال عند المنجّمين، من الاُمور المستحيلة؛ نعم لابأس بما ذكروه علي سبيل التقريب. المقدّمة الرابعة عشرةالعرب قبل الاءسلام كانوا يعرفون الصور الفلكيّة ومنازل القمر؛ والمنازلُ الثمانية والعشرون للقمر كانت من مخترعاتهم. وأيضاً كانوا خبيرين بحساب الانواء التي هي التغييرات الجوّيّة، ومواضع الطلوع والغروب. وكانوا يستدلّون من أوقات الطلوع وسقوط المنازل، علي اختلاف الاهوية؛ وكانوا واقفين بهذه الاُمور إلي حدّ لم يكن يُعرف مثله لسائر الاقوام، بحيث تعرف هذه المواضع من علم النجوم من خصائصهم في زمان الجاهليّة. العرب كانوا يميّزونالكواكب السيّاراتمن الثوابت؛ نري اسم الزهرة وعُطارِد في أشعارهم في الجاهليّة، وأيضاً نري في مسطوراتهم اسم زُحَل والمشتري والمرّيخ قبل نقل العلوم من يونان؛ ففي أشعار كميت المتولّد في سنة 60 من الهجرة والمتوفّي في سنة 126، نري اسم زحل والمرّيخ. يقولون: إنّ عرب الجاهليّة من بني تميم كانوا يعبدون عطارد. ويستفاد من مسطورات المولّفين السُّريانيّين واليونانيّين في القرن الخامس والسادس الميلاديَّين، أنّ العرب المجاورين للشام والعراق كانوا يعبدون كوكب الزهرة في زمان ظهوره الصباحيّ. و هذا الذي ذكرنا مختصر ممّا ذكر من اختصاصاتهم بالنجوم وتبحّرهم في الانواء؛ والتفصيل في كتب عبد الرحمن الصوفيّ و«المجسطيّ» للبطلميوس و«أنواء» أبيحنيفة الدِّينَوَريّ و«روضة المنجّمين» للحكيم شَهْمَرْدان الرازيّ من كتب القدماء، وكتاب «علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون الوسطي»[47] للمستشرق الاءيطاليّ: نَلّينو. والمستشرقُ الفرنسيّ سِدِيّو الذي تَرجم باللغة الفرنسيّة مقدّمةَ كتاب «زيج» أُلُغ بيك بن شاهرخ بن أمير تيمور، ذكر في مقدّمة كتابه هذا ما يفيد تضلّع العرب في النجوم والانواء. المقدّمة الخامسة عشرةالسنوات القمريّة وشهورها لمتكن من مختصّات الاءسلام ومخترعاته، بل غالب الاقوام القديمة كانوا يتّخذون السنوات القمريّة وشهورها في أُمورهم. أهل الصين الذين كانوا متقدّمين في علم النجوم علي سائر الاقوام، وذلك قبل ألفي سنة من ميلاد المسيح، وكانوا يستخرجون تقاويم الكواكب ويحسبون الكسوفات والخسوفات، وكانوا يعيّنون عبور ثمانية وعشرين كوكباً من دائرة نصف النهار، ويعيّنون دورة حركة الشمس علي مقدار 365 يوماً وربع يوم؛ كانوا يتّخذون في أُمورهم ومحاوراتهم وتواريخهم السنين القمريّة وشهورها. مِتُن: المنجّم المعروف اليونانيّ الذي كانت حياته قبل خمسة قرون من ميلاد المسيح، اكتشف أنّ تسع عشرة سنةً شمسيّةً تشمل مائتين وخمساً وثلاثين رؤيةً للهلال، وبَعد هذه المدّة أهلّة القمر تعود علي ترتيبها الاوّل وموضعَي الشمس والقمر يعودان علي كيفيّتهما الاُولي بالنسبة إلي الارض. و إنّ هذه المدّة سمّيت عند اليونانيّين بالدورة الذهبيّة. وعرب الجاهليّة بأجمعهم كانوا يتّخذون الشهور القمريّة في مواقيتهم. وعند هذه الطوائف جميعاً كان مبدأ الشهر القمريّ، رؤية الهلال بعد خروجه عن تحت الشعاع. ولم يُنسب إليهم العلم بمعرفة السنة الشمسيّة وشهورها. * * * إذا تمهّدت هذه المقدّمات، نقول: مبدئيّة خروج القمر عن تحت الشعاع، تخالف اتّفاق جميع الاقوام والاُمماتّفقت الاُمم والاقوام الذين كانوا قبل الاءسلام ومنها العرب الجاهليّ الذين كانوا يتمسّكون في تواريخهم بالشهور القمريّة وسنواتها، وبعد الاءسلام إلي حدّ الآن؛ علي أنّ مبدأ كلّ شهر هو رؤية القمر بعد خروجه عن تحت الشعاع. وذلك لايكون إلاّ في وقت غروب الشمس في اليوم التاسع والعشرين أو الثلاثين؛ وبذلك يدخل الشهر اللاحق الذي مبدؤه أوّل دخول الليل. وبهذه المناسبة يجعلون ليلة كلّ يوم، الليلة التي قبله لا الليلة التي بعده. وكلّ شهر من هذه الشهور يكون ثلاثين يوماً أو تسعةً وعشرين يوماً. وهذا أمر رائج دارج بين جميع الاقوام. وهذا مبنيّ علي أنّ لرؤية الهلال الدالّة علي كون القمر فوق الاُفق دخلاً في تحقّق الشهر الهلاليّ وإلاّ لم يتحقّق شهر ثلاثونيّ أبداً ولا شهر تسعة وعشرونيّ أبداً، لما عرفت من أنّ الشهر القمريّ يكون 29 يوماً و12 ساعةً و44 دقيقةً [ في المتوسّط ].[48]فإذا جعلنا مبدأ الشهر هو خروج القمر عن تحت الشعاع مثلاً وهو أمر وحدانيّ في جميع العالم، فربّما يخرج القمر عن تحت الشعاع بعد ساعة من الليل وربّما بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات، وهكذا؛ وربّما يكون خروجه أوّل طلوع الفجر أو أوّل طلوع الشمس أو بَعد ساعة من طلوعها أو بَعد ساعتين أو بَعد ثلاث ساعات، أو في وسط النهار وقت زوالها؛ فلا يمكن تعيينه وتقديره بوجه من الوجوه. والسرّ في ذلك أنّا ذكرنا أنّ القمر يخرج عن تحت الشعاع بَعد اثنتي عشرة درجةً من المقارنة؛ وكلّ درجة تطول ساعتين زماناً. فعلي هذا إذا فرضنا في حين من الاحيان مثل وقت غروب الشمس بأُفق طهران، أنّ القمر لمّا يخرج عن تحت الشعاع ويخرج بعد سيره في المدار بقدر الدرجتين المساويتين لاربع ساعات زماناً، ففي نفس الغروب لم يدخل الشهر الجديد قطعاً؛ ولكن بعد سيره بقدر درجتين بمدّة أربع ساعات يخرج القمر ويدخل الشهر الجديد قطعاً؛ فعلي هذا لابدّ وأن تكون هذه الساعات من الشهر الماضي وبقيّة ساعات الليل من الشهر الآتي بلا كلام. مثلاً إنّ أربع ساعات من ليلة الثلاثين من شهر رمضان تكون من شهر رمضان وبقيّة الساعات تكون من ليلة العيد. وإذا فرضنا أن يكون سير القمر تحت الشعاع في المدار بقدر ثلاث درجات في مدّة ستّ ساعات زماناً، فلابدّ وأن نحسب ستّ ساعات من الليل من شهر رمضان والباقي من ليلة العيد.
أو أن يكون سيره تحت الشعاع في المدار بقدر خمس درجات، وهي تطول عشر ساعات؛ فليلة الثلاثين كلّها تكون من شهر رمضان، إذا كان الليل مثلاً عشر ساعات؛ وبمجرّد طلوع الفجر يدخل الفطر.
وهكذا إذا خرج عن تحت الشعاع وهو تحت الارض. مثلاً إذا فرضنا كون القمر عند الغروب بأُفق طهران تحت الشعاع بعشر درجات ويطول خروجه عنه مقدار عشرين ساعةً، فلا محالة يخرج عن تحت الشعاع وهو واقع تحت الارض؛ فلابدّ وأن نلتزم بأنّ ثُلث اليوم الثلاثين أو نصفه أو ثُلثيه وهكذا من شهر رمضان والباقي من الشوّال.
وهكذا يكون دخول الشهر في كلّ نقطة نقطة من بقاع الارض طولاً، غيره في نقطة أُخري بحسب ساعات الليل والنهار. فهل يمكن لاحد أن يلتزم بهذه المحاذير التي يساوي الالتزام بها إنكار ضروريّات الاءسلام بل جميع الملل والاديان بل جميع الاُمم والاقوام ؟ كلاّ. فبهذه الوجوه لم يلتزم أحد، بل لم يتفوّه بأنّ مبدأ الشهور القمريّة هو نفس الخروج عن تحت الشعاع؛ بل الجميع متّفقون علي أنّ للرؤية دخلاً في ذلك. فجميع الملل و الاقوام بانون علي الرؤية؛ فإذا رأوه حكموا بانقضاء الشهر السابق ودخول اللاحق. اختلاف الآفاق هو السبب الاصليّ لرؤية الهلال في بعض البلاد دون بعضفإذاً لمّا كانت الارض كرويّةً، وهي مع ذلك تدور حول نفسها بحركتها الوضعيّة من المغرب إلي المشرق دائماً في كلّ يوم وليلة تامّين ـ وهو أربع وعشرون ساعةً تقريباً[49] ـ أزيد من الدورة الكاملة التي تساوي ثلاثمائة وستّين درجةً بدرجة واحدة، وفي ساعة واحدة تدور أزيد من خمس عشرة درجةً بقليل، وفي دقيقة واحدة أزيد من ربع درجة بقليل، ولا تلبث لحظةً إلاّ وهي تدور حول قطبيها، وبذلك تتبدّل دوائر أنصافالنُّهُر وتبعد كلّ نقطة فرضناها عن نقطة طلوع القمر بحسب طول البلاد دائماً؛ فإذا فرضنا خروج القمر عن تحت الشعاع، يراه الذين كان القمر فوق آفاقهم المحلّيّة، ولا يراه أهل غير هذه الآفاق ممّن كان القمر تحت آفاقهم. فبناءً علي ما ذكرنا، كرويّة الارض مع بُعد البلاد بعضها عن بعض طولاً من المغرب إلي المشرق، وعرضاً من دائرة الاستواء إلي القطبين، هما السببان الاصليّان في اختلاف الآفاق بالنسبة إلي مطالع القمر ومغاربه؛ وليس المانع من الرؤية وطلوعه مجرّد مانعيّة الجبال أو الغيوم أو ما شابههما. مثلاً إذا فرضنا مضيّ ثلاث ساعات أو أربع ساعات من الليل بأُفق طهران، فإذا طلع القمر وخرج عن تحت الشعاع في إسبانيا، رآه أهل هذا البلد؛ وأين المانع من رؤية أهالي طهران إيّاه من غيم أو جبل ؟ بل المانع هو اختلاف الاُفق. فطلوع القمر في إسبانيا أمر واضح لكونه فوق أُفقهم؛ وأمّا بالنسبة إلي أهالي طهران فلا، لكونه واقعاً تحته. وبهذا تبيّن أنّ الشهر الهلاليّ يختلف مبدؤه حسب اختلاف البلاد في رؤية القمر.
نعم، البلاد التي لم تَرَ الهلال، لا لعدم كون القمر تحت الاُفق بل لعارض سماويّ مثل السحب والغيوم أو أرضيّ مثل الكُثب والجبال والاتلال، فهي متّحدة الاُفق مع البلاد التي رآه أهلها. فإذاً، الرؤية ليست موضوعاً لدخول الشهر في كلّ ناحية علي الاءطلاق، بل موضوعاً دالاّ علي ثبوت الهلال القابل للرؤية فوق الاُفق. وبما ذكرنا ظهر: أوّلاً: أنّ نفس خروج القمر عن تحت الشعاع لا مدخل لها في تحقّق الشهر الهلاليّ أصلاً. وثانياً: أنّ للرؤية دخلاً في هذا التحقّق. وثالثاً: أنّه في كلّ بلد تحقّقت الرؤية في أوّل الليل فيه أو في ما قاربه من البلاد في الآفاق، تحقّق مبدأ الشهر؛ وفي كلّ بلد لم تتحقّق الرؤية وكان غير مشترك الاُفق مع البلد المرئيّ فيه، لايتحقّق مبدأ الشهر بل الشهر يبتدي من الليلة التالية. وهذا يكون في البلاد الشرقيّة عن أُفق الرؤية إجمالاً. ورابعاً: أنّ الرؤية الفعليّة ليست موضوعاً لدخول الشهر في كلّ بلدة بلدة، بل الرؤية الفعليّة إجمالاً طريق إلي ثبوت الهلال فوق الاُفق. فالبلاد المتّحدة الآفاق كلّها في هذا الحكم سواء والبلاد المختلفة الآفاق، كلّ واحد منها تابع لحكم نفسه. وخامساً: أنّ لطلوع القمر وغروبه دخلاً في تحقّق الشهر، وهذا يختلف باختلاف المطالع والمغارب بالنسبة إلي القمر. كما أنّ الشمس تختلف مشارقها ومغاربها في النواحي والاماكن المختلفة ولافرق بين الشمس والقمر في ذلك. طلوع القمر واقعة سماوية مرتبطة بالارض وبقاعهاوأمّا الاستدلال بأنّ الشهر الهلاليّ لا ربط له بالآفاق الارضيّة والمطالع والمغارب وإنّما هو حادثة سماويّة لادخل لها بالارض؛ مضافاً إلي أنّه دعوي بلا دليل، فتدفعه الادلّة المتقنة المتقدّمة التي لامناص لنا من قبولها والالتزام بها. ولعمري ما الفرق بين طلوع القمر إذا خرج عن تحت الشعاع وبين الكسوف، في أنّ كلّ واحد منهما أمر سماويّ ! فكيف إذا تحقّق الكسوف المرئيّ في ناحية وغير المرئيّ في ناحية أُخري، يُلتزم به وبما يترتّب عليه منالاحكام في هذه الناحية ولا يُلتزم به ولا تترتّب عليه الاحكام في تلك الناحية؛ ولا يلتزم ذلك في طلوع القمر ؟ فكما أنّ للنواحي المختلفة من الارض دخلاً في تحقّق الكسوف وهو اختلاف البلاد طولاً وعرضاً، فكذلك الامر في طلوع القمر؛ والفرق بينهما تحكّم جدّاً. إن قلتَ: فرق بين الكسوف وخروج القمر عن تحت الشعاع. لانّ الكسوف ليس أمراً سماويّاً ولا ربط له بالقمر، بل هو عبارة عن احتجاب الشمس لاهل الارض بحيلولة القمر، الحاصل بدخول الارض في الظلّ المخروطيّ من القمر؛ كما ورد هذا العنوان في الرواية بأنّه كَسَفَتْ عَنَّا الشَّمْسُ. فالاحتجاب إنّما هو بالنسبة إلي الارض وأهلها؛ ومعلوم أنّ الاحتجاب مختلف بالنسبة إلي سكنة الارض، ولا يكونون جميعاً تحت هذا الحجاب. فإذاً في كلّ ناحية من الارض حصل الاحتجاب، تترتّب عليه أحكامه من صلاة الآيات وغيرها، وفي كلّ ناحية لم يحصل لا تترتّب عليه الاحكام. قلتُ: خروج القمر عن تحت الشعاع أيضاً كذلك. لانّه عبارة عن خروجه من مقارنة الشمس بمسافة معيّنة بالنسبة إلي أهل الارض؛ فلولا أهل الارض ومحاذاتهم، لاتتحقّق المقارنة والخروج أبداً. ومع غضّ النظر عن الارض، لايختلف حال القمر في المحاق وتحت الشعاع عن سائر أحواله، وهو يدور في السماء حول الارض دائماً بلا تغيير كيفيّة ولا تبديل حال؛ ولكن إذا لاحظنا محاذاة الارض بالنسبة إليه فتختلف الاحوال؛ ففي حال المقارنة يصير المحاق، وبعدها يري بشكل الهلال، وفي التسديس والتربيع والتثليث بأشكال مختلفة، وفي المقابلة بشكل البدر؛ يَسْـَلُونَكَ عَنِ الاْهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَ قِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. [50] والمحصّل: أنّه إذا قطع النظر عن محاذاة الارض ونواحيها المختلفة وملاحظة اختلاف مناظر أهلها بالنسبة إلي القمر، فكما أنـّه لايتحقّق كسوف، لايتحقّق خروج عن تحت الشعاع أيضاً؛ وإذا لوحظت محاذاة الارض واختلاف مناظر أهلها، فكما أنّ الكسوف له ربط بالارض، كذلك الخروج عن تحت الشعاع بلا فرق. ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرناه من النقض إنّما هو بالنسبة إلي الكسوف فقطّ؛ وأمّا الخسوف وهو دخول القمر في الظلّ المخروطيّ الحادث من الارض، فالنقض غير واضح. حيث إنّ ظلمة القمر وكدورته حادثة سماويّة، كما ورد بأنّه خَسَفَ الْقَمَرُ. فبحيلولة الارض ينخسف القمر في السماء علي كلّ حال، وإن كانت الارض دخيلةً في تحقّقه. فلقائل أن يقول في بادي نظره: إنّ ظلمة القمر واقعة سماويّة، وإن كان بالتأمّل التامّ يظهر أنّ الخسوف أيضاً كذلك. فإن قلتَ: سلّمنا، ولكنّ الدليل الشرعيّ قائم بأنّ في كلّ ناحية رئي الكسوف يحكم فيها بأحكام دون ناحية أُخري. قلنا: هكذا الامر بالنسبة إلي طلوع القمر؛ ففي كلّ ناحية رئي خروجه عن تحت الشعاع حكم بدخول الشهر القادم، دون ناحية لم يُر الخروج فيها. مناط اتّحاد الاُفق واختلافهنعم، يبقي هنا سؤال معرفة «مناط اتّحاد الاُفق واختلافه». والذي يمكن أن يُغري بعضَ الاعلام بالميل إلي رفض مسألة الاتّحاد في الآفاق بالنسبة إلي دخول الشهر هو عدم تعيين مناط خاصّ لهذه المسألة في كتب النجوم والهيئة. حيث إنّ الشافعيّة الموافقين لنا في لزوم الاتّحاد في الآفاق التزم بعضهم بأنّ مناط الاختلاف هو مسافة القصر[51] وبعضهم بأنّ المناط هو أربعة وعشرون فرسخاً؛[52] كلّ ذلك دعوي بلا دليل وقياس بمسافة القصر في الصلاة، وأين هذا من ذاك ؟ والذي يسهّل الخطب أوّلاً: أنّ عدم تعيين الآفاق لايوجب رفع اليد عن الحكم الذي بيّنّا والالتزامَ بخلافه الذي لايمكن الالتزام به. وثانياً: أنّ الاتّحاد والاختلاف في الآفاق بالنسبة إلي رؤية القمر هو الاتّحاد والاختلاف في مطالعه كما عليه العلماء، ولكن لم يُرَ لاحد منهم تعيين ظابطة كلّيّة للمطالع. بيان ضابطة كلّيّة لتعيين الحدّ في اشتراك الاُفقوالذي ألهمنا الله تبارك وتعالي في ضبط قاعدة كلّيّة للآفاق المتّحدة بالنسبة إلي مطالع القمر، هو الاستمداد من زمان غروب القمر في النواحي المختلفة، وهو الرابطة بين الزمان والمكان: زمان مكث القمر فوق الاُفق حتّي يغرب، والمكان البعيد شرقاً عن محلّ الرؤية. بيان ذلك: أنّ كلّ درجة من مكث القمر فوق الاُفق تطول أربع دقائق تقريباً، لانّ غروبه إنّما هو بسبب الحركة الوضعيّة للارض من المغرب إلي المشرق. والارض تسير نحو المشرق كلّ درجة منها في أربع دقائق. فإذا فرضنا أنّ البعد المعدّل الذي هو عبارة عن الفصل بين مَغيبي النيّرين في محلّ الرؤية يكون عشر درجات أحياناً، ففي هذه الصورة يغرب القمر بَعد أربعين دقيقةً. بمعني أنّ الارض تسير نحو المشرق عشر درجات طولاً في مدّة أربعين دقيقةً حتّي تُخفي القمر تحتها، وبهذه الحركة يصير محلّ الرؤية بعيداً عن المدار بقدر أربعين دقيقةً، ويصل إلي محلّ لم ير القمر حين يراه جميع البلاد التي قبله. فالبلاد الواقعة بين محلّ الرؤية والمحلّ الذي يكون طوله نحو المشرق أربعين دقيقةً، متّحدة الآفاق مع محلّ الرؤية؛ لانّ القمر في زمان الرؤية يكون قابلاً لها في جميع هذه البلاد ولو بلحظة. البلاد التي تكون قريبةً بالنسبة إلي محلّ الرؤية تري القمر أطول زماناً من البلاد التي تكون بعيدةً عنه، والجميع مشترك في إمكان الرؤية؛ وهو المُعبّر عنه بالآفاق المشتركة. لكنّ القمر لا يطلع في جميع الشهور علي نسق واحد حتّي تكون الآفاق المتّحدة مع محلّ الرؤية ثابتةً؛ بل بناءً علي ما مرّ عليك من طلوع القمر في بعض الاحيان قريباً من تقويم الشمس وفي بعضها بعيداً عنه (و هو المعبّر عنه بالبُعد السوي) أوّلاً، ومن قرب مغربَيهما تارةً وبُعدهما أُخري (و هو المعبّر عنه بالبعد المعدّل) ثانياً، وبارتفاعه عن الاُفق تارةً وانخفاضه أُخري ثالثاً، وبلحاظ اختلاف النواحي والاصقاع طولاً وعرضاً رابعاً، وبسائر الجهات الدخيلة في الرؤية خامساً؛ لابدّ وأن نبيّن تقويم القمر فيأوّل كلّ شهرٍ علي حدة، حتّي نحكم باتّحاد آفاق البلاد التي يكون فيها الهلال قابلاً للرؤية بحسب تلك الشهور. و معلوم أنّه لايتيسّر لنا الوصول إلي هذا المرام إلاّ بحساب رياضيّ دقيق جدّاً لكلّ شهر بحذائه، لكنّ القواعد الشرعيّة المبنيّة علي المساهلات تأبي ذلك كلّه؛ فاعتبار المطالع المحوِجة إلي الحساب وتحكيم المنجّمين غير مقبول شرعاً. فلا مناص إلاّ بالاخذ بالقدر المشترك في الآفاق، أي الذي يشترك فيه جميع الشهور. فبناءً عليه نقول: إنّ أقلّ[53] درجة البعد المعدّل للقمر حتّي يصير قابلاً للرؤية يكون ثماني درجات، فأقلّ مدّة بقاء القمر في السماء فوق الاُفق المحلّيّ في أوّل دخول الشهر يكون علي حوالي نصف ساعة بعد غروب الشمس ويغيب بعد مضيّ هذه المدّة؛ فكلّ بلد شرقيّ قريب العرض بالنسبة إلي محلّ الرؤية إذا كان الاختلاف بينه وبين محلّ الرؤية إلي حدّ نصف ساعة طولاً، تجوز له رؤية الهلال في الاُفق بعد الغروب بمدّة عشرين دقيقةً أو خمس عشرة دقيقةً أو عشر دقائق أو خمس دقائق أو دقيقتين، إلي دقيقة واحدة حتّي إلي لحظة واحدة، إذا حصلت الرؤية في بلدها وقت غروب الشمس. فجميع هذه البلاد متّفقة الآفاق مع محلّ الرؤية وإن لم يَرَ أهلها الهلال. مثلاً إذا رئي الهلال في طهران، فتجوز رؤيته في سِمْنان الواقع في شرقه بثماني دقائق طولاً[54]، وفي دَامْغان باثنتي عشرة دقيقةً، وفي شاهرودبأربع عشرة دقيقةً، وفي سَبْزوار بخمس وعشرين دقيقةً، وفي نَيسابور بتسع وعشرين دقيقةً، وفي المشهد الرضويّ علي ثاويه آلاف التحيّة والثناء بثلاث وثلاثين دقيقةً. وكذا تجوز الرؤية في البلاد القريبة طولاً من هذه البلاد وإن اختلفتا عرضاً في الجملة، كآمـُل وساري شمالاً وقُمّ وإصْبَهان جنوباً. وكذا تجوز الرؤية في البلاد الغربيّة بالنسبة إلي طهران طولاً إذا كان عرضها قريباً من عرضه، كهَمَدان وكِرْمَنْشاه وخانِقَيْن وبغداد والقاهرة وغيرها.
فإذاً يستفاد ممّا ذكرنا ضابطة كلّيّة وهي: الآفاق المشتركة عبارة عن جميع البلاد الغربيّة القريبة العرض بالنسبة إلي مطلع القمر، وجميع البلاد الشرقيّة التي كانت مشتركةً في إمكان الرؤية مع بلد الرؤية ولو بلحظة، واقعةً في الطول الجغرافيّ بمسافة اثنتين وثلاثين دقيقةً زماناً.[55] پاورقي [45] ـ ولذلك تري أنّ أرباب الزيجات وأصحاب الارصاد يحسبون اختلاف المنظر في الخسوفين والهلال بلا كلام، فلا تقريب من هذه الحيثيّة في حساباتهم؛ ولكنّ المحقّق المذكور لم يذهب في تعيين الضابطة الكلّيّة إلي حساب اختلاف المنظر فأصبحت حساباته في هذا المقام علي سبيل التقريب منه عفي عنه. [46] ـ وقد تقدّم ] في ص 41 [ أنّ التحقيق أنّ الهلال يُري علي بُعد تسع درجات أيضاً؛ وبذلك صرّح الراصدون بسمرقند، بل بأقلّ من تسع درجات بقليل أيضاً منه عفي عنه. [47] ـ هذا الكتاب قد ترجم باللغة الفارسيّة أخيراً بعنوان: «تاريخ نجوم إسلامي». وفيه بحث تاريخيّ للنَّسيء الوارد في القرآن الكريم وبحوث أُخري. [48] ـ راجع ص 21. [49] ـ إنّما قيّدنا اليوم بأربع وعشرين ساعةً تقريباً، لانّ الارض تدور حول نفسها بحركتها الوضعيّة من المغرب إلي المشرق دوراً كاملاً يساوي ثلاثمائة وستّين درجةً في ثلاث وعشرين ساعةً وستّ وخمسين دقيقةً وبضع ثوان تحقيقاً. ويسمّي هذا باليوم النجوميّ. وحيث إنّ الارض تدور أيضاً من المغرب إلي المشرق [ علي خلاف جهة حركة عقرب الساعة ] بحركتها الانتقاليّة في كلّ يوم ما يقرب درجةً واحدةً التي تطول [ بحسب حركتها الوضعيّة ] أربع دقائق تقريباً [ حتّي تصل إلي حالتها الاُولي بالنسبة إلي الشمس، فلابدّ من ملاحظة الحركتين ]؛ فيصير المجموع ثلاثمائة وواحدةً وستّين درجةً في أربع وعشرين ساعةً تقريباً. ويسمّي هذا باليوم الشمسيّ. أمّا اليوم النجوميّ فثابت في جميع أيّام السنة؛ وذلك لانّ حركة الارض من أيّ دائرة من دوائر أنصاف النُّهُر، إذا فرضت مسامتة أيّ كوكب [ من الثوابت ] في السماء إيّاها إلي دور كامل ينتهي إلي مسامتة ذلك الكوكب لتلك الدائرة، لا تختلف أبداً. وأمّا اليوم الشمسيّ فيختلف؛ لانّ حركة الارض الانتقاليّة بيضويّة [ و مدارها بالنسبة إلي معدّل النهار متمايل ]، فيختلف بسبب ذلك هذه الاربعة من الدقائق في أيّام السنة، فبعضاً يكون أقلّ وبعضاً يكون أكثر؛ فلذا قلنا: أربع وعشرون ساعةً تقريباً منه عفي عنه. [50] ـ الآية 189، من السورة 2: البقرة. [51] ـ التزم به الشيخ يوسف الاردبيليّ الشافعيّ في كتابه: «الانوار لاعمال الابرار». فيص 228 من الجزء الاوّل؛ والرافعيّ، كما في حاشية الحاجّ إبراهيم لهذا الكتاب المطبوعة بذيل نفس الصفحة. [52] ـ كما في كتاب «الفقه علي المذاهب الاربعة» في ص 434 من الجزء الاوّل من الطبعة الرابعة، مستدلاّ بأنّه هو البعد الحاصل لاختلاف مطالع القمر. [53] ـ يُحسب الاقلّ، للاخذ بالقدر المشترك حتّي يلاحظ القدر المتيقّن من البلاد م. [54] ـ المراد بثماني دقائق طولاً، الفصل الزمانيّ بين سمنان وطهران وكذلك في دامغان و غيرها م. [55] ـ ولا يذهب عليك أنّ هذه المساحة الطويلة إنّما هي غاية ما يمكن أن يتصوّر في إمكان اتّحاد الآفاق [ و هي فيما إذا حصلت الرؤية في بلدها وقت غروب الشمس كما مرّ في ص 58 ]، لا أن تتحقّق فعلاً في كلّ محلّ رئي فيه الهلال، لما بيّنّا من حصولها في كلّ محلّ يغرب الهلال بعد اثنتين وثلاثين دقيقةً من غروب الشمس فيه؛ فعندئذٍ تكون الرؤية في ذلك المحلّ دليلاً علي وجود الهلال فوق الاُفق بهذا العرض العريض فيحكم باتّحاد جميع الآفاق الشرقيّة في هذه المساحة بالنسبة إلي محلّ الرؤية. وأمّا مجرّد رؤية الهلال بعد غروب الشمس في أُفقٍ فلا يدلّ علي اشتراكه مع أُفق آخر، لانّه ربّما يكون غروب الهلال بعد دقيقة أو لحظة من زمان الرؤية فلا يدلّ علي اشتراك ذلك المحلّ مع أيّ بلد آخر قريب منه فكيف بأبعد منه أو بالآفاق البعيدة. نعم، حيث إنّ غروبه يتحقّق غالباً بعد زمان من الرؤية ولو قليلاً، فيحكم باتّحاد ذلك المحلّ مع النواحي المتّحدة معه أو القريبة. و المحصّل أنّه لا تنتج الرؤية في بلد إلاّ دخول الشهر في ذلك البلد، ولايسري الحكم إلي أيّ بلد آخر إلاّ إذا اتّحدا مكاناً أو يعيّن ويقدّر فصل زمان رؤية الهلال وغروبه فيحكم باتّحاد كلّ أُفق يكون بُعده عن محلّ الرؤية بهذا المقدار من الزمان منه عفي عنه.
|
|
|