|
|
الصفحة السابقةلا يجوز الاخذ بالإطلاق إذا كان أصل المعني اللغويّ وسعته مشكوكاًنعم؛ لا يمكن الاخذ بالإطلاق إذا ما شككنا في أصل المعني اللغويّ، أو إذا كنّا نجهل سعة أو ضيق دائرة استعمال ذلك اللفظ لغة أو عرفاً، مثل لفظ « الماء » الذي نشكّ في كونه هل يصدق علی ماء الزاج والكبريت أيضاً أو لا؟ ومع أنَّ الماء من أظهر المفاهيم العرفيّة، ولكن وكما أفاد المرحوم الشيخ الانصاريّ في كتاب « الطهارة » فإنَّا نشكّ في بعض الاحيان في صدق « الماء » علی ماء الزاج والكبريت، وأنـّه هل يسمّي ماء الكبريت وماء الزاج بالماء أو لا؟ أي هل يصدق إطلاق الماء علی ها أو لا؟ ففي مثل هذه الصورة لايمكن أن نأخذ بالإطلاق ولا يمكن التمسّك بدليل: الماءُ طاهِرٌ، أو: الماءُ طَهورٌ، لاستنتاج أنَّ ماء الزاج والكبريت طهور ورافع للحدث والخَبَث أيضاً باعتبارهما من مصاديق الماء، لانـّنا نجهل حقيقة: هل يقال لهذا الشيء الخارجيّ ماء أو لا! أو كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالي: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [1].إذا لم تجدوا ماءً فتيمّموا بالصعيد الطيّب، وشككنا في المراد الاستعماليّ الفعليّ من الصعيد من ناحية سعة وصدق مفهومه، فهل المراد مطلق وجه الارض أو خصوص التراب الخالص؟ فهنا لا يمكننا الاخذ بالإطلاق أيضاً، لانـّنا نشكّ في نفس صدق المفهوم علی هذا المورد. أمّا لو تجاوزنا هذه الموارد فيجب الاخذ بالإطلاق مطلقاً، وفي كلّ مورد أُطلق لفظ ما، وتحقّق له ظهور في معني الماء، فذلك الظهور حجّة. وما قاله البعض بأنَّ اللفظ الفلانيّ منصرف إلی المعني الفلاني، فهذا الكلام لا دليل علیهإن لم يكن ثمّة وجه وشاهد للانصراف. وعليه، ف الانصراف يحتاج إلی الشاهد، فإذا كان الشاهد فيؤخذ به، وإلاّفيجب الاخذ بالظهور. وإنِ ادّعي شخص الانصراف بينما يدّعي آخر منعه بقوله: إنَّ الانصراف بَدْوِيٌّ ويَزُولُ بِالتَّأَمُّلِ. فهذا الكلام لا أساس له، ولا يصل بنا إلی نتيجة. وبشكل عامّ فإنَّ أمثال هذه الاحتجاجات في العبارات إن لمتعتمد علی القرينة الصارفة فإنَّها لا تكون مطابقة لاُصول البرهان. نعم؛ إذا ورد لفظ ما وأُقيمت قرينة علی انصرافه إلی بعض الافراد ـ بشكل عامّ أو في هذا الموضعـ فلا كلام، لكنّ ذلك أيضاً يحتاج إلی شاهد فيجب أن يقوم ذلك الانصراف بنزع ظهور اللفظ عن سعة المعني وعموميّته وحصره في مورد خاصّ ليكون المطلب تامّاً. ولاجل حلّ هذه المسألة بشكل عامّ ينبغي الالتفات إلی أنَّ أسماء الاجناس ـ أيَّاً كانتـ مثل لفظ: الماء و الصعيد و الارض و البَيع و الهِبَة وأمثالها قد وضعت لنفس الطبيعة بنحو لا بشرط قسم، المُعَبَّر عنها بلسان الاعتبار بـ الطبيعة المُهْمَلة. فلفظ « الماء » قد وضع للماء المهمل، أي الطبيعة المهملة لا بشرط قسم وكلّ لفظ في أصل وضعه إنَّما يُفهِم هذه الطبيعة المهملة فقط. فإذا قصد المتكلّم نفس هذه الطبيعة فالامر واضح. وإذا قصد الطبيعة المطلقة لا بشرط قسم أو الطبيعة المقيّدة بشرطِ شَيء أو بشرطلا، فهنا علیهأن يأتي بقرينة علی مراده. وفي قرينة « التقييد » يقوم المتكلّم غالباً ببيان مراده من خلال ذكر شاهد يدلّ علی حصر ذلك المطلق في الفرد المقيّد، ويشير بذلك الوضع إلی أنَّ المطلق غير مقصود، بل خصوص الفرد هو المقصود. هذا في قرينة التقييد. وأمّا في قرينة «الإطلاق » فالامر ليس كذلك، وإنَّما تتمّ قرينةالإطلاق بالسكوت، وتنعقد بواسطة عَدَم إيرادِ شَيْءٍ في الْكَلام يدلّ علی خصوصيّة من خصوصيّات هذا اللفظ المطلق. فإذا أتي بتلك الطبيعة المهملة ولا بشرط قسم كمراد استعماليّ للّفظ، ولمينصب قرينة علی التقييد، فنستفيد من سكوتهالإطلاق ( أي لابشرط قسم ). بناءً علی هذا، فعلي الإنسان أن يلاحظ جميع الخصوصيّات، والمقامات، ومناسبات الحكم والموضوع، وحال المتكلّم والمخاطب، والظروف التي ورد فيها الحكم، والظروف التي يمكن للإنسان أن يأتي فيها بالمأمور به، وسائر القرائن المحفوف بها الكلام، لكي يتّضح مقدار سعة انطباق دائرة هذا السكوت عَلَی ما يَنْطَبِقُ عَلَیهِ المَفْهُوم. لنحصل علی: ما يمكننا استفادةالإطلاق من سكوت المتكلّم، في حال ذكره مطلباً ولميأت بقرينة. لانَّ حجّيّة اللفّظ في ذلك المقدار من المعني المطلق الذي لايمكن تقييده بموردٍ خاصّ. وصرفه عن ظهوره بادّعاء الانصراف وعدمالإرادة، وما إلی ذلك. الفهم العرفيّ علی أساس ضوابط عميقة ليس للعقل من طرقلهافعندما يقترن اللفظ بالسكوت ويفيد ظهور معناه الاوّليّ، فمهما كان ذلك الظهور فهو حجّة. ويدرك الإنسان هذا الامر، لكونه عرفيّ ووجدانيّ، بِما أنـَّهُ مُدْرِكٌ لِلحَقائِقِ العُرْفيَّةِ وِجْداناً بِالذَّوْقِ الدَّقيق. يقولون: إنَّ المسألة الفلانيّة عرفيّة. نعم؛ تسليمها للعرف أمر سهل جدّاً. ولكنَّ ملاك تشخيص العرف دقيق إلی درجة أنَّ العقل لايدركه أيضاً، ولذا لا يستطيع العقل أن يتدخّل في عمل العرف، ويزيد فيه أو ينقص. فالامر أمر عرفيّ، لكنَّ ملاكه ومناطه دقيق إلی درجة أنـّه: لايُمْكِنُ أنْ يُزاحِمَهُ أوْ يُعارِضَهُ أيُّ شَيْءٍ. وتتفاوت القرينة التي تقام لاجل التقييد أو الانصراف إلی المراد بحسب اختلاف الاحوال والخصوصيّات. ففي بعض الاوقات تكون قرينة علی المجاز الذي يري البعض أنـّه « عشرون » مورداً، بينما يراه البعض الآخر « خمسة وعشرين » مورداً، وذهب بعض المحقّقين إلی أنـّه: لايَكادُ يَنْحَصِرُ تَحْتَ عَدٍّ، وَلا يَنْضَبِطُ تَحْتَ ضابِطَة. فقرائن المجازات قائمة علی أساس الذوق العرفيّ، ولا تنحصر في حساب أو ضابطة. فإذا قامت قرينة ما فذلك المعني المطلق منصرف، وإلاّ فلا. ففي موضع ما تكون القرينة صارفة، وفي موضع آخر معيّنة. فنحن نتبع القرينة، ومهما كانت سواء مقاليّة أم مقاميّة ( لفظيّة أم حاليّة ) لافرق. ويدور الكلام فيما لو ورد لفظ ولم يكن ثمّة قرينة في الكلام تدلّ علی التخصيص أو الانصراف إلی بعض الافراد أو الصرف عن المعني الظاهريّ، وانتهي الكلام بذلك السكوت الذي يدلّ علی عدم وجود القرينة، فيتحقّق لهذا اللفظ ظهور في معناه المطلق، وسيكون ذلكالإطلاق حجّة في تلك الطبيعة المهملة، وبإلحاق السكوت في الطبيعة المطلقة ( لابشرط قسم ). لا فرق في الاخذ بالإطلاق بين الإطلاقين الموضوعيّ والمحموليّولقد ظنّ البعض أنـّه يجب التفصيل في الاخذ بالإطلاق بين الموضوع والمحمول. أي يمكن الاخذ بالإطلاق في ناحية الموضوع مثلاً: الْماءُ سَيّالٌ، فـ « الماء » له إطلاق، حيث يشمل كلّ نوع من الماء، ولكن لايمكن الاخذ بالإطلاق في حكم « سيّال ». فالإطلاق عموماً لايجري في المحمولات، ويكون الإهمال في ناحية الحمل، دون الإطلاق. فإذا قلنا: زيدٌ عالمٌ، فزيد معلوم ومحدّد، ولكن لا نستطيع أن نقول إنَّ لفظ عالم يعني أنـّه عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ أي أنَّ زيداً عنده جميع علوم العالم، مع أنـّه لم يرد قيد في ناحية المحمول، وقد ذكر عالِمٌ علی نحو الإطلاق. أو إذا قلنا: هَذَا الدَّواءُ نافِعٌ، فلا يمكننا أن نقول: نافِعٌ لِكُلِّ مَرَض. فكلمة « هذا الدواء » موضوع ومحدّد؛ ولكن لا يمكننا أن نأخذ بإطلاق « نافع » ونقول: نافِعٌ لِكُلِّ مَرَضٍ في العالَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَی كُلِّ فَرْدٍ، مِنَ الصَّغيرِ وَالكَبيرِ، وَالشَّابِّ وَالهَرِمِ، والمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، إلَی غَيْرِ ذَلِكَ. بناءً علی هذا، ففي مثل رواية: أُولَئِكَ هُمْ خُلَفَائِي، لانستطيع الاخذ بإطلاق خُلَفَائِي. لانَّ الكلام ( أولئك هم خلفائي ) يفيد الإجمال. فلايّ شيء هم خلفاء؟ أفي القضاء؟ أم في الحكومة والولاية؟ أم أنـّهم خلفاء في الاحكام لرجوع الناس إليهم في أخذ معالم الدين والسنّة وتفسير الكتاب؟ فهناك إهمال من هذه الجهة، ولا نستطيع التمسّك بإطلاقها. وَقَد ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرنَا: أنَّ هذا الكلام ليس له أساس صحيح بأيّ وجه من الوجوه، لانـّه لا فرق في الاخذ بالإطلاق بين جهة الموضوع والمحمول. واللفظ الصادر من المتكلّم من دون نصب قرينة علی معني محدّد إنَّما يدلّ علی معناه الظاهريّ، والمعني الظاهريّ مطلق. ونصب القرينة دلالة علی التقييد، ولا فرق بين الموضوع والمحمول أبداً. ونستفيدالإطلاق من جهة المحمول بنفس الصورة التي نستفيد منهاالإطلاق في جهة الموضوع بواسطة مقدّمات الحكمة. أمّا السبب في كوننا لا نستفيدالإطلاق من زَيدٌ عالِمٌ و الدَّواءُ نافِعٌ، لانَّ نفس اللفظ لا يدلّ علی الإطلاق، فكلمة « عالِمٌ » تدلّ علی صرف الانتساب إلی العلم. ولو كان اللفظ بنحو يفيدالإطلاق لكنّا استفدنا ذلك منه أيضاً، كأن نقول:: زَيدٌ الْعالِمُ؛ أي: أنَّ زيداً عالم بجميع أفراد العلم. فدخول الالف واللام دليل علی الإطلاق. أي هو عالم بكلّ ما للكلمة من معني، وكذلك: زيدٌ الشُّجاعُ، زيدٌ البَطلُ المُحامي، وأمثال ذلك. وينسب النفع إلی الدواء بنحو الإهمال في «هَذا الدَّواءُ نافِعٌ» فقط. ولو قلنا: هَذا الدَّواءُ النَّافِعُ، نستفيد من الالف واللامالإطلاق. ولهذاالإطلاق لابدّ أيضاً من التمسّك بمقدّمات الحكمة. وكذا الحال في الموضوع أيضاً. فلو قيل: الماءُ بارِدٌ، فَيُعلَم من الالف واللام، الدالّة علی العهد الذهنيّ، أنَّ لازم ذلك هو سراية برودة الماء إلی كلّ ما ينطبق علیهلفظ « الماء » ( مصاديقه ) في العالم. لانَّ لفظ الماء يفيد أنَّ هذه الطبيعة، بهذا الوصف والعنوان يصدق علی ها مفهوم « بارد » حيثما وجدت. أمّا لو أبدلنا كلمة « الماء » بكلمة « ماء » بدون ألف ولام، أو مثل: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرادَة، أو: رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْ مَرْأَة؛ فلا يستفاد منهاالإطلاق إلاّ بتلك الشروط المذكورة. فكيف نستفيدالإطلاق من: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرادَة و رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْ مَرْأَة؟! وهذا بخلاف ما لو قيل: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ المَرْأة. وخلاصة المطلب: لا فرق في الاخذ بالإطلاق بين الموضوع والمحمول، وأينما كان للفظ ظهور فيالإطلاق، فذلك الظهور حجّة. فليس من فرق بين الموضوع والمحمول علی الإطلاق في جميع الامثلة التي ذكرناها، وكذلك بقيّة المسائل والاحكام والاوامر الواردة في الشرع، مثل: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ، أو: قَائِمٌ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، أو: أُولَئِكَ خُلَفَائِي، أو: أُولَئِكَ رُوَاةُ حَدِيثِي يَرْوُونَ أَحَادِيثِي، وأمثال ذلك ممّا كانالإطلاق فيه محفوظاً في محلّه، ويدلّ علی المراد بالدلالة اللفظيّة. فلا الاخذ بالقدر المتيقّن هنا له معني، ولاانتظار القرينة، فاللفظ حجّة في المعني الذي يتحقّق له ظهور فيه وحسب. كانت هذه مقدّمة لبيان المطلب، وقد طالت إلی حدّ ما علی ما يبدو. الرواية الواردة في «الاحتجاج» عنالإمام الحسن العسكريّتفسيرالإمام لآية: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـ'بَ إِلآ أَمَانِيَّونرجع الآن إلی أصل البحث المتعلّق بولاية الفقيه، فنقول: إحدي الروايات التي يُستدلّ بها علی ولاية الفقيه هي الرواية التي ينقلها الشيخ الطَّبَرسيّ في « الاحتجاج » عن « التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكريّ علیه السلام » في ] تَفْسيرِ [ قَوْلِهِ تَعالَي: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـ'بَ إِلآ أَمَانِيَّ ] وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـ'بَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـ'ذَا مِنْ عِندِ اللَهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ [[2]. ففي هذه الرواية يتمسّك الإمام العسكريّ علیه السلام بقول الإمام الصادق علیه السلام في جوابه لرجل سأل عن الفرق بين عوامّ اليهود وعوامّنا؛ فيقول الإمام علیه السلام ضمن كلامه: فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَی هَوَاهُ، مُطِيعاً لاَِمْرِ مَوْلاَهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ. التقليد بمعني وضع القلادة في عنق الغير، وليس بمعني أن يضع المقلِّد قلادة الامر والنهي والالتزام بطاعة مقلَّده علی رقبته، فهذا تَقَلُّد وليس تقليداً. فالتقليد هو وضع القلادة في رقبة الغير، أي أنَّ المقلِّد يضع ثقله في عنق المجتهد، فيضيف المجتهد حمل أثقال مقلّديه إلی حمل أثقاله. «فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ» أي يضعون قلادة العمل والاعتماد والوساطة في العلم وأخذ أحكام الكتاب والسنّة في رقبته، وذلك مِنْ قَلَّدَهُ السَّيْفَ. فحين يقال: قلَّد الملك وزيرَه سيفاً، فيعني أنـّه قد جعله متحمّلاً لمسؤوليّة حمل السيف. ثمّ يقول علیه السلام: وَذَلِكَ لاَ يَكُوُنُ إلاَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لاَجَمِيعَهُمْ، فَإنَّهُ مَنْ رَكِبَ مِنَ القَبَائِحِ وَالفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَةِ العَامَّةِ، فَلاَتَقْبَلُوا مِنَّا عَنْهُ شَيْئاً وَلاَ كَرَامَةَ. ورد هذا الحديث بكامله في الجزء الثاني من « الاحتجاج » للطبرسيّ في ثلاث صفحات، وهو حديث طويل ويحتوي علی دقائق ولطائف ونكات. وبيّن الإمام الحسن العسكريّ علیه السلام مطالباً نفيسة عند تفسيره للآية المذكورة. أمّا الشيخ رحمه الله في رسائله، فلم يذكر جميع الرواية، واكتفي بما نقله الإمام العسكريّ علیه السلام من ذلك المقدار الذي يحتوي علی كلام الإمام الصادق في جواب ذلك السائل. وعلي الرغم من احتواء « التفسير المنسوب للإمام العسكريّ » علی مطالب غيرحقّة ( ولا يمكن للإنسان نسبة ذلك الكتاب إلی الإمام علی نحو اليقين، إذ كما هو ظاهر قد تصرّف فيه وأُلحقت به إضافات، ولذلك لانستطيع أن نعدّ جميع هذا التفسير ـمن ناحية المجموعـ معتبراً ) لكنّه إجمالاً يتضمّن روايات في أعلي درجات المتانة والدقّة، ومن ضمنها رواية تشتمل علی مضامين عالية جدّاً وراقية. ولتبيان جميع المطالب والاستدلال بها، ننقل هذه الرواية إن شاء الله تعالي، عن أصل « الاحتجاج » ليتبيّن محلّ استدلال الإمام العسكريّ علیه السلام، ومن ثمّ كلام الإمام الصادق علیه السلام. يقول الشيخ الطبرسيّ: وَبِالإسْنادِ الَّذي مَضَي ذِكْرُهُ عَنْ أبي مُحَمَّدٍ العَسْكَرِيِّ عَلَیهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ تَعالَي: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـ'بَ إِلآ أَمَانِيَّ» [3]. إنَّ الاُمِّيَّ، مَنْسُوبٌ إلَی «أُمِّهِ» أَيْ: هُوَ كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لاَيَقْرَأُ وَلاَيَكْتُبُ. «لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ» المُنْزَلِ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ المُتَكَذَّبِ بِهِ؛ وَلاَيُمَيِّزُونَ بَيْنَهُمَا «إلاَّ أَمَانِيَّ» أَيْ: إلاَّ أَنْ يُقْرَأَ عَلَیهِ مْ وَيُقَالَ لَهُمْ: إنَّ هَذَا كِتَابُ اللَهِ وَكَلاَمُهُ. أي أنَّ اليهود والنصاري لا يعلمون شيئاً من كتابهم ( الإنجيل والتوراة ) ولايفرّقون بين الكتاب النازل من السماء والكتاب الكاذب الذي يُنسب إلی الله ( لا يفرّقون بين النبيّ الحقيقيّ الذي من عند الله والنبيّ الكاذب الذي ينسب ذلك الكتاب إلی الله ) ولا يدركون عنه شيئاً أبعد من كونه كتاباً له صفحات ولا يميّزون بين واقع ذلك الكتاب الباطل وواقع الكتاب الحقّ إلاّ أمانيّ، فتمييزهم وتشخيصهم إنَّما هو علی أساس الامانيّ فقط. أي أنـّه ليس هناك مميّز في أذهانهم بين هذا الكتاب وبين الكتب الباطلة إلاّ أن يقرأ علی هم هذا الكتاب، ويقال لهم: هذا كتاب الله وكلامه، لتفرح قلوبهم ويبنوا علی ذلك أمانيّهم وأفكارهم وآمالهم. لاَ يَعْرِفُونَ إنْ قُرِيَ مِنَ الكِتَابِ خِلاَفَ مَا فِيهِ. فأصل الكتاب حقّ ولكن عندما يقرأه علماء النصاري أو اليهود يقرأه علی أحدهم بشكل مُحَرَّف، لا يفقه ذلك المسكين، فيتوهّم أنَّ ما يقرأه ذلك العالم من الكتاب هو ذلك المُنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ. «وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ» أَي مَا يَقْرَأُ عَلَیهِ مْ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنْ تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّياللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ فِي نُبُوَّتِهِ وَإمَامَةِ علی ٍّ سَيِّدِ عِتْرَتِهِ. وَهُمْ يُقَلِّدُونَهُمْ مَعَ أَنـَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَیهِ مْ تَقْلِيدُهُمْ. فحرامٌ تقليد العالم الخائن الذي قد حرّف كتاب الله وراح يطرح ما فيه بخلاف ما هو علی ه. «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـ'بَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـ'ذَا مِنْ عِندِ اللَهِ» [4] ] لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ [[5]. تتحدّث هذه الآيات القرآنيّة عن قوم من اليهود قلّدوا علماءهم، وكان أُولئك العلماء ينسبون إلی النبيّ أُموراً مخالفة للواقع ولمضامين التوراة، ويذكرونها لعوامّهم، فيقطعون بهذه الوسيلة الطريق علی هم في الوصول إلی النبيّ والإيمان به. يقول الإمام العسكريّ علیه السلام: هَذَا القَوْمُ اليَهُودُ كَتَبُوا صِفَةً زَعَمُوا أَنـَّهَا صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّي اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَهِيَ خِلاَفُ صِفَتِهِ، وَقَالُوا لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ: هَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ المَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: إنَّهُ طَوِيلٌ عَظِيمُ البَدَنِ وَالبَطْنِ، أَهْدَفُ، أَصْهَبُ الشَّعْرِ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّي اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ بِخِلاَفِهِ، وَهُوَ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا الزَّمَانِ بِخَمْسِمِائةِ سَنَةٍ. ( الاَصْهَب بمعني الاَشْقَر والاشقر لون بين الاحمر والاصفر. وهناك كثير من الخيول لها لون خاصّ، لا هو أحمر ولا هو أصفر، تسمّي بالخيول الشقر ). وَإنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ تَبْقَي لَهُمْ عَلَی ضُعَفَائِهِمْ رِيَاسَتُهُمْ، وَتَدُومَ لَهُمْ إصَابَاتُهُمْ، وَيَكُفُّوا أَنْفُسَهُمْ مَؤُونَةَ خِدْمَةِ رَسُولِاللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَخِدْمَةِ علی ٍّ عَلَیهِ السَّلاَمُ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَخَاصَّتِهِ. فالسبب في قيام علماء اليهود بهذا العمل أمام عوامّهم هو: أنـّهم إذا آمنوا فعليهم أن يكونوا كسائر المسلمين العاديّين، وأن يخضعوا لامر النبيّ، فيجاهدوا ويصلّوا ويؤدّوا الخمس والزكاة، وعليهم الطاعة والالتزام. وبما أنـّهم يطمحون بالقيادة، فلذلك لا يؤمنون بما جاء به الإسلام ويحاولون تحريف الحقائق لصرف ضعفاءهم عن النبيّ. فَقَالَ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ» مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ المُحَرَّفَاتِ وَالمُخَالِفَاتِ لِصَفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّياللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَعَلِيٍّ عَلَیهِ السَّلاَمُ! الشِّدَّةُ لَهُمْ مِنَ العَذَابِ فِي أَسْوَإِ بِقَاعِ جَهَنَّمَ «وَوَيْلٌ لَّهُم» الشِّدَّةُ فِي العَذَابِ ثَانِيَةً مُضَافَةً إلَی الاُولَي بِمَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ الاَمْوَالِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا إذْ أَثْبَتُوا عَوَامَّهُمْ عَلَی الكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَالحُجَّةِ لِوَصِيِّهِ وَأَخِيهِ علی ِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیهِ السَّلاَمُ وَلِيِّاللَهِ. كان هذا بيان الإمام العسكريّ علیه السلام لهذه الآية القرآنيّة، وتوضيح لتفسير آية: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـ'بَ إِلآ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّيَظُنُّونَ، ثمّ يستشهد الإمام علیه السلام بكلام الإمام الصادق علیهما السلام ( حيث قام الشيخ في « الرسائل » بنقل الكلام من هذا الموضع فما بعد ). بين علمائنا وعوامّنا وعلماء اليهود وعوامّهم فرق وتسويةثُمَّ قَالَ عَلَیهِ السَّلاَمُ: قَالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ عَلَیهِ السَّلاَمُ: فَإذَا كَانَ هَؤُلاَءِ القَوْمُ مِنَ اليَهُودِ لاَ يَعْرِفُونَ الكِتَابَ إلاَّ بِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، لاَسَبِيلَ لَهُمْ إلَی غَيْرِهِ، فَكَيْفَ ذَمَّهُمْ بِتَقْلِيدِهِمْ وَالقَبُولِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ وَهَلْ عَوَامُّ اليَهُودِ إلاَّ كَعَوَامِّنَا يُقَلِّدُونَ عُلَمَاءَهُمْ؟ بناءً علی هذا، فعلامَ يكون عوامّ اليهود خاطئين ويذمّهم الله مع أنـّهم أُمّيون وجهلة لاَ يَقْرَؤونَ وَلاَ يَكْتُبُونَ، ولا يفرّقون بين القرآن وبين التوراة والإنجيل ولا بين الكتب الضالّة الاُخري، ولا يميّزن بعضها عن بعض؟ فما ذنب هؤلاء المساكين إذا لم يكن لهم من طريق لتحصيل معارفهم الدينيّة سوي علمائهم، وعلماؤهم لا يعطوهم سوي الحقائق المزيّفة؟ وهل عوامّ اليهود إلاّ مثل عوامّنا الذين يقلّدون علماءنا ويعملون بما يأمرونهم به؟ هذا هو إشكال ذلك السائل علی الإمام العسكريّ علیه السلام. فَقَالَ عَلَیهِ السَّلاَمُ: بَيْنَ عَوَامِّنَا وَعُلَمَائِنَا وَعَوَامِّ اليَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ فَرْقٌ مِنْ جَهَةٍ وَتَسْوِيَةٌ مِنْ جَهَةٍ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ اسْتَوَوْا: فَإنَّ اللَهَ قَدْ ذَمَّ عَوَامَّنَا بِتَقْلِيدِهِمْ عُلَمَاءَهُمْ، كَمَا ذَمَّ عَوَامَّهُمْ؛ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ افْتَرَقُوا،فَلاَ[6]. فلا يختصّ ذمّ الله في الجهة المشتركة بعوامّ اليهود، بل يشمل عوامّنا أيضاً، فحين يقلّدون العلماء الذين يبدون لهم خلاف الواقع ويقبلون منهم ذلك، فسيقعون تحت طائلة الذمّ، ويكونون عرضة للعقوبة. أي عندما يعرف عوامّنا عالماً له سوابق سيّئة ومن أهل الخيانة، ومعروف بحبّه للدنيا وجمع المال والرئاسة، فيتبعونه وهو بهذه الحال، فالذمّ نصيبهم والعقوبة حصيلتهم، لانـّهم سيُسألون عن سبب اتّباعهم ذلك الشخص علی الرغم من معرفتهم بخيانته بوجدانهم ونورهم القلبيّ، وكذا الحال بالنسبة لعوامّ اليهود فإنَّهم سيتعرّضون للسؤال والمؤاخذة. أمّا من جهة اتّباع عوامّنا للعلماء الصالحين، بعد التفحّص عن أحوالهم، فهنا يكمن الفرق بين عوامّنا وعوامّ اليهود، لانـّه لو قلّد عوامّنا علماءهم في أُمور مشتبه بها، فليس علی عاتقهم من وزر، بخلاف تقليد عوامّ اليهود لعلمائهم. اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد
أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ وصلَّي اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِيِّ العَظِيمِ يمكن لايّ شخص أن يشخّص علماء السوء بإدراكه الوجدانيّ و...ذكرنا أنَّ الإمام جعفر الصادق علیه السلام أجاب ذلك السائل بأنـّه يوجد بين عوامّنا وعلمائنا وعوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة أُخري. أمّا في الجهة التي يتساوون فيها فذمّ الله تعالي شامل لتقليد عوامّنا لعلمائهم أيضاً. فهذا لا يعني أنَّ الذمّ لا يشمل عوامّنا بينما عوامّهم محلّ لذلك الذمّ. قَالَ: بَيِّنْ لي يَابْنَ رَسُولِ اللَهِ! يقول الراوي للإمام علیه السلام: بيّن لي هذا الامر ووضّحه، فما هو المناط في جهتي الاختلاف والتساوي؟ وما هو الدليل علی ذلك؟ قَالَ عَلَیهِ السَّلاَمُ: إنَّ عَوَامَّ اليَهُودِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا عُلَمَاءَهُمْ بِالكِذْبِ الصَّرَاحِ، وَبِأَكْلِ الحَرَامِ وَالرُّشَاءِ، وَبِتَغْيِيرِ الاَحْكَامِ عَنْ وَاجِبِهَا بِالشَّفَاعَاتِ وَالعِنَايَاتِ وَالمُصَانَعَاتِ. وكمثال علی ذلك يشفع البعض عند العالم فيقوم من ناحيته بتغيير حكم الله تعالي لاجل هذه الشفاعة والتوصيات، ويلجأ إلی سحق الحقّ وتغييره، بسبب اهتمامه وعنايته بخواصّه وأقربائه وقومه وأصدقائه من خلال المصانعات والاتّفاقات والالاعيب الحاصلة، وكان العوامّ يفهمون ما يقوم به علماؤهم. وَعَرَفُوهُمْ بِالتَّعَصُّبِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُفَارِقُونَ بِهِ أَدْيَانَهُمْ. فكان العوامّ علی علم بأنانيّة علمائهم وتعصّبهم وشعورهم بالذات بنحوٍ أبعدهم ـباتّباعهم التعصّب، والمحوريّة، والإحساس بالذات، وعدمالتنازل عمّا باتوا علیهعن الاحكام الواردة في كتابهم ودينهم، وانفصلوا عن الدين، فلم يعودوا قادرين علی العمل بأحكام الدين بسبب ذلك التعصّب والاستبداد الفكريّ والنفسيّ. وَأَنَّهُمْ إذَا تَعَصَّبُوا أَزَالُوا حُقُوقَ مَنْ تَعَصَّبُوا عَلَیهِ وأَعْطَوْا مَا لاَيَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَعَصَّبُوا لَهُ مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِهِمْ وَظَلَمُوهُمْ مِنْ أَجْلِهِمْ. وَعَرَفُوهُمْ يُقَارِفُونَ المُحَرَّمَاتِ. وَاضْطَرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إلَی أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ، لاَيَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ عَلَی اللَهِ، وَلاَ عَلَی الوَسَائِطِ بَيْنَ الخَلْقِ وَبَيْنَ اللَهِ. فيا لهذه الجملة من تعبير: «وَاضْطَرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إلَی أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ»! وهذه أكبر حجّة وضعها الله في قلب الإنسان، بحيث يجد كلّ إنسان بباطنه ووجدانه وبمعرفته الباطنيّة وبنظره وإدراكه العميق الذي لا يوجد بينه وبين الله أدقّ منه وأصحّ، أنَّ فلاناً مثلاً يكذب، وفلاناً الآخر يصدق، ففي الوقت الذي يدرك الإنسان ذلك، فَلِمَ يتبع من هو ليسأهلاً للاتّباع؟ بناءً علی هذا، فلا ينبغي للإنسان أن يعتبر عوامّ اليهود أبرياء، ويقول: إنَّ هؤلاء عوامّ، والعامّي إنَّما يتبع عالمه، وينصاع لكلّ ما يقوله العالم، فما هو تقصيرهم في الامر؟ لا؛ فليس هذا الكلام صحيحاً. فتقصير العوامّ هو في اتّباعهم لهذا العالم، إذ صحيح أنَّ ذلك العالم تكلّم ووعظ ودرّس، ولكن عندما رأيته بإدراكك الباطنيّ والقلبيّ أنـّه يعمل بخلاف كتاب الله والسنّة، ويكذب بشكل صريح، ويتساهل في الاُمور، ويدعم الاشخاص الذين هم من أتباعه، فيمنحهم المال الكثير، ويحترمهم، بينما يضيّع حقوق الآخرين ولا يهتمّ بهم، ويدينهم في أحكامه، ويحطّ من وزنهم الاجتماعيّ، أو سمعته يكذب ويبرّر كذبه بحجّة مصالح معيّنة، ومع ذلك تراه يأكل الحرام، وظاهره يخالف باطنه. فإذا أدرك الإنسان هذا الامر في باطنه، فهل تبقي له حجّة إلهيّة للذهاب إلی ذلك العالم؟! فالذهاب إليه خطأ بَيِّنٌ. للّه حجّتان: حجّة ظاهرة: الانبياء والائمّة، وحجّة باطنة: العقلوهذه الحجّة الباطنيّة التي ذكرها الإمام موسي بن جعفر علیهما السلام في تلك الرواية المعروفة، من أنَّ للّه: حجّة باطنة وحجّة ظاهرة. فالحجّة الباطنة العقول، والحجّة الظاهرة الانبياء والائمّة [7]. وما لمتستعمل الحجّة الباطنة فإنَّ الحجّة الظاهرة لا تستعمل أيضاً. وما لم يعرف عقل الإنسان النبيّ باعتباره نبيّاً فإنَّه لا ينصاع إليه. فإنَّما تكون كلمات الحجّة الظاهرة ـ النبيّـ مؤثّرة في حال قبول عقل الإنسان، وارتضاء وجدانه. فجميع الحجج ترجع إذَن إلی العقل والإدراک. فإذا لم يكن للإنسان عقل وإدراك فلا يتمكّن من التمييز بين النبيّ الحقيقيّ ومدّعي النبوّة الكاذب، بين النبيّ والمتنبّي. فالجميع يدّعي النبوّة وكلّهم يخطبون ويأتون الناس بالكتب ويقيمون الاستدلالات ويتحدّثون بحماسٍ وانفعال ويوردون الخطب؛ فمن أين يفهم الإنسان أنَّ هذا صحيح وذاك باطل؟ إنَّما يكون ذلك بواسطة تلك الحجّة الباطنيّة والنظر القلبيّ الذي يتساوي فيها جميع الافراد، العالم والجاهل، العوامّ والعلماء. فجميع الناس متساوون في هذه الجهة، وقد وهبهم الله تعالي إدراكاً باطنيّاً وتفكيراً عميقاً يستطيعون بواسطته أن يزنوا جميع إدراكاتهم وعلومهم التي تعرض علی هم من الخارج، ويميّزون بهما بين الحقّ والباطل. فليس بإمكان جميع العوامّ ـالذين جذبهم علماء السوء إليهمـ أن يقولوا للّه سبحانه يوم القيامة بأنـّهم لم يكونوا يعلمون، وأنَّ عيونهم لمتكن مفتوحة، وأنـّهم كانوا أُمّيّين، وليس بإمكانهم تشخيص الكلام إن كان فارسيّاً أو عربيّاً أو أجنبيّاً، ولم يكونوا يعرفون أوّل الكتاب من آخره، وإنَّ هؤلاء قد أمسكوا بزمامهم وساروا بهم حيث يريدون. فعبارة الإمام: وَاضْطَرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إلَی أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ. قد وضعت خاتمة لذلك الغرور والفرح المزيّف. أي أنَّ الإدراک الباطنيّ والنظر القلبيّ الذي تنطوي علیهصدورهم ليسأمراً اختياريّاً، بل جبلّة طبعت علی الجميع، كما لو فتح الإنسان عينه فبمجرّد أن يفتحها فسوف يبصر ولا يتمكّن من أن يري ـوهو في تلك الحالـ حتّي وإن طلبت منه أن يري. وهذا من لطف ومحبّة وجلالة وعظمة الله تعالي بأن أعطي الإنسان قوّة أعلي من جميع العلوم ومن جميع الإدراكات، وعجنها في خلقة وجوده، فهي لا تنفصل عنه حتّي في منامه، ولاتفارقه في يقظته، فهو يسير بمعارف القلوب هذه. فعندما يري هؤلاء العوامّ أنَّ علماء اليهود يكذبون بشكل صريح، ويميلون مع أقربائهم، ويتعصّبون علی من لا يُبدي لهم الحُسني، ويضيّعون حقّه، ويحكمون علیهفي محاكماتهم، ويقطعون نصيبه وغير ذلك من الاعمال التي يقومون بها، فَلِمَ يتّبعونهم ويقلّدونهم؟ فأُولئك العوامّ ـوالحال هذهـ مُدانون، ولا حجّة لديهم عند الله تعالي. فَلِذَلِكَ ذَمَّهُمْ لِمَا قَلَّدُوا مَنْ قَدْ عَرَفُوهُ؛ وَمَنْ قَدْ عَلِمُوا أَنـَّهُ لاَيَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ وَلاَ تَصْدِيقُهُ فِي حِكَايَتِهِ، وَلاَ العَمَلُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِمْ عَمَّنْ لَمْيُشَاهِدُوهُ؛ ( لانَّ الإشكال واقع في الواسطة؛ والماء قد تلوَّث وتعفّن في ضمن الطريق ) وَوَجَبَ عَلَیهِ مُ النَّظَرُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَهِ صَلَّياللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ إذْ كَانَتْ دَلاَئِلُهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ تَخْفَي، وَأَشْهَرَ مِنْ أَنْ لاَتَظْهَرَ لَهُمْ. فعندما رأي العوامّ أنَّ علماءهم بهذا النحو، واضطرّوا بمعارف قلوبهم وبالحكم الوجدانيّ العقليّ أن يروا فسقهم والحكم بعدم قبول خبرهم وخيانتهم في أموالهم؛ فكان علی هم ـ والحال هذهـ أن يقصدوا هذا النبيّ ليروا ما الذي يقوله. فإذا ذهبوا إلی النبيّ ورأوا دلائله واضحة، وأدلّته وحججه بدرجة أعلي وأشدّ من مرتبة الإتقان وأوضح من أن تخفي، وأشهر من أن لاتظهر لهم، فعندئذٍ سوف يقبلون أمره. ولذا فهم يذهبون يوم القيامة إلی جهنّم، بعد أن يقال لهم: كان الطريق إلی رسول الله مهيّاً، والادلّة قد بُيّنت بوضوح من قبل رسولالله، فَلِمَ اتّبعتم أُولئك العلماء تَعَصُّباً لِلحَمِيَّةِ الْجاهِليَّةِ، وَلِلإدْراكاتِ الحَمْقانيَّة، وبقيتم بتلك الجهالة والبربريّة؟ هذا فيما يتعلّق باليهود. وَكَذَلِكَ عَوَامُّ أُمَّتِنَا إذَا عَرَفُوا مِنْ فُقَهَائِهِمُ الفِسْقَ الظَّاهِرَ، وَالعَصَبِيَّةَ الشَّدِيدَةَ، وَالتَّكَالُبَ عَلَی حُطَامِ الدُّنْيَا وَحَرَامِهَا، وَإهْلاَكَ مَنْ يَتَعَصَّبُونَ عَلَیهِ وَإنْ كَانَ لإصْلاَحِ أَمْرِهِ مُسْتَحِقّاً، وَبِالتَّرَفْرُفِ بِالبِرِّ وَالإحْسَانِ عَلَی مَنْ تَعَصَّبُوا لَهُ وَإنْ كَانَ لِلإذْلاَلِ والإهَانَةِ مُسْتَحِقّاً. وكذلك عوامّ أُمّتنا إذا رأوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والاستكبار، والاستبداد، والتشبّث بالرأي والاستبداد الفكريّ في أمر من الاُمور ممّا لايتلائم مع أساس الدين، ورأوا تكالبهم علی حطام الدنيا والحرام ( التكالب: تشبيه لحال الكلاب حين ترمي أنفسها علی جيفة، ويتسارع الجميع في محاولة أخذها، وينتهي ذلك بالتنازع علی تلك الجيفة ) ورأوا أنَّ هؤلاء الفسقة يتنازعون علی حطام الدنيا، فهذا لاجل الرئاسة، وذاك لهدف آخر، وخلاصة الامر: يظهرون تعصّبهم وتكالبهم بصور مختلفة، وإذا علموا من فقهائهم أنـّهم يسحقون كلّ مَن لا ينسجم معهم في نهجه ويقضون علی من كانت علاقته بهم سيّئة في جميع شؤونه وإن كان يستحقّ أن يصلحوا أمره برعايته والحفاظ علیهمن كلّ الجهات، لكنّهم لايعملون بالبرّ والإحسان إلاّ بمن ارتبط بهم وأيّدهم، فيوفّرون لهم كلّ ما يريدون بشكل متواصل وإن كانوا ممّن لا يستحقّ ذلك، أي ممّن وجب علی هم الطرد والإبعاد والمحاسبة! فَمَنْ قَلَّدَ مِنْ عَوَامِّنَا مِثلْ هَؤُلاَءِ الفُقَهَاءِ، فَهُمْ مِثْلُ اليَهُودِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُاللَهُ بِالتَّقْلِيدِ لِفَسَقَةِ فُقَهَائِهِمْ. بحث في مفاد: فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ: صَائِناً لِنَفْسِهِ...فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ: صَائِناً لِنَفْسِهِ ( مَن قيّد نفسه وعصمها وصانها، ومنعها من أن تتجرّأ علی كسر ذلك القيد، أو الخروج من حدود تلك الحصانة )، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَی هَوَاهُ، مُطِعياً لاِمْرِ مَوْلاَهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ. وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إلاَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لاَجَمِيعَهُمْ. فَإنَّهُ مَنْ رَكِبَ مِنَ القَبَائِحِ وَالفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَهِ العَامَّةِ فَلاَتَقْبَلُوا مِنَّا عَنْهُ شَيْئاً وَلاَ كَرَامَةَ. وَإنَّمَا كَثُرَ التَّخْلِيطُ فِيمَا يُتَحَمَّلُ عَنَّا أَهْلَ البَيْتِ لِذَلِكَ. مَن يتلاعب في كلام الائمّة لاغراض مختلفةمن المؤسف جدّاً والمؤثّر أنَّ غالبيّة ما يأخذه هؤلاء الفقهاء، منّا أهل البيت يخلطونه ويمزجونه بمطالب باطلة، وينشرونه بين الناس ويعلّمونه لهم، فهم يسمعون الحقّ منّا، ويدرسون في مدرستنا، ويصبحون علماء، لكنّهم يظهرون للناس شيئاً آخر، ويتوهّم الناس أنَّ ذلك قولنا. فيضيع أُولئك الناس ـ لانـّهم اضطرّوا بمعارف قلوبهم ألاّ يقبلوا شيئاً من هؤلاء الفقهاء الفسقة، لكنّهم قبلوا منهمـ ويضيع أُولئك الفقاء الفسقة أيضاً، لانـّهم يأتون إلينا ويدرسون عندنا، ويأخذون منّا الحديث والروايات والعلم، ثمّ يذهبون فيضيفون أشياء من عند أنفسهم، ويقومون بالتحريف والتصحيف والزيادة والنقصان، ممّا يؤدّي إلی تضييع قلوبهم، وإسقاط اعتبارنا عند الناس. ما هو ذنبنا؟ فنحن أئمّة الناس، وكانت جميع ساعات ودقائق عمرنا تمضي بالنحو الاتمّ والاكمل، وليس في كلامنا خلاف الحقّ وإن تكلّمنا في حال النوم، فلماذا يأتي هؤلاء لاخذ المسائل منّا ثمّ يضيفون إليها شيئاً من عند أنفسهم، ويقولون: قالَ الصادق؟! إنَّهم بأعمالهم هذه إنَّما يضيّعوننا عند العدوّ والصديق. أمَّا شيعتنا من أهل التسليم، فعندما يسمعون هذه المطالب يقولون بألم: ليس من حيلة، وعلينا تقليد الصادق علیه السلام واتّباعه، بينما يُسرّ العدوّ عندما يري ترشّح هذه المطالب بواسطة فقهاء من طلاّب الائمّة علیهم السلام، علی الرغم من كون الائمّة معصومين ومنزّهين ومطهّرين ولايصدر منهم شيء مخالف للحقّ، ولذا ظهر في كلام الإمام علیه السلام التأثّر الشديد بقوله: وَإنَّمَا كَثُرَ التَّخْلِيطُ فِيمَا يُتَحَمَّلُ عَنَّا أَهلَ البَيْتِ لِذَلِكَ. وعليه، فالعلماء الذين يأخذون عن الائمّة علیهم السلام ليوصلوا ذلك إلی الناس بصفتهم من علماء الشيعة، علی ثلاث طوائف. لاِنَّ الفَسَقَةَ يَتَحَمَّلُونَ عَنَّا فَيُحَرِّفُونَهُ بِأَسْرِهِ بِجَهْلِهِمْ وَيَضَعُونَ الاَشْيَاءَ عَلَی غَيْرِ وَجْهِهَا، لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ. فبعض هؤلاء العلماء: الفسقة، الذين كان فسقهم بسبب كذبهم وتغييرهم وتحريفهم، فإنَّهم لم يكونوا معاندين وسيّئي السريرة، لكنّهم جاهلون من خلال تحريفهم كلامنا، وبثّ ذلك بين الناس، فبسبب قلّة معرفتهم يضعون الاشياء في غير موضعها. فهم طائفة من أُولئك الفسّاق الذين سدّوا طريق العوامّ إلی الله بسبب تحريفهم وكذبهم. وَآخَرُونَ يَتَعَمَّدُونَ الكِذْبَ عَلَی نَا لِيَجُرُّوا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا مَا هُوَ زَادُهُمْ إلَی نَارِ جَهَنَّمَ. والطائفة الاُخري من أُولئك العلماء الفسقة: هم ممّن يكذبون علی الائمّة علیهم السلام عمداً، لا لجهل ونقص وقلّة معرفة، بل يكذبون عن قصد وتعمّد ليتوصّلوا إلی متاع الدنيا بهذا الكذب، ويحملون معهم زادهم إلی نار جهنّم. فهم يرون مثلاً أنَّ الجهاز الحاكم يرضي باجتراء الكذب الفلانيّ علی نا، فيسارعون إلی اختلاق خبر فينسبوه إلينا طمعاً في عَرَض الدنيا من رئاسة، أو نيل مقام، أو الوصول إلی مركز أو منصب في جهاز الخلافة. وَمِنْهُمْ قَوْمٌ (نُصَّابٌ) لاَ يَقْدِرُونَ عَلَی القَدْحِ فِينَا، يَتَعَلَّمُونَ بَعْضَ عُلُومِنَا الصَّحِيحَةِ فَيَتَوَجَّهُونَ بِهِ عِنْدَ شِيعَتِنَا؛ وَيَنْتَقِصُونُ بِنَا عِنْدَ نُصَّابِنَا، ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَيْهِ أَضْعَافَ وَأَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنَ الاَكَاذِيبِ عَلَی نا الَّتِي نَحْنُ بُرَاءُ مِنْهَا، فَيَتَقَبَّلُهُ المُسْتَسْلِمُونَ مِنْ شِيعَتِنَا، عَلَی أَنـَّهُ مِنْ عُلُومِنَا. فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. والطائفة الثالثة: جماعة من هؤلاء العلماء الفسقة، ممّن هم أعداؤنا ( إنَّهم حقّاً أعداء قد ظهروا بصورة الشيعة، فهم علماء، ورواة أحاديث ولكنّهم في الواقع أعداؤنا، ولا يرتبطون بنا باطنيّاً، ولا يرتضون نهجنا وطريقتنا ) وهم أُناس لا يقدرون أن يقدحوا في عملنا، أو يقعوا علی عيب فينا ليبيّنوه للناس، لذا فهم يأتون إلينا ويتعلّمون بعض علومنا الصحيحة هذه، ثمّ يتوجّهون إلی شيعتنا ـبسبب تتلمذهم وتعلّمهم عندنا أهل البيتـ فيصبحون من ذوي الاعتبار والوجاهة والمقام والمنزلة، فيستغلّون هذا الموقع في الانتقاص من منزلتنا وإسقاطهما عند النصّاب ( لانَّ أعداءنا سيقولون: هذا تلميذ الصادق علیه السلام فهو يكشف عن حقيقة الصادق أيضاً، فإن كان التلميذ بهذا النحو، يعلم أنَّ العيب في تلك المدرسة التي درس فيها ). وعندها يضيفون إلی بعض علومنا، أَضْعَافَ وَأَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنَ الاَكَاذِيبِ؛ التي نتنفّر منها ( فلا نحن ولا أحاسيسنا، ولا عقولنا، تجد طريقاً إلی تلك الاكاذيب ). ويعطون الناس ذلك بعنوان « قال الصادق » وعندها، يتقبّل بعض المستضعفين ـ من شيعتناـ ممّن هم من أهل التسليم والإطاعة والسلامة، فيأخذونها علی أنـّها من علومنا! فبالإضافة إلی ضلال هذه الطائفة من العلماء فهم مضلّون لجماعة من الشيعة. وَهُمْ أَضَرُّ عَلَی ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ عَلَی الحُسَيْنِبْنِ علی ٍّ عَلَیهِ السَّلاَمُ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ يَسْلُبُونَهُمُ الاَرْوَاحَ وَالاَمْوَالَ. وَهَؤُلاَءِ عُلَمَاءُ السُّوءِ، النَّاصِبُونَ، الْمُتَشَبِّهُونَ بِأَنَّهُمْ لَنَا مُوَالُونَ، وَلاِعْدَائِنَا مُعَادُونَ، وَيُدْخِلُونَ الشَّكَّ وَالشُّبْهَةَ عَلَی ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا، فَيُضِلُّونَهُمْ وَيَمْنَعُونَهُمْ عَنْ قَصْدِ الحَقِّ المُصِيبِ. لاَ جَرَمَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَهُ مِنْ قَلْبِهِ مِنْ هَؤُلاَءِ القَوْمِ أَنـَّهُ لاَ يُرِيدُ إلاَّ صِيَانَةَ دِينِهِ وَتَعْظِيمَ وَلِيِّهِ، لَمْ يَتْرُكْهُ فِي يَدِ هَذَا المُتَلَبِّسِ الكَافِرِ، وَلَكِنَّهُ يُقَيِّضُ لَهُ مُؤْمِناً يَقِفُ بِهِ عَلَی الصَّوَابِ، ثُمَّ يُوَفِّقُهُ اللَهُ لِلْقَبُولِ مِنْهُ، فَيَجْمَعُ اللَهُ لَهُ بِذَلِكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ وَيَجْمَعُ عَلَی مَنْ أَضَلَّهُ لَعْناً فِي الدُّنْيَا وَعَذَابَ الآخِرَةِ. فبما أنَّ الله متّصف باللطف والرحمة، ويعلم أنَّ بعض ضعفاء شيعتنا لايجدون طريقاً لإدراك الواقع، وقد ابتلوا بالوقوع بأيدي علماء كهؤلاء، فلاجرم إذا كانوا في داخل قلوبهم يهدفون نحو الواقع، ويرون أنفسهم عاجزين، فإنَّ الله تعالي سيهيّي أحد رجال الحقّ لهدايتهم كي يخرجهم من قبضة أُولئك العلماء الفسقة، ويدلّهم علی طريق الحقّ المصيب. وبناءً علی هذا، فالله تعالي لا يترك أُولئك ـالطالبين للحقّ والهادفين لحفظ دينهم وتعظيم أوليائهمـ بأيدي ذلك المتلبّس الكافر، الذي هو من أهل التدليس والتلبيس والخداع فحسب، بل ويستنقذهم ويهيّي لهم مؤمناً يهديهم إلی طريق الصواب، كما ويوفّقهم لقبول قول ذلك الوليّ الحقّ. وعليه، فإنَّ الله تعالي يجمع لهؤلاء الشيعة خير الدنيا والآخرة ( أمّا خير الدنيا فلانـّه قد دلّهم علی الطريق لكي ينجوا من قبضة العدوّ المتظاهر والمتجاوز، والمتلبّس والكافر. وأمّا خير الآخرة فلانـّهم قد وصلوا إلی حقيقة الولاية وتحرّكوا بهذا المنهج الصحيح نحو الفوز والرضوان في دار الآخرة ). ويجمع الله تعالي لذلك المضلّ لهؤلاء الشيعة لعنة الدنيا وعذاب الآخرة. ففي الدنيا قد لعنهم في قرآنه المجيد، وستكون عاقبة عمله عذاباً ينتظره في الآخرة، لانـّه قد سدّ علی مؤمنٍ الطريق إلی الله، لقد أراد هذا المؤمن السير إلی الله، ولم تصل يده إلی وليّ الله وإلي الهادي الحقيقيّ فبقي متحيّراً إلی أن يوكل نفسه إلی الله ليعالج أمره، لكنَّ هذا العالِم الفاسق أتاه وسدّ علیهالطريق من خلال إلقاء الشكّ والشبهة والإخبار بخلاف الواقع فابتلي قلبه بالتريد والتزلزل. فيستحقّ ذلك العالم اللعن وعذاب الآخرة. إلی هنا ينتهي كلام الإمام الصادق علیه السلام. ومن ثمّ يستشهد علی كلامه بشاهدين: الاوّل بكلام رسول الله صلّي الله علیهوآله وسلّم، والآخر بكلام أميرالمؤمنين علیه السلام. ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ: «أَشْرَارُ عُلَمَاءِ أُمَّتِنَا: المُضِلُّونَ عَنَّا، القَاطِعُونَ لِلطُّرُقِ إلَيْنَا، المُسَمُّونَ أَضْدَادَنَا بِأَسْمَائِنَا ( يعطونهم عناوين الخليفة وأمير المؤمنين والحاكم ووليّ الامر وعنوان الإمام المتسلّط )، المُلَقِّبُونَ أَنْدَادَنَا بِأَلْقَابِنَا، يُصَلُّونَ عَلَیهِ مْ وَهُمْ لِلَّعْنِ مُسْتَحِقُّونَ؛ وَيَلْعَنُونَنَا وَنَحْنُ بِكَرَامَاتِ اللَهِ مَغْمُورُونَ وَبِصَلَوَاتِ اللَهِ وَصَلَوَاتِ مَلاَئِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ عَلَی نَا عَنْ صَلَوَاتِهِمْ عَلَی نَا مُسْتَغْنُونَ». ثُمَّ قَالَ: قِيلَ لاِمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَّلاَمُ: مَنْ خَيْرُ خَلْقِ اللَهِ بَعْدَ أَئِمَّةِ الهُدَي وَمَصَابِيِحِ الدُّجَي؟ قَالَ: «العُلَمَاءُ إذَا صَلُحُوا». قِيلَ: فَمَنْ شِرَارُ خَلْقِ اللَهِ بَعْدَ إبْلِيسَ وَفِرْعَونَ وَنَمْرُودَ، وَبَعْدَ المُتَسَمِّينَ بِأَسْمَائِكُمْ، وَالمُتَلَقِّبِينَ بِأَلْقَابِكُمْ، وَالآخِذِينَ لاِمْكِنَتِكُمْ، وَالمُتَأَمِّرِينَ فِي مَمَالِكِكُمْ؟! قَالَ: العُلَمَاءُ إذَا فَسَدُوا. هُمُ المُظْهِرُونَ لِلاَبَاطِيلِ، الكَاتِمُونَ لِلْحَقَائِقِ؛ وَفِيهِمْ قَالَ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ: أُولَ'´ءِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَـ'عِنُونَ ـ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا ] وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَ'´ءِكَ أَتُوبُ عَلَیهِ مْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [.[8] و[9] ينقل شيخ الفقهاء الشيخ مرتضي الانصاريّ رحمة الله علیهشيئاً من هذه الرواية الشريفة، ويعترف أنَّ هذا الخبر الشريف ـالذي تظهر منه آثار الصدقـ يدلّ علی قبول قوله من عُرِفَ بِالتَّحَرُّزِ عَنِ الكِذْبِ؛ وإنْ كانَ ظاهِرُهُ اعْتِبارَ العِدالَةِ بَلْ ما فَوْقَها. أي أنَّ هذا الخبر الذي تظهر منه آثار الصدق ( فقد بيّنا أنـّه من « التفسير المنسوب للإمام العسكريّ علیه السلام »، وهناك كلام كثير حول صحّة وسقم الروايات الواردة فيه. لكنَّ آثار الصدق في هذا الخبر بالخصوص مشهودة، مع ما فيه من المضامين العالية والمعاني الراقية. ) يدلّ علی وجوب قبول الإنسان قولَ من يتحرّز عن الكذب، وإن كان ظاهره اعتبار العدالة، بل ما فوق العدالة. فيجب علی الفقهاء أن تكون لديهم ملكة فوق العدالة، لانـّهم مراجع تقليد للناس وزمام أُمورهم بأيديهم. النتيجة المستفادة من الرواية، ملكة ما فوق العدالةقال سيّد الفقهاء الكرام السيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ، في « العُروَة الوُثقَي » في المسألة الثانية والعشرين من أحكام التقليد، بعد أن اختار لزوم العدالة للمفتي، اسْتِناداً إلَی هَذِهِ الرِّوايَةِ الشَّريفَه: وَأنْ لاَيَكُونَ مُقْبِلاً عَلَی الدُّنْيا وَطالِباً لَها، مُكِبَّاً عَلَیها، مُجِدَّاً في تَحْصيلِها. واعترض الفقيه النبيل المعاصر السيّد أبو الحسن الإصفهانيّ رحمةالله علیه، في حاشية « العروة » علی كلام المرحوم السيّد بـ: أنَّ الإقْبالَ عَلَی الدُّنْيا وَطَلَبِها إنْ كانَ عَلَی الوَجْهِ المُحَرَّمِ فَهُوَ يوجِبُ الفِسْقَ النَّافيَ لِلْعَدالَةِ؛ فَيُغْني عَنْهُ اعْتِبَارُها؛ وَإلاَّ فَلَيْسَ بِنَفْسِهِ مانِعاً مِنْ جَوازِ التَّقْليدِ؛ وَالصِّفاتُ المَذْكُورَةُ في الخَبَرِ لَيْسَتْ إلاَّ عِبارَةً أُخْرَي عَنْ صِفَةِ العَدالَةِـ انتهَي كَلامُه. وأيّد هذا الرأي جمع آخر من الآيات العظام تبعاً لنظريّة آيةالله السيّد أبو الحسن الإصفهانيّ واكتفوا بالعدالة. وهكذا كان نظر آيةالله الحاجّ السيّد حسين البروجرديّ أيضاً، من أنَّ هذا الخبر يريد إفادة نفس العدالة. لكنَّ المطلب أعلي من العدالة، وحقّه ما قاله المرحوم السيّد محمّد كاظم من أنَّ هذا الخبر يريد إفادة أمر أعلي من العدالة. وسوف يأتي شرح وتوضيح ذلك بِحَوْلِ اللَهِ وَقُوَّتِهِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِيِّ العَظيمِ. اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد ارجاعات [1] ـ قسم من الآية 43، من السورة 4: النساء. [2] ـ الآيتان 78 و 79، من السورة 2: البقرة. [3] ـ الآية 78، من السورة 2: البقرة؛ وبقيّة الآية هو: وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ. [4] لم يذكر في «الاحتجاج» ذيل الآية: مِنْ عِنْدِ اللَهِ تَعَالَي... إلي آخره. [5] ـ ـ الآية 79، من السورة 2: البقرة. [6] ـ «الاحتجاج» للطبرسيّ، ج 2، ص 262 إلي 265، طبعة النجف الاشرف. [7] ـيَا هِشَامُ! إنَّ لَلَّهِ عَلَي النَّاسِ حُجَّتَينِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً؛ فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالاَنْبِيَاءُ وَالاَئِمَّةُ ] عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ [، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ. وهذه رواية طويلة مرويّة عن الاءمام الكاظم عليه السلام، وجميع فقراتها تبدأ بخطاب: «يا هشام!». أوردها الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج 1، ص 13 إلي 19؛ والمحقّق القاسانيّ في «الوافي» الطبعة الحروفيّة، ج 1، ص 86 إلي 93. وقد أوردنا معظم الحديث في الجزء الثاني من «نور ملكوت القرآن» من دورة أنوار الملكوت. [8] ـ الآيتان 159 و 160 من السورة 2: البقرة. [9] ـ «الاحتجاج» للشيخ الطبرسي، ج 2، ص 263 إلي 265؛ و في «الاحتجاج» بعد «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا» كلمة: الآية.
|
|
|