بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب ولاية الفقيه/ المجلد الثالث/ القسم السابع: شرائط الولی الفقیه، اخذ حق الضعیف من القوی، انتخاب الاکثریة لیس طریقا لتعی...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

إنّما توكل‌ الحكومة‌ الإسلاميّة‌ إلی أعلم‌ وأورع‌ وأبصر وأعقل‌ الناس‌

 وللدين‌ بُعدان‌: ظاهر وباطن‌، دنيا وآخرة‌. ولا يمكن‌ للعالم‌ الذي‌ يكون‌ في‌ هذا الجانب‌ ولا يكون‌ في‌ ذلك‌ الجانب‌ أن‌ يسير بالناس‌ في‌ ذلك‌ المنهاج‌. وهو عبارة‌ عن‌ أعلم‌ الاُمّة‌ الذي‌ يكون‌ الاعلم‌ والافقه‌ بكتاب‌ الله‌ وسنّة‌ نبيّه‌، والاورع‌ والابصر، وأوثق‌ الناس‌ وأشجعهم‌ وأكثرهم‌ خبرة‌، والذي‌ يكون‌ عقله‌ ودرايته‌ وسعة‌ صدره‌ بدرجات‌ أكبر من‌ جميع‌ الناس‌. وهذا أمر وجداني‌.

 وهنا نحتكم‌ إلی العقلاء من‌ الناس‌ أصحاب‌ الوجدان‌ الحي‌ّ أنـّه‌ هل‌ يمكنهم‌ تدوين‌ برنامج‌ لسعادة‌ الناس‌ أفضل‌ من‌ هذا؟ فهذا هو معني‌ ولاية‌ الفقيه‌.

 من‌ الواضح‌ جدّاً أنَّ ذلك‌ الشخص‌ الذي‌ يصدر منه‌ الامر والنهي‌ في‌ المجتمع‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ شخصاً طاهراً، وذا دراية‌ وتفكير بالعواقب‌، وعليماً وخبيراً بأُمور الزمان‌، ويسير بالناس‌ في‌ طريق‌ السعادة‌. فهذا هو معني‌ ولاية‌ الفقيه‌ الذي‌ هو رئيس‌ لجميع‌ المذاهب‌ والملل‌ والسنن‌.

 يعتبر الإسلام وجوب‌ كون‌ الرئيس‌ بهذه‌ المواصفات‌، ولو فكرتم‌ حتّي‌ قيام‌ الساعة‌ فلن‌ تستطيعوا أن‌ تجدوا رئيساً أفضل‌ من‌ هذا. وإن‌ وجدتم‌ فلااعتراض‌ لنا، فإنَّا نختاره‌ وندع‌ ولاية‌ الفقيه‌ جانباً. وقد شاهدوا أخيراً وشاهدنا كيف‌ يجذب‌ رئيس‌ الجمهوريّة‌ الناس‌ في‌ الحكومات‌ الجمهوريّة‌ إلی أي‌ّ جهة‌ كانت‌، وكيف‌ يفرض‌ ذلك‌ الشخص‌ الديكتاتور والمستبدّ في‌ الملكيّة‌ الدستوريّة‌ في‌ الحكومات‌ الاستبداديّة‌ كلّ رأي‌ له‌ ليكون‌ الحكم‌ النهائي‌ّ علی ضوء ما يريد. وفي‌ الإسلام فأطهر وأطيّب‌ منهج‌ لهداية‌ الناس‌ هو طريق‌ ولاية‌ الفقيه‌، إذ عندما يكون‌ المجتمع‌ تحت‌ ولاية‌ فقيه‌ كهذا فسوف‌ يسوقهم‌ وفق‌ أفكاره‌ وآرائه‌، أي‌ بالعلم‌، وسوف‌ يجعل‌ جميع‌ الناس‌ علماء طاهرين‌، ومن‌ أهل‌ البصيرة‌ والخبرة‌، فيتمتّع‌ جميع‌ أفراد المجتمع‌ باستعداداتهم‌ وقواهم‌، ويوصلها إلی الفعليّة‌، ويوصل‌ كلّ شخص‌ إلی كماله‌ الإنساني‌ّ من‌ خلال‌ كماله‌.

 أمّا إذا تنازلنا عن‌ تلك‌ المرحلة‌، ووضعنا ولاية‌ الاُمور بِيَدِ شخص‌ ناقص‌، فإنَّه‌ لا يستطيع‌ سوق‌ الناس‌ نحو الكمال‌، إذ هو لا يفهم‌ الكمال‌ فكيف‌ يقود الناس‌؟! وذاك‌ كأن‌ يأتوا بشخص‌ ليدرّس‌ الدروس‌ العليا في‌ الحِكمة‌ مع‌ كونه‌ لا يعرف‌ منها شيئاً، أو درس‌ مقداراً قليلاً منها! أو يطلبون‌ من‌ شخص‌ لا يعرف‌ الفقه‌ أن‌ يقوم‌ بتدريسه‌!

 الولي‌ّ الفقيه‌ الذي‌ يعيّنه‌ الإسلام، يعني‌ أكمل‌ الافراد الذي‌ وصل‌ إلی مقام‌ الإنسانيّة‌ الكامل‌، والذي‌ قد طوي‌ الاسفار الاربعة‌ للعرفاء واتّصل‌ بعالم‌ الوحدة‌ بعد التجاوز عن‌ عالم‌ الكثرة‌ وصار يتحرّك‌ في‌ كلّ أمر مَعَ اللَه‌ وفِي‌ اللَه‌ وبِاللَه‌، ويمتلك‌ البقاء بعد الفناء؛ لانَّ الروح‌ التكوينيّة‌ والتشريعيّة‌ للناس‌ ستكون‌ بيده‌. فهل‌ تعلمون‌ ما الذي‌ سيحصل‌ لو سار بالاُمور وفق‌ إرادته‌؟ فنحن‌ لن‌ نحتاج‌ للذهاب‌ إلی الجنّة‌، إذ إنَّه‌ يستخدم‌ الجنّة‌ ويأتي‌ بها إلی هنا، ويجعل‌ الإنسان يعيش‌ فيها. وما بذل‌ للإنسان‌ في‌ مقابل‌ هذه‌ الدنيا كلّه‌ من‌ آثار ومظاهر وتجلّيات‌ هذه‌ الجنّة‌ الدنيويّة‌، وهذا هو معني‌ ولاية‌ الفقيه‌.

 الرجوع الي الفهرس

لا يمكن‌ لاي‌ّ مجتمع‌ الصمود من‌ أجل‌ البقاء من‌ دون‌ حكومة‌

 عندما يكون‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر علیهما السلام‌ في‌ السجن‌، أو الإمام‌ صاحب‌ الزمان‌ في‌ الغيبة‌، فما الذي‌ يفعله‌ الناس‌؟ علی هم‌ أن‌ يبذلوا الجهود لإخراج‌ الإمام‌ من‌ غيبته‌، وإلاّ سوف‌ يكونون‌ مسؤولين‌. لماذا يسمحون‌ بسجن‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر علیهما السلام‌؟ عندما يكون‌ الإمام‌ في‌ السجن‌ لا حقّ للناس‌ في‌ الجلوس‌ في‌ بيوتهم‌ قائلين‌ بما أنَّ الإمام‌ موسي‌بن‌ جعفر علیهما السلام‌ في‌ السجن‌ فلا مسؤوليّة‌ علی نا. كلاّ؛ فجميع‌ الناس‌ مكلّفون‌ في‌ جميع‌ مراحل‌ الغيبة‌ وأدوارها، وفي‌ فترة‌ عدم‌تمكّن‌ الإمام‌ المعصوم‌ علیه السلام‌ بتهيئة‌ الارضيّة‌ والإمكانيّات‌ للظهور. فإذا تهيّأت‌ الإمكانيّات‌ فإنَّ الإمام‌ سيظهر.

 وإذا لم‌ يتمكّن‌ الناس‌ من‌ ذلك‌، أو افتقروا إلی بعض‌ المقدّمات‌ لسبب‌ من‌ الاسباب‌، فهل‌ علی هم‌ أن‌ يتركوا أُمورهم‌ ويبقوا من‌ دون‌ رئيس‌؟ كلاّ؛ فلايمكن‌ أن‌ يكون‌ المجتمع‌ من‌ غير رئيس‌، فلابدّ من‌ متصدٍّ لاُمور المجتمع‌ بالضرورة‌.

 وهنا ينتهي‌ بنا الكلام‌ إلی ولاية‌ الفقيه‌ الاعلم‌، فيجب‌ أن‌ تكون‌ الولاية‌ بيد ذلك‌ الشخص‌ الذي‌ لم‌ يصل‌ إلی مقام‌ العصمة‌ لكنّه‌ فقيه‌ وأعلم‌ ومجتهد جامع‌ للشرائط‌ وقد تمّت‌ فيه‌ الشرائط‌ من‌ جميع‌ الجهات‌ الاُخري‌، وإذا لم‌ يكن‌ ثمّة‌ شخص‌ بهذه‌ المواصفات‌ فلا يجوز أن‌ تبقي‌ أُمور الناس‌ متوقّفة‌ أيضاً. فيجب‌ أن‌ يتولّي‌ أُمور الناس‌ الفقيه‌ غير الاعلم‌، وأن‌ يكون‌ جامعاً لصفاتهم‌ وكمالاتهم‌.وإذا لم‌ يوجد فقيه‌ أيضاً فيصل‌ الدور عندها إلی عدول‌ المؤمنين‌، لانـّه‌ عندما قلنا إنَّ المجتمع‌ لا يمكن‌ أن‌ يكون‌ من‌ دون‌ رئيس‌ وقيّم‌، ولم‌ يكن‌ لدينا فقيه‌ بهذه‌ المواصفات‌، فإنَّ عدول‌ المؤمنين‌ يقومون‌ مكانه‌، وإذا لم‌ يكن‌ ثمّة‌ عدول‌ من‌ المؤمنين‌ فيصل‌ الدور إلی فسّاق‌ المؤمنين‌، فليحكم‌ فسّاق‌ المؤمنين‌ أيضاً علی الناس‌، فحكومتهم‌ أفضل‌ من‌ عدم‌ الولاية‌ ومن‌ عدم‌ وجود رئيس‌ المؤدّي‌ بجميع‌ أبناء البلاد إلی الهلاك‌ والعدم‌.

 فذلك‌ بالضبط‌ مثل‌ حالة‌ طفل‌ يتيم‌ توفّي‌ أبوه‌ وترك‌ أموالاً، فعندها يكون‌ الإمام‌ المعصوم‌ وليّاً لذلك‌ الطفل‌، إذ السُّلْطَانُ وَلِي‌ُّ مَنْ لاَ وَلِي‌َّ لَهُ. والمقصود من‌ السلطان‌ قوّة‌ السلطنة‌، أي‌ السلطة‌ التي‌ تمتلك‌ العصمة‌، وهو الإمام‌ المعصوم‌، وإذا لم‌ يكن‌ موجوداً فالفقيه‌ الاعلم‌، فإن‌ لم‌ يوجد فالعالم‌، وإلاّ فيتولّي‌ الامر عدول‌ المؤمنين‌، فيجب‌ أن‌ يتولّي‌ زيد ـ مثلاً، الذي‌ يمتلك‌ مقام‌ العدالة‌ والطهارة‌ـ الاُمور ويصرف‌ أموال‌ الطفل‌ في‌ مصالحه‌، وإذا لم‌يكن‌ موجوداً فيقوم‌ مقامه‌ الفاسق‌ المؤمن‌ ويحفظ‌ أموال‌ ذلك‌ الطفل‌، وذلك‌ لانـّه‌ إذا صدر من‌ الفاسق‌ فسق‌ فهذا أمر يتّصل‌ به‌ وهو لايأكل‌ مال‌ الطفل‌، وإذا كان‌ يرتكب‌ بعض‌ التصرّفات‌ غير اللائقة‌ فهذا ممّا لاعلاقة‌ له‌ بالطفل‌؛ وإذا كانت‌ الخيانة‌ تراوده‌ أحياناً، فهو أفضل‌ من‌ أن‌ يبقي‌ الطفل‌ من‌ دون‌ قيّم‌ ويواجه‌ أنواع‌ الابتلاءات‌ ويقضي‌ علیهبسبب‌ عدم‌الاهتمام‌ بأمر تكفّله‌.

 وهذه‌ النكتة‌ تبيّن‌ جامعيّة‌ وكمال‌ دين‌ الإسلام ومدي‌ اهتمامه‌ بالامر ملاحظته‌ له‌، حيث‌ فرض‌ وجود رئيس‌ وقيّم‌ للمجتمع‌ بأي‌ّ نحو كان‌: الاَهَمُّ فَالاَهَمُّ وَالاَكْمَلُ فَالاَكْمَل‌، كي‌ لا يُحرم‌ المجتمع‌ أي‌ّ وقت‌ من‌ الاوقات‌ من‌ الرئيس‌ والقيّم‌.

 لقد كان‌ الخوارج‌ في‌ زمن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ كمثل‌ فرقة‌ الفوضويّة‌ والعدميّة‌ ( النهليسيّة‌ ) في‌ زماننا، حيث‌ تسعي‌ الاُولي‌ إلی الفوضي‌ والاضطراب‌، والثانية‌ تنكر جميع‌ الاُمور.

 كانت‌ هذه‌ نيّة‌ الخوارج‌ وهدفهم‌ أيضاً. وهاتان‌ المجموعتان‌ تعارضان‌ تشكيل‌ أي‌ّ دولة‌، وتسعيان‌ بكلّ قواهما إلی ذلك‌. والخوارج‌ أيضاً كانوا معارضين‌ لتشكيل‌ حكومة‌ أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ ومعاوية‌ معاً، وكانوا يطالبون‌ تشكيل‌ حكومة‌ تحت‌ شعار لاَ حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ؛ وقد كشف‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ الحقيقة‌ في‌ خطبته‌ المختصرة‌.

 الرجوع الي الفهرس

لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَو فَاجِرٍ

 ينقل‌ السيّد الرضي‌ّ رحمة‌ الله‌ علیهفي‌ « نهج‌ البلاغة‌ » الخطبة‌ الاربعون‌، أنـّه‌: لَمّا سَمِعَ ] الإمام‌ [ قَوْلَهُمْ: لاَ حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ ( حكمك‌ باطل‌، حكم‌ الحكمين‌ باطل‌ ) قالَ علیهما السَّلامُ:

 كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ. نَعَمْ إنَّهُ لاَ حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ، وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إمْرَةَ إلاَّ لِلَّهِ وَإنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي‌ إمْرَتِهِ المُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللَهُ فِيهَا الاَجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الفَي‌ءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ العَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ القَوِي‌ِّ، حَتَّي‌ يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ.

 وَفي‌ رِوايَةٍ أُخْرَي‌: أنـَّهُ علیهما السَّلامُ لَمّا سَمِعَ تَحْكيمَهُمْ قالَ:

 حُكْمَ اللَهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ (وَ قَالَ): أَمَّا الإمْرَةُ البَّرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا التَّقِي‌ُّ، وَأَمَّا الإمْرَةُ الفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِي‌ُّ إلَی أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَتُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ [1].

 هذا هو الكلام‌ الذي‌ قاله‌ الإمام‌ علیه السلام‌ في‌ معرض‌ جوابه‌ لكلام‌ الخوارج‌ «لاَ حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ».

 ويقول‌ ابن‌ أبي‌ الحديد هنا: إنَّ مشاهد هذا المطلب‌ هو قول‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌: إنَّ اللَهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ. أي‌ أنَّ إتقان‌ وإحكام‌ هذا الدين‌ قد وصل‌ إلی درجة‌ لو أتي‌ بعض‌ الفجّار أيضاً فتسلّم‌ زمام‌ الاُمور ليستمرّ هذا الدين‌ رغم‌ ذلك‌ في‌ سيره‌ بأصالته‌ ويؤيّد به‌.

 ثمّ يقول‌ ابن‌ أبي‌ الحديد: إنَّ أصحابنا ( المعتزلة‌ ) يقولون‌: إنَّ تعيين‌ الرئيس‌ واجب‌ علی المكلّفين‌، بينما تقول‌ الإماميّة‌: إنَّه‌ يجب‌ علی الله‌ أن‌ يختار رئيساً للناس‌ من‌ باب‌ اللطف‌. وظاهر كلام‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌: لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، هو قول‌ أصحابنا لاقول‌ الإماميّة‌ [2].

 لقد وقع‌ ابن‌ أبي‌ الحديد في‌ اشتباه‌، فكلام‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ هنا لا يدلّ علی أنَّ الإنسان يستطيع‌ أن‌ يضع‌ للناس‌ أميراً باختياره‌، سواء كان‌ برّاً أم‌ فاجراً، لانَّ الله‌ لا يرضي‌ برئاسة‌ وإمارة‌ الفاجر قطعاً (وقد قاتل‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ معاوية‌ علی هذا الاساس‌ )، وإنَّما يريد الإمام‌ علیه السلام‌ أن‌ يقول‌: إنَّه‌ في‌ حالة‌ عدم‌ التمكّن‌ من‌ الإمام‌ العادل‌، يكون‌ حكم‌ مثل‌ الإمام‌ الجائر علی الناس‌ ضروريّاً. وهذا حكم‌ ثانوي‌ّ كسائر الاحكام‌ الثانويّة‌ التي‌ تتحقّق‌ في‌ صورة‌ عدم‌ إمكان‌ الحكم‌ الاوّلي‌ّ.

 وعليه‌، فقد اشتبه‌ ابن‌ أبي‌ الحديد في‌ رأيه‌ هذا؛ وكلام‌ الإمام‌ علیه السلام‌ مثل‌ قول‌: علی الإنسان أن‌ يتناول‌ الطعام‌ حتماً، إمّا الطعام‌ الحلال‌ أو أكل‌ الميتة‌، وإذا لم‌ يأكل‌ فإنَّه‌ يموت‌. فلا نستفيد من‌ أنَّ أكل‌ الميتة‌ جائز دائماً، وإنَّما يكون‌ جائزاً في‌ صورة‌ عدم‌ توصّلنا إلی الطعام‌ الحلال‌. وإمارة‌ الامير الفاجر أيضاً إنَّما تكون‌ في‌ حالة‌ عدم‌ انتخاب‌ الناس‌ لامير برّ. ووجوب‌ انتخاب‌ الناس‌ للامير البرّ من‌ المؤكّد جدّاً، وعليهم‌ أن‌ يعزلوا الفاجر؛ فيجب‌ علی هم‌ أن‌ يدافعوا ويجاهدوا ويقاتلوا إلی أن‌ يعزلوا الامير الفاجر ويضعوا مكانه‌ الامير البرّ.

 الرجوع الي الفهرس

حروب‌ أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ لصدّ الاعتداء وإقامة‌ دولة‌ الإسلام‌

 فما الذي‌ دعا أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ لان‌ يبقي‌ في‌ معركة‌ صفّين‌ مع‌ جميع‌ أصحاب‌ رسول‌ الله‌ مدّة‌ ثمانية‌ عشر شهراً؟! لقد كان‌ ذلك‌ لاجل‌ عزل‌ الامير الفاجر وإقامة‌ الامير البرّ. وكلّ من‌ يطالع‌ شرحه‌ في‌ خطب‌ « نهج‌ البلاغة‌ » الواردة‌ في‌ فترة‌ معركة‌ صفّين‌ يري‌ أنـّه‌ ( ابن‌ أبي‌ الحديد ) كان‌ يري‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ محقّاً، وأنَّ حروبه‌ علی أساس‌ العدالة‌ ووجوب‌ رفع‌ الظلم‌ والتعدّي‌؛ وأنـّه‌ يري‌ أنَّ معاوية‌ علیهالهاوية‌ مركز الفساد والتعدّي‌ والتجاوز علی حقوق‌ المسلمين‌. وإنصافاً، لقد أعطي‌ حقّ الكلام‌ في‌ بعض‌ كلماته‌ وشروحه‌ الكافية‌ عن‌ مظلوميّة‌ الإمام‌ علیه السلام‌ وشدّة‌ عناد وخصومة‌ معاوية‌.

 وعلي‌ هذا، فقد قصّر ابن‌ أبي‌ الحديد شيئاً ما هنا، وعليه‌ أن‌ يقدّم‌ جواباً أمام‌ محكمة‌ الله‌ وموقف‌ عدله‌ علی هذه‌ الاستفادة‌ التي‌ استفادها هنا من‌ الكلام‌.

 روي‌ العلاّمة‌ الحلّي‌ّ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ أنـّه‌: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌اللَهُ علیهما وَآلهِ: إنَّ اللَهَ لاَ يُقَدِّسُ أُمَّةً لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ لِلضَّعِيفِ حَقَّهُ![3]

 ( لا يقدّس‌: أي‌ لا يطهّر ولا يُنزّه‌، ولا يمنح‌ الرشد والطهارة‌ ).

 وذلك‌ لانَّ معني‌ القدس‌ هو الطهارة‌ والنزاهة‌ والنظافة‌؛ لاَيُقَدِّسُ أي‌ْ لاَيُنَزِّهُ، لاَيُطَهِّرُ.

 يجب‌ أن‌ يكون‌ في‌ الحياة‌ الاجتماعيّة‌ ثمّة‌ أشخاص‌ يأخذون‌ حقّ المظلومين‌ والمستضعفين‌ من‌ الظالم‌ ولا يسمحوا بسحقهم‌، لتكون‌ هذه‌ الاُمّة‌ أُمّةً مقدّسة‌ مطهّرة‌. أمّا إذا فقد المجتمع‌ هذه‌ الميزة‌ ولم‌يتوصّل‌ الضعفاء فيه‌ إلی حقّهم‌ فسيصاب‌ ذلك‌ المجتمع‌ بالفوضي‌؛ فيلزم‌ وجود الوالي‌ البرّ الصالح‌ لإحقاق‌ الحقوق‌ وتدبير الضعفاء ومنع‌ الغشّ، وفي‌ حالة‌ عدم‌وجوده‌ فالوالي‌ الفاجر والفاسق‌.

 وماقيل‌: إنَّ الحقّ يؤخذ ولا يعطي‌، فكلام‌ غير صحيح‌. فالجماعة‌ التي‌ تعيش‌ علی أساس‌ العدالة‌ والتقوي‌ والطهارة‌ تسعي‌ لكي‌ تجد صاحب‌ الحقّ وتعطيه‌ حقّه‌. والجماعة‌ التي‌ تعيش‌ في‌ ظلّ الإنسانيّة‌ لايسعي‌ الضعيف‌ فيها إلی حقّه‌ بقوّة‌ السيف‌، بل‌ يأتي‌ القوي‌ ملتمساً من‌ الضعيف‌ أن‌ يأتي‌ ليأخذ حقّه‌ منه‌.

 الرجوع الي الفهرس

المُلْكُ يَبْقَي‌ مَعَ الكُفْرِ وَلاَ يَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ

 أجل‌؛ ففي‌ ذلك‌ المجتمع‌ الذي‌ يحكم‌ فيه‌ الإيمان‌ والإسلام والحقيقة‌ والشهادة‌، يصل‌ كلّ شخص‌ إلی حقّه‌، وهكذا المجتمع‌ هو مجتمع‌ الإنسانيّة‌ والاصالة‌. وسيأتي‌ أخيراً يوم‌ تنتشر فيه‌ حكومة‌ العدل‌ في‌ جميع‌ نقاط‌ الدنيا. أي‌ حين‌ وصول‌ الامر إلی حيث‌ لا يحتاج‌ الإنسان في‌ أخذ حقّه‌ إلی القوّة‌ والسيف‌، ووصول‌ حقّ كلّ ضعيف‌ إليه‌. ولذا يقول‌ النبي‌ّ صلّي‌الله‌ علیهوآله‌ في‌ الرواية‌ المرسلة‌:

 المُلْكُ يَبْقَي‌ مَعَ الكُفْرِ وَ لاَيَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ [4]. وذلك‌ لانَّ الشخص

الكافر الذي‌ يكون‌ مسلّطاً علی أشخاص‌ كافرين‌ في بلد ما، يريد قيادة الناس‌ علی أساس‌ العدالة‌. أمّا إذا قام‌ الزعيم‌ أو الرئيس‌ بممارسة‌ الظلم‌ وارتكب‌ الظلم‌ في‌ حقّ الرعيّة‌، ولم‌ يراع‌ حقّ الضعفاء، ولم‌يتمكّن‌ الاشخاص‌ الذين‌ يعيشون‌ هناك‌ من‌ التوصّل‌ إلی حقّهم‌ بسهولة‌، ويواجهون‌ القلاقل‌ والوساوس‌ والاضطرابات‌، ممّا يجعل‌ تحصيل‌ الحقّ بالنسبة‌ لهم‌ من‌ دواعي‌ المشقّة‌، ويكون‌ رفع‌ الشكوي‌ من‌ قبلهم‌ إلی الحاكم‌ سبباً للتعب‌ إذ لايجدون‌ مَن‌ يهتمّ بكلامهم‌؛ وتكون‌ محكمة‌ الحاكم‌ أيضاً من‌ أسباب‌ تعطيل‌ الاُمور فيتخلّي‌ الكثيرون‌ عن‌ حقوقهم‌، لانـّهم‌ يرون‌ عدم‌استطاعة‌ الوصول‌ إليها، وينهكون‌ إلی درجة‌ تجعلهم‌ يصرفون‌ النظر عن‌ حقّهم‌ في‌ آخر المطاف‌. ولن‌ تجد هذه‌ الجماعة‌ وهي‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ أي‌ّ خير.

 فكان‌ مفاد الرواية‌ التي‌ نقلناها عن‌ العلاّمة‌ في‌ « التحرير » عن‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ أنَّ هذه‌ الاُمّة‌ لن‌ تسعد، وأنَّ هذه‌ الجماعة‌ لن‌تكون‌ جماعة‌ رشيدة‌.

 الرجوع الي الفهرس

لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ القَوِي‌ِّ غَيْرَمُتَتَعْتِعٍ

 قال‌ أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ في‌ كتابه‌ وعهده‌ لمالك‌ الاشتر النخعي‌ّ عندما أرسله‌ إلی مصر: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ القَوِي‌ِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ [5].

 يقول‌ ابن‌ الاثير في‌ « النهاية‌ » في‌ مادّة‌ «تَعْتَعَ»: حَتَّي‌ يَأْخُذَ لِلضَّعيفِ حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ، مُتَعْتَعٍ ( بفتح‌ التاء ): أي‌ مِنْ غَيْرِ أنْ يُصيبَهُ أذيً يُقَلْقِلُهُ ويُزْعِجُهُ. يُقالُ تَعْتَعَهُ فَتَتَعْتَعَ [6].

 مُتَعْتَع‌، أي‌ الشخص‌ المبتلي‌ والواقع‌ تحت‌ الاذي‌ بنحو يسبّب‌ له‌ القلق‌ والاضطراب‌، فيقال‌ له‌: صارَ مُتَعْتَعاً. غَيْرُ مُتَعْتَعٍ، أي‌ بدون‌ قلق‌ وإزعاج‌. فيصل‌ ذلك‌ المجتمع‌ إلی رُقِيِّه‌ وقدسه‌ وطهره‌ وكماله‌ عندما يأخذ الضعيف‌ حقّه‌ من‌ دون‌ مشاكل‌، لا مع‌ الاضطراب‌ والقلق‌.

 ويقول‌ في‌ « أقرب‌ الموارد »: تَعَّ، يَتُعُّ، تَعَاً وتَعَّةً: اسْتَرْخَي‌ وَتَقَيَّأَ. تَعْتَعَهُ: أقْلَقَهُ أَو أكْرَهَهُ في‌ الاَمْرِ حَتَّي‌ قَلِقَ. تَعْتَعَ في‌ الكَلاَمِ: تَردَّدَ فيهِ مِنْ حَصَرٍ أَو عِي‌ٍّ.

 تَعْتَعَهُ، أي‌ أوقعه‌ في‌ القلق‌ والاضطراب‌، وأكرهه‌ في‌ الامر. فمن‌ يكره‌ إنساناً في‌ أمر ما ويوقعه‌ في‌ القلق‌ والاضطراب‌ يقال‌ له‌: تَعْتَعَهُ.

 تَعْتَعَ في‌ الكَلاَمِ أي‌ تَرَدَّدَ مِنْ أمْرٍ. أي‌ أنـّه‌ لم‌ يتمكّن‌ من‌ الكلام‌ وبيان‌ قوله‌ بسبب‌ ضيق‌ الصدر أو المشاكل‌ التي‌ واجهته‌.

 بناء علی هذا، فالمعني‌ بهذا النحو: أي‌ يأتِ الضعيف‌ فيأخذ حقّه‌ من‌ دون‌ أنْ تَعْتَعَ، أي‌ من‌ دون‌ أن‌ يكون‌ في‌ كلامه‌ لكنة‌ ناشئة‌ عن‌ حَصَر ( بفتح‌ الصاد بمعني‌ ضيق‌ الصدر )، ومن‌ دون‌ أي‌ّ تعبّ وضيق‌ صدر. وعندما يريد أخذ حقّه‌ أيضاً يكون‌ ذلك‌ بكلام‌ واضح‌ وفصيح‌ وظاهر، لا أن‌ يقف‌ قبال‌ الحاكم‌ للشكاية‌ في‌ أخذ حقّه‌ وهو متزلزل‌ في‌ كلامه‌ بسبب‌ الاجواء المشحونة‌ التي‌ تضطرّه‌ لعدم‌ بيان‌ مطلبه‌ بشكل‌ جيّد.

 فَعَلَی هَذا، لاَ يُقَدِّسُ اللَهُ هَذِهِ الاُمَّةَ؛ فلن‌ تكون‌ هذه‌ الاُمّة‌ أُمّة‌ مقدّسة‌، ولن‌تصل‌ إلی سعادتها وفلاحها.

 إنَّ مجموعة‌ المطالب‌ التي‌ بُحِثَتْ حول‌ هذه‌ الرواية‌ الشريفة‌ وحول‌ الاصل‌ الكلّي‌ّ للحكومة‌ الإسلاميّة‌ التي‌ توكل‌ إلی أُولي‌ الامر وتختصّ بالائمّة‌ المعصومين‌ علیهم السلام‌، وتكون‌ من‌ بعدهم‌ في‌ حال‌ عدم‌التمكّن‌ والوصول‌ إليهم‌ للدرجات‌ الاربع‌ النازلة‌ من‌ باب‌ الاَهَمُّ فَالاَهَمُّ وهي‌: درجة‌ الفقيه‌ الاعلم‌، ودرجة‌ الفقيه‌ غير الاعلم‌، ودرجة‌ عدول‌ المؤمنين‌، ودرجة‌ فسّاق‌ المؤمنين‌. وذلك‌ سواء في‌ الاُمور الولايتيّة‌ العامّة‌ أم‌ الاُمور الولايتيّة‌ الجزئيّة‌، مثل‌ أموال‌ القُصَّر والغُيَّب‌ ومجهول‌ المالك‌ والاوقاف‌. وأخيراً، يجب‌ أن‌ يقوم‌ الفقيه‌ الاعلم‌ أو الفقيه‌ العالم‌ أو عدول‌ المؤمنين‌ أو فسّاق‌ المؤمنين‌ بالترتيب‌ في‌ جميع‌ الاُمور التي‌ تحتاج‌ إلی قيّم‌، كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ عَلَی هَذا النَّهْجِ الَّذي‌ ذَكَرْنا، ويُخرج‌ تلك‌ الاُمور من‌ حالة‌ الضياع‌ والفساد، لكي‌ لايُسلَّم‌ الذين‌ يعيشون‌ في‌ ظلّ هذه‌ الحكومة‌ إلی الضياع‌ والهلاك‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد

 الرجوع الي الفهرس

 

الدرس‌ الثالث‌ والعشرون‌:

خلاصة‌ أدلّة‌ ولاية‌ الفقيه‌ الاعلم‌ في‌ الاُمّة‌

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّي‌ اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

 ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِي‌ِّ العَظِيمِ

أصل‌ الحكم‌ وسعته‌ وضيقه‌ وقيوده‌ وشرائطه‌ كلّها بِيَدِ الحاكم‌

 الحاكم‌ الذي‌ يحكم‌ وبيده‌ الامر والحكم‌، كما أنَّ أصل‌ الحكم‌ بيده‌ نفياً وإثباتاً فهو بيده‌ أيضاً من‌ ناحيتي‌ السعة‌ والضيق‌، سواء كان‌ ذلك‌ الحاكم‌ هو الشارع‌ أم‌ غيره‌.

 فالحكم‌ الذي‌ يجعله‌ الشارع‌ علی متعلّق‌ ما، فكما أنَّ جعله‌ بيده‌، فسعة‌ وضيق‌ ذلك‌ المتعلّق‌ بيده‌ أيضاً. فتارة‌ يؤخذ المتعلّق‌ علی نحو الإطلاق، وأُخري‌ علی نحو التقييد. ويتفاوت‌ التقييد أيضاً بحسب‌ اختلاف‌ درجات‌ القيد.

 وكذلك‌ بيده‌ أن‌ يعيّن‌ الكاشف‌ في‌ مقام‌ الإثبات‌ لذلك‌ الحكم‌ الذي‌ جعله‌ في‌ عالم‌ الثبوت‌؛ فتارة‌ يكون‌ كاشف‌ الحكم‌ لفظيّاً كالروايات‌، وتارة‌ أُخري‌ يكون‌ لبّيّاً كالسيرة‌ الابتدائيّة‌، أو إمضاء السيرة‌ المستمرّة‌ التي‌ عُمل‌ بها من‌ قبل‌، حتّي‌ أنـّه‌ قد يستكشف‌ أحياناً حكم‌ الشارع‌ من‌ سكوته‌ في‌ مقابل‌ سيرة‌ ما، ويكون‌ الشارع‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ أيضاً قد جعل‌ الحكم‌ واقعاً، لكنّه‌ جعل‌ كاشفه‌ السكوت‌ تجاه‌ السيرة‌.

 وعلي‌ كلّ تقدير، فعندما يستكشف‌ الحكم‌ الواقعي‌ّ، أو نعرف‌ نيّة‌ وقصد الشارع‌ بالنسبة‌ لسعة‌ وضيق‌ دائرة‌ حكم‌ ما، فعلينا اتّباع‌ ذلك‌ من‌ أي‌ّ طريق‌ حصل‌.

 إنَّ توسعة‌ وتضييق‌ حكم‌ أو متعلّقه‌، سواء في‌ الجعل‌ الابتدائي‌ّ للحكم‌ أم‌ في‌ إمضاء السيرة‌، إنَّما يكون‌ بِيَدِ الشارع‌.

 فعندما يقول‌ مثلاً أَحَلَّ اللَهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَو'ا [7]، فقد حرّم‌ الربا بشكل‌ عامّ، سواء كانت‌ هذه‌ المعاملة‌ بيعاً ربويّاً أم‌ معاملة‌ أُخري‌ تتمّ تحت‌ عنوان‌ الربا، فقد جاء حكم‌ الحرمة‌ علی الربا في‌ مطلق‌ الاموال‌، بينما جاء الحكم‌ بالحلّيّة‌ علی البيع‌.

 وكذا الحال‌ في‌ مورد البيع‌، فالامر بهذا النحو أيضاً، أي‌ أنَّ الشارع‌ لن‌يكون‌ ملتزماً باتّباع‌ البيع‌ العرفي‌ّ وقيوده‌ وشروطه‌، بل‌ من‌ الممكن‌ في‌ مورد ما وفي‌ ظروف‌ وقيود معيّنة‌ أن‌ يحلّل‌ بيعاً ما بينما يحرّم‌ بيعاً آخر، فيضيّق‌ الدائرة‌ في‌ بعض‌ الموارد ويوسّعها في‌ موارد أُخري‌.

 ولذلك‌ فمن‌ الممكن‌ ـمن‌ باب‌ المثال‌ـ أن‌ يلاحظ‌ العرف‌ قيداً في‌ تحقّق‌ عنوان‌ البيع‌ في‌ الخارج‌ أو في‌ صحّته‌، بينما يلغي‌ الشارع‌ ذلك‌ القيد ويلاحظ‌ الحكم‌ بنحو الإطلاق. وكذلك‌ من‌ الممكن‌ أن‌ لا يكون‌ ثمّة‌ قيد لدي‌ العرف‌، لكنَّ الشارع‌ يضيفه‌. أي‌ يحلّ البيع‌ ويمضيه‌ بتلك‌ القيود والشروط‌.

 فالشارع‌ ـ مثلاًـ لم‌ يمض‌ بيع‌ الغَرَر ولم‌ يحلّل‌ بيع‌ الخمر والخنزير، مع‌ أنـّه‌ يصدق‌ علی ها عنوان‌ البيع‌ قطعاً، وقد كان‌ بيع‌ الخمر والخنزير رائجاً وشائعاً وقد حرّمه‌ الإسلام‌.

 نعم‌؛ في‌ مورد البيع‌ الغرري‌ّ، بواسطة‌ تقيّد البيع‌ بغير الغرري‌ّ يستكشف‌ أن‌ ذلك‌ القيد عقلائي‌ّ؛ نَهَي‌ النَّبِي‌ُّ عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. فالعقلاء لايمضون‌ بيع‌ الغرر، فأمضي‌ الشارع‌ حكم‌ العقلاء في‌ هذا المورد.

 وأمّا في‌ بيع‌ الخمر والخنزير وأمثالهما، فقد قام‌ الشارع‌ بإنشاء جديد وضيّق‌ دائرة‌ تجويز البيع‌ وحلّيّته‌. وأوجب‌ بحكم‌ «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» [8] أن‌ يلتزم‌ بالبيع‌ وسائر العقود. أي‌ أنـّه‌ يوجب‌ بـ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ العقود الرائجة‌ والمتداولة‌ في‌ العرف‌ والعادة‌، ويمضي‌ ما كان‌ معمولاً به‌ بين‌ الناس‌ ومتعاملاً به‌ بصفة‌ عقد، فلم‌ يُعدّ لازماً أن‌ يُسأل‌ عن‌ العقود واحداً واحداً، كأن‌ يسأل‌ عن‌ جواز الصلح‌ و الهبة‌ أو المضاربة‌ و المساقات‌ و المزارعة‌ وعدمه‌. و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، يعني‌ أنَّ علی كم‌ أن‌ تعملوا بجميع‌ عهودكم‌، ويشير بهذه‌ الجملة‌ إلی تنفيذ جميع‌ العقود الخارجيّة‌ المتداولة‌ حينها.

 فلو وجد الآن‌ عقد جديد في‌ الخارج‌ لم‌ يكن‌ موجوداً في‌ عهد الشارع‌، فهل‌ نستطيع‌ التمسّك‌ بـ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ والقول‌ بما أنـّه‌ قد تحقّق‌ في‌ الخارج‌ وصدق‌ علیه عنوان‌ العقد فيشمله‌ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أيضاً؟

 يري‌ المرحوم‌ الشيخ‌ الانصاري‌ّ رحمه‌ الله‌ أنَّ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لاتشمل‌ هذه‌ العقود، لانَّ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ كانت‌ حكماً بوجوب‌ الوفاء بالعقود التي‌ كانت‌ متداولة‌ في‌ زمان‌ الشارع‌. و « أل‌ » التي‌ في‌ « العقود » ليست‌ « أل‌ » الاستغراق‌، لكي‌ يكون‌ كلّ عقد يتحقّق‌ في‌ الخارج‌ في‌ كلّ زمان‌ لازم‌ الوفاء علی نحو القضيّة‌ الحقيقيّة‌. وإنَّما الالف‌ واللام‌ هي‌ عهد جنسي‌ّ، أي‌ أنَّ العقود التي‌ هي‌ متداولة‌ في‌ الخارج‌ الآن‌ واجبة‌ الوفاء.

 وعلي‌ هذا، فتمضي‌ جميع‌ العقود التي‌ كانت‌ في‌ زمان‌ الشارع‌، مثل‌ البيع‌ والصلح‌ والمضاربة‌ والهبة‌ وأمثال‌ ذلك‌. وأمّا العقود التي‌ تظهر فيما بعد، ولم‌تكن‌ في‌ زمان‌ الشارع‌، فلا تشملها أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

 فلو وجد عقد ما في‌ زمان‌ ما قبل‌ التأمين‌ الذي‌ يعقده‌ الطرفان‌ علی أساس‌ معاملة‌ وضعيّة‌، ويقومان‌ فيه‌ بالإيجاب‌ والقبول‌ أيضاً، ودون‌ أن‌ يكون‌ محلِّلاً لحرام‌ أو محرِّماً لحلال‌ كذلك‌، أو لا يشتمل‌ علی شرط‌ مخالف‌ للكتاب‌ والسنّة‌، أي‌ ليس‌ فيه‌ شرطاً غير مشروع‌. وإنّما هو في‌ حدّ نفسه‌ عقد بين‌ طرفين‌ وحسب‌، فهل‌ تشمله‌ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أيضاً؟ وهل‌ تلزمنا أَوْفُوا بتبعاته‌؟

 يقول‌ الشيخ‌ رحمه‌ الله‌: لا؛ لا تشمله‌، لانَّ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ تعني‌: أوْفوا بِالعُقودِ المُتَعارِفَه‌، لا: كُلُّ عَقْدٍ فُرِضَ في‌ العالَم‌.

 لكنَّ رأي‌ المرحوم‌ السيّد محمّد كاظم‌ اليزدي‌ّ رحمه‌ الله‌ علیهكان‌ في‌ قباله‌، ونظره‌ هو: أنَّ «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » تشمل‌ كلّ عقد فُرِضَ أنْ يَتَحَقَّقَ في‌ الخارِج‌، حتّي‌ لو لم‌ يكن‌ موجوداً في‌ زمان‌ الشارع‌. وأنَّ الالف‌ واللام‌ ليست‌ إشارة‌ إلی تلك‌ العقود المتعارفة‌ في‌ زمان‌ الشارع‌.

 وقد أفتي‌ البعض‌ علی هذا الاساس‌ وبناء علی رأيه‌ بجواز معاملة‌ التأمين‌ التي‌ لا تتضمّن‌ شرطاً محترماً، والتي‌ تتمّ عن‌ رضا من‌ الطرفين‌. وأمر الشارع‌ بالوفاء بها أعمّ من‌ كونه‌ بواسطة‌ اللفظ‌ أو السيرة‌ أو السكوت‌ في‌ مقابل‌ عمل‌ الناس‌. كما أنَّ أصل‌ ثبوت‌ جواز أنواع‌ معاملات‌ البيع‌ والصلح‌ وأمثالها، إنَّما بالسيرة‌ أو بالسكوت‌ والإمضاء، إذ إنَّ جميع‌ هذه‌ العقود معمول‌ بها بين‌ الناس‌ في‌ زمان‌ الشارع‌، كما كان‌ نفس‌ الشارع‌ يتعامل‌ بها أيضاً، ولم‌ يمنعها؛ ممّا يكشف‌ عن‌ إمضائه‌ لها. وإلاّ فليس‌ لدينا دليل‌ لفظي‌ّ من‌ السنّة‌ علی حلّيّة‌ كلّ واحد من‌ العقود بخصوصه‌. وإنّما عمدة‌ الدليل‌ هو هذه‌ السيرة‌.

 الرجوع الي الفهرس

لم‌ يجعل‌ شارع‌ الإسلام‌ انتخاب‌ الاكثريّة‌ طريقاً لتعيين‌ الولاية‌

 وفي‌ قضيّة‌ رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌، ورجوع‌ الناس‌ إلی الفقيه‌، وكذلك‌ رجوعهم‌ إلی الفقيه‌ الاعلم‌ ( أعمّ من‌ رجوعهم‌ في‌ مسألة‌ أخذ الفتوي‌، أو الرجوع‌ إليهم‌ في‌ مسألة‌ الولاية‌ والتدبير والقيمومة‌ عامّة‌ أو الزعامة‌ ) فقد كان‌ هذا كلّه‌ سيرة‌ رائجة‌ بين‌ الناس‌، وكان‌ الجميع‌ يرجعون‌ إلی أعلم‌ الاُمّة‌ في‌ ذلك‌ الفنّ. وقد أمضي‌ الشارع‌ المقدّس‌ كذلك‌ هذه‌ السيرة‌، لكن‌ هل‌ أمضي‌ الشارع‌ الطريق‌ المعروف‌ العرفي‌ّ ( في‌ مقام‌ الكاشفيّة‌ ) في‌ هذه‌ الموارد، أو أنـّه‌ يحقّ له‌ أن‌ يعيّن‌ طريقاً خاصّاً من‌ عنده‌؟

 إنَّ الاعلم‌ شخص‌ واحد في‌ كلّ زمان‌ لا أكثر، وعلي‌ الرغم‌ من‌ اقتضاء السيرة‌ بالرجوع‌ إليه‌، لكنّها ( السيرة‌ ) لم‌ تقم‌ علی ضرورة‌ التعرّف‌ علی الاعلم‌ عن‌ طريق‌ علم‌ الغيب‌ أو سؤال‌ نبي‌ّ أو إمام‌ والاخذ بقوله‌ تعبّداً.

 والغالب‌ هو رجوع‌ الناس‌ إلی الاعلم‌ في‌ كلّ فنّ، ويحصل‌ ذلك‌ عن‌ طريق‌ الاختبار والاستشارة‌، ويتلو ذلك‌ أيضاً مبدأ الانتخاب‌ وأخذ الآراء. وهذا أيضاً طريق‌ لكشف‌ الحكم‌ الواقعي‌ّ.

 لكنَّ الشارع‌ قد سدّ هذا الطريق‌؛ وقال‌: إنَّ الرجوع‌ إلی الفقيه‌ الاعلم‌ أو الإمام‌ المعصوم‌ في‌ الشرع‌ ـوأصل‌ هذا الامر علی أساس‌ السيرة‌ـ مرهون‌ بالطريق‌ الشرعي‌ّ المبُيّن‌، لا بحسب‌ الطريقة‌ المتعارفة‌ في‌ الموارد الاُخري‌. فعليكم‌ الوصول‌ إثباتاً إلی الاعلم‌ في‌ الاُمّة‌، الذي‌ يمتلك‌ مزايا كهذه‌ ثبوتاً. وعليكم‌ اتّباع‌ علی ‌ّ بن‌ أبي‌ طالب‌ علیه السلام‌ وحده‌ دون‌ سواه‌. أمّا أن‌ تذهبوا بحسب‌ رأيكم‌ إلی السقيفة‌ لتقوموا بأخذ الآراء أو بما شئتم‌ من‌ عمل‌، فهذا مرفوض‌ عندي‌، وينبغي‌ أن‌ يكون‌ الحاكم‌ بهذا الشكل‌ قبلتم‌ أم‌ رفضتم‌.

 وبناء علی هذا، فالسيرة‌ هي‌ الطريق‌ الذي‌ ورد في‌ الشرع‌ لاتّباع‌ ذلك‌ الفقيه‌ الافضل‌ والاعلم‌، والذي‌ هو نفس‌ الإمام‌ المعصوم‌ في‌ زمان‌ الحضور والفقيه‌ الاعلم‌ في‌ زمان‌ غيبة‌ الإمام‌ المعصوم‌.

 فالسيرة‌ هي‌ إحدي‌ الادلّة‌ بلا شكّ ولا شبهة‌، ودليلها أيضاً دليل‌ مهمّ، لكنّ طريق‌ الوصول‌ إلی هذا المعني‌ والكاشف‌ عنه‌ بِيَدِ الشارع‌ بالضرورة‌؛ فبإمكان‌ الشارع‌ أن‌ يفتح‌ لنا طريقاً ويغلق‌ آخر؛ ويقول‌: إنَّ طريق‌ تعيين‌ الاعلم‌: هو ما يعيّنه‌ الإمام‌ المعصوم‌، لاغير.

 ولذا نقول‌: إن‌ لم‌ يكن‌ للولي‌ّ والفقيه‌ الاعلم‌ صلة‌ بالإمام‌ المعصوم‌، فلايكون‌ محلّ إمضاء، ولا تكون‌ ولايته‌ تامّة‌ أصلاً. ويجب‌ أن‌ يجعل‌ أهل‌ الخبرة‌ كاشفاً في‌ مقام‌ الإثبات‌ لذلك‌ الفقيه‌ الاعلم‌ في‌ مقام‌ الثبوت‌ ( وأهل‌ الخبرة‌ الذين‌ هم‌ أهل‌ الحلّ والعقد، والمعيّنون‌ لهذا المعني‌، الذين‌ يمتلكون‌ نور الباطن‌ ونورانيّة‌ الضمير، ويستطيعون‌ تشخيص‌ الاعلم‌ سواء من‌ ناحية‌ العلم‌ والفقاهة‌ أم‌ من‌ ناحية‌ نورانيّة‌ الباطن‌ ).

 وذلك‌ بخلاف‌ قولنا: إنَّ علی عوامّ الناس‌ من‌ بقّال‌ وراعٍ وعامل‌ أن‌ ينتخبوا الفقيه‌ الاعلم‌، ويعطوا آراءهم‌ حول‌ تعيين‌ الحاكم‌، فيتمّ انتخاب‌ الذين‌ يحصلون‌ علی أكثريّة‌ الاصوات‌ ( وحتّي‌ لو كان‌ ذلك‌ بنسبة‌ إحدي‌ وخمسين‌ في‌ المائة‌ ) ممّا يؤدّي‌ إلی بطلان‌ وضياع‌ التسعة‌ وأربعين‌ في‌ المائة‌ من‌ أهل‌ البلاد وافتراضهم‌ غير موجودين‌ ومعدومين‌ بسبب‌ تلك‌ المزيّة‌ الجزئيّة‌! وكان‌ الانتخاب‌ حسب‌ آراء زيد وعمرو ممّن‌ لا يعرفون‌ شيئاً عن‌ الفقه‌ أو الفقيه‌ أو الدراية‌ والعلم‌ والتقوي‌، ولا يصل‌ مستوي‌ إدراكهم‌ إلی هذه‌ المسائل‌. ولذا اجتمع‌ جميع‌ هؤلاء لإثبات‌ الكاشفيّة‌ عمّن‌ جعله‌ الشارع‌ المقدّس‌ في‌ مقام‌ الثبوت‌ وليّاً فقيهاً، فلن‌ تكون‌ لهم‌ أيّة‌ قيمة‌.

 كان‌ هذا محصّل‌ البحث‌ عن‌ السيرة‌ التي‌ لا يراود أصلها أي‌ّ شكّ أو شبهة‌ أو إشكال‌، وإنَّما الكلام‌ في‌ كاشفيّتها وكيفيّة‌ تحصيلها.

 الرجوع الي الفهرس

عدم‌ دلالة‌ حديثي‌: المُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَی ‌النَّاسِ،وَالعُلَمَاءُحُكَّامٌ...

 ومن‌ الروايات‌ التي‌ استدلّ بها علی ولاية‌ الفقيه‌، وإن‌ كان‌ من‌ الممكن‌ أن‌ لا تدلّ، هي‌ الرواية‌ التي‌ يرويها أُستاذ الشيخ‌ الانصاري‌ّ، المرحوم‌ الحاجّ المولي‌ أحمد النراقي‌ّ في‌ « عوائد الايّام‌ » [9] عن‌ مولانا الصادق‌ علیه السلام‌:

 إنَّهُ قَالَ: المُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَی النَّاسِ، وَالعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَی المُلُوكِ [10].

 فيستفاد من‌: العُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَی المُلُوكِ: أنَّ للعلماء جهة‌ ولاية‌ حتّي‌ علی الملوك‌.

 واعتُرِضَ علی هذا الاستدلال‌ بـ: أنَّ هذا الحديث‌ غير ناظر إلی مدّعانا، وإنَّما هو ناظر إلی ما هو متعارف‌ في‌ الازمنة‌ المختلفة‌ من‌ اتّباع‌ الناس‌ للسلطان‌ والملك‌، واتّباع‌ الملك‌ أيضاً لعالِم‌ زمانه‌، إذ يقصد الناس‌ في‌ كلّ أُمّة‌ وجماعة‌ الملك‌؛ بينما يأخذ الملك‌ برأي‌ عالِم‌ ذلك‌ الوقت‌ ويتّبعه‌؛ وكان‌ ذلك‌ متّبعاً عند الملوك‌ السابقين‌، حيث‌ كانوا يجعلون‌ الاعلم‌ من‌ علمائهم‌ وزراء لهم‌، وقد اشتهرت‌ إيران‌ والروم‌ بذلك‌.

 فعندما جعل‌ أنوشيروان‌ بوذرجمهرَ وزيراً له‌، لانـّه‌ كان‌ حكيم‌ وعالم‌ ذلك‌ الزمان‌ ولذا جعله‌ ناظراً علی جميع‌ أعماله‌، وكان‌ يستمدّ منه‌ الطاقة‌ الفكريّة‌. كما كان‌ هذا هو السبب‌ الذي‌ حدا بالإسكندر إلی جعل‌ أرسطو وزيراً له‌. وقد امتنع‌ بعض‌ العلماء عن‌ الرضوخ‌ لإرادة‌ الملوك‌ في‌ مسألة‌ التصدّي‌ للاُمور العامّة‌، لانَّ ذلك‌ يسلبهم‌ المجال‌ والفراغ‌، ويسبّب‌ لهم‌ التنزّل‌ من‌ الكمالات‌ والاحوال‌ الروحيّة‌؛ ولذا كانوا يفرّون‌ من‌ التصدّي‌ لذلك‌. لكنَّ أُولئك‌ الملوك‌ كانوا ينتخبون‌ بأي‌ّ نحو كان‌ الفرد الاكثر لياقة‌ وعلماً وحكمة‌ في‌ بلادهم‌ لمنصب‌ الوزارة‌ والصدر الاعظم‌، لانـّهم‌ كانوا يرون‌ أنفسهم‌ بحاجة‌ إلی طاقة‌ العلماء العلميّة‌.

 وهذا هو مفاد هذه‌ الرواية‌: العُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَی المُلُوكِ؛ لاأنَّ الشرع‌ قد جاء وجعل‌ العلماء حكّاماً علی الملوك‌ في‌ عالم‌ الامر والنهي‌ والتشريع‌ لكي‌ يمكننا استفادة‌ الولاية‌ الشرعيّة‌ منها.

 وقد أجاب‌ أُستاذنا آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محمود الشاهرودي‌ّ أعلي‌الله‌ مقامه‌ في‌ « كتاب‌ الحجّ » [11] علی الاعتراض‌ بقوله‌: إنَّ مُجَرَّدَ الإخبار غَيْرُلائِقٍ لِمَقامِ الإمام علیهما السَّلامُ، المَنْصوبِ لِبَيانِ الاحْكامِ؛ فَالمُناسِبُ أنْ يَكونَ ما ظاهِرُهُ الإخبار إنْشاءً. فَالمُرادُ حينَئِذٍ: أنَّ العُلَماءَ نُصِبوا شَرْعاً حُكَّاماً عَلَی المُلوكِ بِحَيْثُ تَنْفُذُ أحْكامُهُمْ عَلَی المُلوكِ مِن‌ حَيْثُ كَوْنِهِمْ مُلوكاً... وَمِنَ المَعْلومِ: أنَّ شَأْنَ المُلوكِ القيامُ بِالمَصالِحِ النَّوْعيَّةِ وَإقامَةُ الحُدودِ وَحِفْظُ الثُّغورِ وَتَأْمينُ البِلادِ لِنَظْمِ مَعاشِ العِبادِ. وَنُفوذُ حُكْمِ العالِمِ عَلَی السُّلْطانِ مَنوطٌ بِوَلايَتِهِ في‌ الاُمورِ السِّيَاسِيَّةِ؛ فَيَكونُ أُمورُ الدِّينِ وَالدُّنْيا راجِعَةً إلَی الفَقيه‌؛ فَتَأَمَّل‌ ـ انْتَهَي‌.

 أقول‌: إنَّ جواب‌ هذا الاعتراض‌ غير وارد، إذ ليس‌ من‌ مذاق‌ الشارع‌ أن‌ ينصب‌ شخصاً في‌ مقام‌، ثمّ يأمر الناس‌ بطاعته‌ مع‌ عدم‌ إمضاء أصل‌ جعله‌ لذلك‌ المقام‌. فإنَّ مذاق‌ الشارع‌ نفي‌ وعدم‌ إمضاء الحكّام‌ والملوك‌ في‌ مقابل‌ العلماء. فهو يعتبر حكومتهم‌ باطلة‌ من‌ الاساس‌، ويري‌ الحكومة‌ منحصرة‌ في‌ العلم‌ والتقوي‌.

 فلا يري‌ شرعُ الإسلام‌ حاكماً في‌ مقابل‌ العالِم‌ حتّي‌ نقول‌: إنَّه‌ قد جعله‌ تابعاً وأمره‌ باتّباع‌ العالِم‌، وإنَّه‌ قد فرّق‌ بين‌ العلماء والملوك‌، ومن‌ ثمّ ثبّت‌ حكم‌ الملوك‌ علی الناس‌، وقال‌ بعد ذلك‌: إنَّ علی هؤلاء الملوك‌ أن‌ يتّبعوا العلماء. فهذا التعبير وهذا التفريق‌ غير صحيح‌.

 وعلي‌ هذا، فَالاَوْلَي‌ رَدُّ الإشْكالِ، وَالذِّهابُ إلَی أنَّ هَذَا الخَبَرَ ناظِرٌ إلَی بَيانِ عُلُوِّ شَأْنِ العُلَماء. فالإمام‌ علیه السلام‌ يريد أن‌ يُبيِّن‌ أنَّ شأن‌ العلماء أرقي‌ من‌ الملوك‌. إذ نري‌ أنَّ الملوك‌ في‌ الخارج‌ مع‌ امتلاكهم‌ لكمال‌ القوّة‌ ومع‌ استكبارهم‌، لكنّهم‌ يجعلون‌ كبار الحكماء وزراء لهم‌، خاضِعونَ لِمَقامِ عِلْمِهِمْ وَدِرايَتِهِم‌، ويستسلمون‌ أمام‌ فكرهم‌. فالحديث‌ في‌ مقام‌ الحديث‌ عن‌ العلم‌ وعظمته‌، لا أكثر.

 الرجوع الي الفهرس

روايتا: السُّلْطَانُ وَلِي‌ُّ مَنْ لاَ وَلِي‌َّ لَهُ؛ عُلَمَاءُ أُمَّتِي‌ كَسَائِرِ أَنْبِيَاءَ قَبْلِي‌

 ومن‌ الروايات‌ الاُخري‌ التي‌ استُدِلَّ بها علی ولاية‌ الفقيه‌، الرواية‌ التي‌ رواها المرحوم‌ النراقي‌ّ في‌ « عوائد الايّام‌ » عن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌.

 فقد روي‌ الخاصّة‌ والعامّة‌ أنَّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ قال‌: السُّلْطَانُ وَلِي‌ُّ مَنْ لاَ وَلِي‌َّ لَهُ [12].

 ولم‌ يقصدوا من‌ السلطان‌ الولي‌ّ والحاكم‌ الجائر، بل‌ قصدوا مَنْ لَهُ السَّلْطَنَة‌. وبحسب‌ منطق‌ الشارع‌، يجب‌ استمداد حقّ السلطنة‌ من‌ طريق‌ العدل‌. وعلي‌ هذا، فالمراد من‌ السلطانِ السلطانُ العادل‌، إذ إنَّ السلطان‌ الجائر ليس‌ بمولي‌ أصلاً. فقوله‌: السُّلْطَانُ وَلِي‌ُّ مَنْ لاَ وَلِي‌َّ لَهُ، يريد ذلك‌ الحاكم‌ الذي‌ يمتلك‌ السيطرة‌ والقدرة‌، والذي‌ قد تسلّم‌ زمام‌ الاُمور عن‌ طريق‌ الشرع‌ وهو قادر علی القيام‌ بالامر من‌ ناحية‌ الإحاطة‌ وسعة‌ الولاية‌ وتولّي‌ أُمور وولاية‌ مَنْ لا وَلِي‌َّ لَه‌. فهذه‌ الولاية‌ تختصّ بذلك‌ السلطان‌.

 ومن‌ الروايات‌ التي‌ استُدِلَّ بها علی ولاية‌ الفقيه‌، الرواية‌ الواردة‌ في‌ « جامع‌ الاخبار » و « عوائد الايّام‌ » عن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ التي‌ قال‌ فيها: أَفْتَخِرُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِعُلَمَاءِ أُمَّتِي‌ فَأَقُولُ: عُلَمَاءُ أُمَّتِي‌ كَسَائِرِ أَنْبِيَاءَ قَبْلِي‌ [13].

 وهذه‌ الرواية‌ موجودة‌ في‌ « جامع‌ الاخبار ». ويقول‌ البعض‌ إنَّ الصدوق‌ هو الذي‌ أ لَّفه‌. ومن‌ المحقّق‌ أنَّ هذه‌ النسبة‌ غير صحيحة‌، بل‌ هو تأليف‌ أحد خمسة‌ أشخاص‌. وأيّاً كان‌ مؤلّفه‌ منهم‌ فهو من‌ كبار العلماء والموثّقين‌ علی التحقيق‌.

 وعلي‌ كلّ تقدير، فبما أنَّ سنده‌ يدور بين‌ هؤلاء العلماء الخمسة‌، وهم‌ جميعاً في‌ نهاية‌ الإتقان‌، فسند « جامع‌ الاخبار » أيضاً سند قوي‌ّ، ولامجال‌ للنقاش‌ فيه‌؛ وما علی نا هو أن‌ نري‌ دلالة‌ هذا الخبر.

 ومن‌ الروايات‌ الاُخري‌ التي‌ استدلَّ بها: الرواية‌ المرويّة‌ في‌ « عوائد الايّام‌ » نقلاً عن‌ « الفقه‌ الرضوي‌ّ » من‌ أنَّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ قال‌: مَنْزِلَةُ الفَقِيهِ فِي‌ هَذَا الوَقْتِ كَمَنْزِلَةِ الاَنْبِيَاءِ فِي‌ بَنِي‌ إسْرَائِيلَ [14].

 وينقل‌ المرحوم‌ النراقي‌ّ في‌ « عوائد الايّام‌ » روايات‌ أُخري‌، منها: الرواية‌ التي‌ هي‌ في‌ كتاب‌ « الاحتجاج‌ » للشيخ‌ الطبرسي‌ّ، وهي‌ حديث‌ طويل‌، إلی أن‌ يصل‌ الراوي‌ في‌ قوله‌: قِيلَ لاِمِيرِ المُؤْمِنِينَ علیهما السَّلاَمُ: مَنْ خَيْرُ خَلْقِ اللَهِ بَعْدَ أَئِمَّةِ الهُدَي‌ وَمَصَابِيحِ الدُّجَي‌؟! قَالَ علیهما السَّلاَمُ: العُلَمَاءُ إذَا صَلُحُوا [15].

 ومنها الرواية‌ المرويّة‌ في‌ « مجمع‌ البيان‌ » للطبرسي‌ّ عن‌ رسول‌الله‌ صلّي‌الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ أنـّه‌ قال‌: فَضْلُ العَالِمِ عَلَی النَّاسِ كَفَضْلِي‌ عَلَی أَدْنَاكُمْ [16].

 ومنها رواية‌ في‌ « منية‌ المريد » للشهيد الثاني‌: قال‌ الله‌ العلي‌ّ الاعلي‌ لعيسي‌ ابن‌ مريم‌: عَظِّمِ العُلَمَاءَ وَاعْرِفْ فَضْلَهُمْ، فَإنِّي‌ فَضَّلْتُهُمْ عَلَی جَمِيعِ خَلْقِي‌ إلاَّ النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَی الكَوَاكِبِ، وَكَفَضْلِ الآخِرَةِ عَلَی الدُّنْيَا، وَكَفَضْلِي‌ عَلَی كُلِّ شَي‌ءٍ[17].

 وَلَكِنْ لا يَخْفَي‌ عَدَمُ دَلالَةِ هَذِهِ الاَخْبارِ عَلَی ما نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ إثْباتِ الوَلايَةِ؛ لاَنَّ مَحَطَّ سياقِها إثْباتُ الفَضْلِ لِلْعُلَماء.

 فلا تكفي‌ هذه‌ الاخبار لإثبات‌ ولاية‌ الفقيه‌، لانـّها في‌ سياق‌ إثبات‌ الفضل‌ للعلماء وبيان‌ أحوالهم‌ ومميّزاتهم‌. ولا يتحصّل‌ من‌ مقامهم‌ ودرجتهم‌ إطلاقٌ في‌ ثبوت‌ شؤونهم‌ ليشمل‌ مقام‌ الولاية‌. والروايات‌ مجملة‌ من‌ هذه‌ الجهة‌. وبما أنـّها لم‌ تصرّح‌ بالولاية‌ وليس‌ لها إطلاق‌ أيضاً، فلانستطيع‌ إذَن‌ أن‌ نستفيد الولاية‌ من‌ هذه‌ الطائفة‌ من‌ الروايات‌.

 نعم‌؛ الرواية‌ التي‌ نستطيع‌ الاستدلال‌ بها علی ولاية‌ الفقيه‌ هي‌ الرواية‌ التي‌ أوردها المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الملاّ أحمد النراقي‌ّ في‌ « المستند » في‌ كتاب‌ القضاء، نقلاً عن‌ كتاب‌ « غوالي‌اللئالي‌ » وهي‌:

 النَّاسُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ يَعْلَمُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ يَعْلَمُ، فَذَاكَ مُرْشِدٌ حَاكِمٌ فَاتَّبِعُوهُ [18]. ( أي‌ أنَّ هذا الشخص‌ يمتلك‌ العلم‌ ويمتلك‌ العلم‌ بعلمه‌ أيضاً ) فهذا مرشد حاكم‌ ويجب‌ علی كم‌ اتّباعه‌.

 هنا، قد رُتِّب‌ الحكم‌ بوجوب‌ الاتّباع‌ علی المُرْشِدٌ الحَاكِمٌ؛ والذي‌: يَعْلَمُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ يَعْلَمُ.

 وورد حكم‌ المتابعة‌ هنا علی أساس‌ العلم‌، وهو العلم‌ الخاصّ أيضاً، حيث‌ يكون‌ الإنسان‌ عالماً، وعالماً بعلمه‌ كذلك‌؛ لا أنـّه‌ يكون‌ عالماً دون‌ أن‌ يعلم‌ بأنـّه‌ عالم‌. كما أنَّ هذه‌ الرواية‌ تدلّ علی وجوب‌ اتّباعه‌ من‌ قبل‌ جميع‌ الناس‌ علی نحو الإطلاق. والرواية‌ من‌ حيث‌ السعة‌ مطلقةٌ ولاتختصّ بباب‌ القضاء، بل‌ هي‌ قابلة‌ للتمسّك‌ بها في‌ القضاء والحكومة‌ والمرجعيّة‌ وأخذ الفتوي‌ معاً.

 رَجُلٌ يَعْلَمُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ يَعْلَمُ، فَذَاكَ مُرْشِدٌ حَاكِمٌ فَاتَّبِعُوهُ: يجب‌ اتّباع‌ هكذا حاكم‌، فإطلاقها حسن‌ جدّاً، ودلالتها أيضاً كافية‌، وهي‌ في‌ المفاد نظير قول‌ إبراهيم‌ علیه السلام‌: يَـ'´أَبَتِ إِنِّي‌ قَدْ جَآءَنِي‌ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي‌´ أَهْدِكَ صِرَ ' طًا سَوِيًّا [19].

 خلافاً للروايات‌ التي‌ تدلّ علی أنَّ القضاة‌ أربع‌ طوائف‌. إذ لدينا بضعة‌ روايات‌ حول‌ القضاء بخصوصه‌، تدلّ علی أنَّ القضاة‌ أربع‌ طوائف‌؛ والقاضي‌ بالحقّ من‌ بينهم‌ هو الذي‌: يَعْلَمُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ يَعْلَمُ؛ وعلي‌ الناس‌ اتّباع‌ قضائه‌، وأنَّ الجنّة‌ مآب‌ قاضي‌ كهذا.

 فلا إطلاق‌ لهذه‌ الرواية‌ لتشمل‌ باب‌ الولاية‌ في‌ الحكم‌ أيضاً، وإنّما تتعلّق‌ بباب‌ القضاء، لانَّ القاضي‌ اصطلاحاً هو ذلك‌ الشخص‌ المنصوب‌ للقضاء، لاللحكومة‌ و الإفتاء، وإن‌ يصدق‌ عنوان‌ القاضي‌ علی الحاكم‌ لغة‌، لكنّه‌ اصطلاحاً: هو مَن‌ نصب‌ للفصل‌ في‌ الخصومة‌.

 وعليه‌، فتنحصر الروايات‌ التي‌ تقسّم‌ القضاة‌ إلی أربع‌ طوائف‌ بذلك‌ العالم‌ الذي‌ جلس‌ في‌ مقام‌ الترافع‌ وفصل‌ الخصومة‌ فقط‌، والذي‌ يكون‌ عالماً بالقضاء وعالماً بعلمه‌ أيضاً.

 الرجوع الي الفهرس

القُضَاةُ أَرْبَعَةٌ: ثَلاَثَةٌ فِي‌ النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي‌ الجَنَّةِ

 يروي‌ الكليني‌ّ في‌ « الكافي‌ » عن‌ أحمد بن‌ محمّد بن‌ خالد، عن‌ أبيه‌، مرفوعاً عن‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه السلام‌، أنـّه‌ قال‌:

 القُضَاةُ أَرْبَعَةٌ: ثَلاَثَةٌ فِي‌ النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي‌ الجَنَّةِ: رَجُلٌ قَضَي‌ بِجَوْرٍ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَهُوَ فِي‌ النَّارِ. وَرَجُلٌ قَضَي‌ بِجَوْرٍ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَهُوَ فِي‌ النَّارِ. وَرَجُلٌ قَضَي‌ بِالحَقِّ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَهُوَ فِي‌ النَّار. وَرَجُلٌ قَضَي‌ بِالحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي‌ الجَنَّةِ.

 وَقَالَ عَلَیهِ السَّلاَمُ: الحُكْمُ حُكْمَانِ: حُكْمُ اللَهِ وَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ. فَمَنْ أَخْطَأَ حُكْمَ اللَهِ، حَكَمَ بِحُكْمِ الجَاهِلِيَّةِ [20].

 فليس‌ هناك‌ واسطة‌ بين‌ كلام‌ الحقّ وبين‌ الباطل‌ فيجب‌ أن‌ يحكم‌ بالحقّ وإلاّ كان‌ بالباطل‌.

 وثلاث‌ طوائف‌ من‌ بين‌ هذه‌ الطوائف‌ الاربع‌ ممّن‌يحكمون‌ بغير الحقّ وهم‌ في‌ النار، لانـّه‌ حتّي‌ لو كان‌ ذلك‌ القاضي‌ قد حكم‌ بالحقّ لكنّه‌ بما أنـّه‌: لايَعْلَمُ أنـَّهُ حَقّ، فقد اشتبه‌ في‌ مقدّمات‌ الحكم‌، ولم‌ يحصل‌ ذلك‌ الحقّ علی أساس‌ المباني‌ الصحيحة‌، ولا يكون‌ هذا الحكم‌ ـالذي‌ قد قضي‌ به‌ وطابق‌ الحقّـ صحيحاً. ثمّ، لماذا يقضي‌ ذلك‌ القاضي‌ الذي‌ لا يكون‌ عالماً بالحقّ ويحكم‌ بالجور والباطل‌ دون‌ أن‌ يعلم‌ أن‌ حكمه‌ باطل‌؟ فما علیههو أن‌ يتّبع‌ الحقّ ويتوصّل‌ إلی حكم‌ الحقّ، ويفهم‌ مبادي‌ حكمه‌ من‌ الدليل‌، ويدرك‌ أنَّ هذا الحكم‌ حكم‌ بالجور أو بالحقّ، فيوجب‌ حكمه‌ الاعمي‌ بالجور ـمع‌ أنـّه‌ لا يعرف‌ مبادي‌ الحكم‌ـ المؤاخذة‌، وهذا القاضي‌ في‌ جهنّم‌. والطائفة‌ الوحيدة‌ الناجية‌ هي‌ التي‌ تحكم‌ بالحقّ وفقاً للمدارك‌ والمباني‌ الصحيحة‌ من‌ الكتاب‌ والسنّة‌، والعالمة‌ بصحّة‌ حكمها.

 ويروي‌ الشيخ‌ في‌ « التهذيب‌ » في‌ كتاب‌ القضاء مثل‌ هذه‌ الرواية‌ بنفس‌ السند [21]. ويروي‌ المرحوم‌ الصدوق‌ كذلك‌ في‌ « من‌ لا يحضره‌ الفقيه‌ » عن‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه السلام‌ رواية‌ بهذا المضمون‌، غاية‌ الامر أنـّه‌ قد ذكر ذيلاً للكلام‌، هو: مَنْ حَكَمَ بِدِرْهَمَينِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَهِ عَزَّ وَجَلَّ [22].

 وقد أورد المرحوم‌ الصدوق‌ في‌ « الخصال‌ » هؤلاء القضاة‌ الاربعة‌ بنحو آخر بالإسناد عن‌ محمّد بن‌ موسي‌ بن‌ المتوكّل‌، عن‌ علی ‌ّ بن‌ الحسين‌ السعدآبادي‌ّ، عن‌ أحمد بن‌ أبي‌ عبد الله‌ البرقي‌ّ، عن‌ أبيه‌، عن‌ محمّدبن‌ أبي‌ عمير، والسند إلی هنا جيّد جدّاً؛ يقول‌ بعدها: رَفَعَهُ إلَی أبي‌ عَبْدِاللَهِ علیهما السَّلاَمُ، قَالَ: القُضَاةُ أَرْبَعَةٌ: قَاضٍ قَضَي‌ بِالحَقِّ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي‌ النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَي‌ بِالبَاطِلِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي‌ النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَي‌ بِالحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ حَقٌّ فَهُوَ فِي‌ الجَنَّةِ [23].

 هذه‌ مجموع‌ الروايات‌ والآيات‌ التي‌ استُدِلَّ بها علی ولاية‌ الفقيه‌ والفقيه‌ الاعلم‌ هنا. وقد لاحظتم‌: أنَّ دلالة‌ بعضها جيّدة‌ لكنّها بدون‌ سند، بينما البعض‌ الآخر وإن‌ كان‌ قوي‌ّ السند لكنَّ دلالته‌ غير تامّة‌، كالرواية‌ الاخيرة‌ التي‌ نقلناها عن‌ كتاب‌ « المستند » والتي‌ ينقلها في‌ كتاب‌ القضاء عن‌ « غوالي‌ اللئالي‌ »: رَجُلٌ يَعْلَمُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنـَّهُ يَعْلَمُ فَذَاكَ مُرْشِدٌ حَاكِمٌ فَاتَّبِعُوهُ، فدلالة‌ هذه‌ الرواية‌ قويّة‌ لكنّها بدون‌ سند. ومن‌ حيث‌ المجموع‌، فإنَّ الكثير ممّا بحثناه‌ في‌ هذا الموضوع‌ قد أورده‌ بعض‌ كبار الفقهاء أيضاً، بشكل‌ عامّ، ولم‌ يبحث‌ في‌ باب‌ الولاية‌ كما ينبغي‌، وقام‌ شيخ‌ الفقهاء الانصاري‌ّ رحمة‌ الله‌ علیهبالبحث‌ حول‌ ولاية‌ الفقيه‌ بشكل‌ مختصر جدّاً، وكذلك‌ المرحوم‌ الحاجّ المولي‌ أحمد النراقي‌ّ في‌ « عوائد الايّام‌ » والسيّد محمّد بحر العلوم‌ في‌ « بُلغة‌ الفقيه‌ » والسيّد فتّاح‌ في‌ « العناوين‌ » بصورة‌ إجماليّة‌.

 ولم‌ يبحث‌ بشكل‌ مبسوط‌ في‌ الكتب‌ الاُخري‌؛ وعلي‌ الرغم‌ من‌ بحوث‌ علماء الاُصول‌ المفصّلة‌ في‌ باب‌ الاجتهاد والتقليد، لكنّهم‌ لم‌يبحثوا في‌ ولاية‌ الفقيه‌. علی أنـّه‌ يجب‌ أن‌ تكون‌ هذه‌ المباحث‌ أكثر تأمّلاً وتحقيقاً.

 الرجوع الي الفهرس

تأسّف‌ النائيني‌ّ علی عدم‌ وجود الابحاث‌ العميقة‌ في‌ باب‌ ولاية‌ الفقيه‌

 فمسألة‌ الولاية‌ مسألة‌ مهمّة‌ جدّاً. وعلي‌ الرغم‌ ما للشيعة‌ في‌ ولاية‌ الإمام‌ من‌ أبحاث‌ وافية‌ وكافية‌، إلاّ أنـّهم‌ لم‌ يبحثوا في‌ ولاية‌ الفقيه‌.

 وللمرحوم‌ النائيني‌ّ رحمة‌ الله‌ علیهكتاب‌ باسم‌ « تنبيه‌ الاُمّة‌ وتنزيه‌ الملّة‌ » وهو كتاب‌ حسن‌ جدّاً، يتأسّف‌ فيه‌ كثيراً في‌ أواخر الكتاب‌، ويقول‌: إنَّنا نستفيد كلّ هذه‌ الفروع‌ الفقهيّة‌ للاستصحاب‌ من‌ عبارة‌: لاَتَنْقُضِ اليَقِينَ بِالشَّكِّ، ومع‌ كلّ ما نمتلكه‌ من‌ ذخائر عميقة‌ وأرصدة‌ غنيّة‌، لكنّنا لم‌ نبحث‌ في‌ موضوع‌ الحكومة‌ والولاية‌ ووظيفة‌ الناس‌، ولماذا لم‌تطرح‌ هذه‌ الاُمور؟ إنَّ ذلك‌ مؤسف‌ جدّاً. وقد توسّع‌ المرحوم‌ النائيني‌ّ رحمة‌الله‌ علیهكثيراً في‌ باب‌ الاستصحاب‌ وأبحاثه‌ الدقيقة‌ والعميقة‌ والاستنتاجات‌ الواسعة‌ منه‌.

 وتوسّع‌ أيضاً أُستاذنا المرحوم‌ الشيخ‌ حسين‌ الحلّي‌ّ في‌ الاستصحاب‌، وأبحاث‌ تضارب‌ الاستصحاب‌، وتقديم‌ الاستصحاب‌ الموضوعي‌ّ علی الحكمي‌ّ، وتعارض‌ الاستصحابين‌ وغيره‌، واستخرج‌ منها الفروع‌ الكثيرة‌، واستحصل‌ كلّ ذلك‌ عن‌ طريق‌ تتلمذه‌ عند المرحوم‌ النائيني‌ّ، وكان‌ من‌ المفكّرين‌ وخرّيتاً في‌ هذا الفنّ.

 فالمؤسف‌ حقّاً أن‌ تري‌ الإنسان‌ يغوص‌ بكلّ هذا العمق‌ في‌ عبارة‌: لاَتَنْقُضِ اليَقِينَ بِالشَّكِّ، بينما لا يكون‌ له‌ في‌ باب‌ الولاية‌ بحث‌ بهذا العمق‌، فيكون‌ محتاجاً لان‌ يكتب‌ له‌ الآخرون‌ كتاب‌ الولاية‌ مثلاً، فيشخّصوا له‌ حكمه‌، ويأتوه‌ بذلك‌ هديّة‌ بعنوان‌ الحضارة‌، فيقابلهم‌ بالتبجيل‌!

 إنَّنا نمتلك‌ ذخائر كثيرة‌ جدّاً بين‌ هذه‌ الروايات‌ التي‌ يجب‌ أن‌ يُبحث‌ فيها، وهي‌ كثيرة‌، وكلّما بحثنا أكثر ستكون‌ حصيلتنا أوفر.

 فعلي‌ سبيل‌ المثال‌، من‌ جملة‌ الادلّة‌ التي‌ ذكرت‌ في‌ هذه‌ اللقاءات‌ والتي‌ لم‌ أرَ أحداً استدلَّ بها في‌ ولاية‌ الفقيه‌ هي‌ رواية‌ كميل‌ التي‌ تدلّ بالنحو الذي‌ بيّناه‌ علی ولاية‌ الفقيه‌ والعالم‌ الذي‌ عبر الذات‌ من‌ سنخ‌ أُولئك‌ الذين‌ هم‌: إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، والذين‌ يقول‌ فيهم‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌: آهِ، آهِ! شَوْقاً إلَی رُؤْيَتِهِمْ! فهذه‌ الرواية‌ تدلّ علی ولاية‌ الفقيه‌، وهي‌ تامّة‌ سنداً ودلالة‌.

 وكذلك‌ رواية‌: مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ أَمْرَهَا رَجُلاً قَطٌّ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ إلاَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُم‌ يَذْهَبُ سَفَالاً حَتَّي‌ يَرْجِعُوا إلَی مَا تَرَكُوا، والتي‌ ذكر لها سبعة‌ أسانيد، عن‌ الإمام‌ الحسن‌ علیه السلام‌ بسندين‌، وعن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌، وعن‌ موسي‌ بن‌ جعفر علیهما السلام‌، وعن‌ سلمان‌ الفارسي‌ّ، وواحد عن‌ ابن‌ عُقدَة‌، وآخر عن‌ القندوزي‌ّ في‌ « ينابيع‌ المودّة‌ » وتُوصل‌ هذه‌ الاسانيد الرواية‌ إلی النبي‌ّ، فهي‌ من‌ حيث‌ السند قويّة‌ جدّاً؛ ومن‌ حيث‌ الدلالة‌ قويّة‌ أيضاً. لكنّني‌ لم‌ أرَ في‌ أي‌ّ من‌ كتب‌ فقهائنا الاستفادة‌ من‌ هذه‌ الرواية‌ في‌ باب‌ ولاية‌ الفقيه‌.

 ومنها أيضاً رسالة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ لمالك‌ الاشتر، حيث‌ يقول‌: وَاخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي‌ نَفْسِكَ؛ حيث‌ استُفيد منها أعلميّة‌ الفقيه‌ المنصوب‌ للولاية‌.

 ومنها: قول‌ إبراهيم‌ علیه السلام‌: يَـ'´أَبَتِ إِنِّي‌ قَدْ جَآءَنِي‌ مِنَ الْعِلْمِ مَالَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي‌´ أَهْدِكَ صِرَ ' طًا سَوِيًّا، بذلك‌ التقرير الذي‌ استُدِلَّ به‌ علی ولاية‌ الفقيه‌.

 ومنها أيضاً، رواية‌: مَجَارِي‌َ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ عَلَی أَيْدِي‌ العُلَمَاءِ بِاللَهِ، الاُمَنَاءِ عَلَی حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ؛ حيث‌ إنَّ الفقهاء ومنهم‌ الشيخ‌ الانصاري‌ّ أيضاً قد تجاوزوها بكلمة‌ أو كلمتين‌ بنحو إجمالي‌ّ ومختصر. بينما استفدنا بهذا البحث‌ الذي‌ بيّناه‌، وبعد التعمّق‌ فيه‌ أنَّ هذه‌ الرواية‌ تدلّ وبصراحة‌ علی ولاية‌ الفقيه‌ الاعلم‌، الذي‌ يكون‌ له‌ إحاطة‌ بالكتاب‌ والسنّة‌ من‌ حيث‌ الظاهر والباطن‌، والذي‌ يكون‌ قلبه‌ متّصلاً بعالم‌ الغيب‌. وقد دلّت‌ علی ولاية‌ الفقيه‌ بصورة‌ جيّدة‌ جدّاً.

 كانت‌ هذه‌ الادلّة‌ الخمسة‌ ممّا ظفرنا علیه؛ وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «نهج‌البلاغة‌» الخطبة‌ 40؛ ومن‌ طبعة‌ مصر بتعليقة‌ الشيخ‌ محمّد عبده‌، ج1، ص91.

[2] ـ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌» لابن‌ أبي‌ الحديد، ج‌ 2، ص‌ 308 و 309، طبعة‌ دار إحياء الكتب‌ العربيّة‌ بمصر.

[3] ـ كتاب‌ «تحرير الاحكام‌» ج‌ 2، ص‌ 179، كتاب‌ القضاء، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[4]ـ يختلج‌ في‌ الذهن‌ أنَّ هذه‌ الرواية‌ هي‌ من‌ الروايات‌ المشهورة‌ والمعروفة‌ والمضبوطة‌ في‌ كتب‌ الحديث‌ ومجاميع‌ الاخبار، ولكن‌ بعد الفحص‌ لم‌ نجدها في‌ غيركتاب‌ «نصيحة‌ الملوك‌» لمحمّد الغزّالي‌ّ و «مرصاد العباد» لنجم‌ الدين‌ الرازي‌ّ. و توضيح‌ ذلك‌: راجعنا في‌ البداية‌ «المعجم‌ المفهرس‌ لالفاظ‌ الحديث‌ النبوي‌ّ» فلم‌نجدها؛ فراجعنا بعد ذلك‌ «الجامع‌ الصغير» للسيوطي‌ّ و «كنوز الحقائق‌» للمَناوي‌ّ، وهما حول‌ أحاديث‌ الرسول‌ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌، فلم‌ تكن‌ هنا أيضاً؛ ومن‌ ثمّ راجعنا «مروج‌ الذهب‌» ج‌ 2، ص‌ 299 إلي‌ 303، الطبعة‌ الثانية‌، سنة‌ 1367 ه، حيث‌ أورد هناك‌ بعض‌ الكلمات‌ القصار للنبي‌ّ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌، وقال‌: إنَّ هذه‌ الكلمات‌ مختصّة‌ به‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌، ولم‌ يفتح‌ من‌ البشر أحد فمه‌ بها قبل‌ ذلك‌، ولم‌ تكن‌ هناك‌ أيضاً؛ وراجعنا «نهج‌ الفصاحة‌» لابي‌ القاسم‌ الپاينده‌ الذي‌ نسب‌ لرسول‌ الله‌ 3227 كلمة‌، و«وَهْج‌ الفصاحة‌» لعلاء الدين‌ الاعلمي‌ّ الذي‌ نسب‌ له‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ 3223 كلمة‌. وكلاهما قد ذكرا هذه‌ الكلمات‌ من‌ دون‌ إسناد، فلم‌ تكن‌ هذه‌ الكلمة‌ هناك‌ أيضاً. وحيث‌ كان‌ يحتمل‌ أن‌ تكون‌ هذه‌ الكلمة‌ لامير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌، فقد راجعنا «نهج‌ البلاغة‌» باب‌ خُطَبه‌ ورسائله‌ وحِكَمه‌ فلم‌ تكن‌ هناك‌ أيضاً، وراجعنا الجزء الاخير لـ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌» لابن‌ أبي‌ الحديد الذي‌ يذكر في‌ آخر شرحه‌ ألف‌ كلمة‌ من‌ الكلمات‌ القصار للاءمام‌ عليه‌ السلام‌، فلم‌تكن‌ هناك‌ أيضاً؛ وراجعنا «شرح‌ الغُرر و الدُّرَر» للآمدي‌ّ، و «شرح‌ المائة‌ كلمة‌ لاميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌» التي‌ اختارها الجاحِظ‌ وشرحها كمال‌ الدين‌ ميثم‌ البحراني‌ّ وعبد الوهّاب‌ ورشيد الوطواط‌، فلم‌ تكن‌ هناك‌ أيضاً؛ وراجعنا الابواب‌ المناسبة‌ في‌ «إحياء العلوم‌»، فلم‌تكن‌ موجودة‌ أيضاً؛ وأبواب‌ الجهاد والامر بالمعروف‌ والنهي‌ عن‌ المنكر في‌ «وسائل‌ الشيعة‌» و«مستدرك‌ الوسائل‌» والتي‌ تشكّل‌ معظم‌ الكتاب‌ وكان‌ يحتمل‌ أن‌ تكون‌ قد وردت‌ هناك‌ في‌ بيان‌ الصفات‌ النفسانيّة‌ والعدل‌ والظلم‌ وغيرها، فلم‌ توجد هناك‌ كذلك‌، كما لم‌توجد في‌ «سفينة‌ البحار» للمحدّث‌ القمّي‌ّ في‌ باب‌ الظلم‌. ولكن‌ عندما راجعنا «بحار الانوار» للمجلسي‌ّ ج15، ص‌ 208، كتاب‌ العشرة‌، طبعة‌ الكمباني‌؛ ج‌ 75، ص‌ 331 طبعة‌ المطبعة‌ الحيدريّة‌ لاحظنا أنـّه‌ قد أورد هذه‌ العبارة‌ في‌ خاتمة‌ كلامه‌ في‌ شرح‌ رواية‌.

 والرواية‌ عن‌ «الكافي‌» عن‌ عدّة‌، عن‌ البرقي‌ّ، عن‌ ابن‌ محبوب‌، عن‌ إسحاق‌ بن‌ عمّار، عن‌ الاءمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌، قَالَ: إنَّ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَي‌ إلَي‌ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ فِي‌ مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ مِنَ الجَبَّارِينَ: أَنِ ائْتِ هَذَا الجَبَّارَ فَقُلْ لَهُ: إنِّي‌ لَمْ أَسْتَعْمِلْكَ عَلَي‌ سَفْكِ الدِّمَاء وَاتِّخَاذِ الاَمْوَالِ، وَإنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكَ لِتَكُفَّ عَنِّي‌ أَصْوَاتَ المَظْلُومِينَ؛ فَإنِّي‌ لَنْ أَدَعَ ظُلاَمَتَهُمْ وَإنْ كَانوُا كُفَّاراً. وهذا شرحها: بَيانٌ: الظُّلامَةُ بِالضَّمِّ ما تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ؛ وَهُوَ اسْمُ ما أُخِذَ مِنْكَ. وَفيهِ دَلالَةٌ عَلَي‌ أنَّ سَلْطَنَةَ الجَبَّارِيْنَ أيْضاً بِتَقْديرِهِ تَعالَي‌ حَيْثُ مَكَّنَهُمْ مِنْها، وَهَيَّأَ لَهُمْ أسْبابَها. وَلايُنافي‌ ذَلِكَ كَوْنُهُمْ مُعاقَبينَ عَلَي‌ أفْعالِهِمْ، لاَنـَّهُمْ غَيْرُ مَجْبورينَ عَلَيْها؛ مَعَ أَنـّهُ يَظهَرُ مِنَ الاَخْبارِ أنـَّهُ كانَ في‌ الزَّمَنِ السَّابِقِ السَّلْطَنَةُ الحَقَّةُ لِغَيْرِ الاَنبِياءِ وَالاَوصِيَاءِ أيْضاً؛ لَكِنَّهُمْ كانوا مَأْمورينَ بِأَنْ يُطِيعُوا الاَنبِياءَ فيما يَأْمُرونَهُمْ بِهِ. وَقَوْلُهُ: فَإنِّي‌ لَنْ أَدَعَ ظُلامَتَهُمْ، تَهْديدٌ لِلْجَبّارِ بِزَوالِ مُلْكِهِ؛ فَإنَّ المُلْكَ يَبْقَي‌ مَعَ الكُفْرِ وَلاَ يَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ.

 ومن‌ هنا، كثيراً ما يخطر في‌ الذهن‌ أنَّ هذه‌ العبارة‌ ربّما كانت‌ نفس‌ عبارة‌ المجلسي‌ّ، وقد أنشأها في‌ مقام‌ الاستدلال‌ والبرهان‌ علي‌ كلامه‌، ولكن‌ بعد زيادة‌ التتبّع‌ والتفحّص‌ الذي‌ قام‌ به‌ بعض‌ الاحبّة‌ والاعزّة‌ من‌ الاصدقاء اتّضح‌ أنَّ هذه‌ العبارة‌ موجودة‌ في‌ كتاب‌ «نصيحة‌ الملوك‌» للغزّالي‌ّ، ص‌ 82، الباب‌ الاوّل‌، الطبعة‌ الرابعة‌ (الذي‌ هو العدل‌ والسياسة‌ وسيرة‌ الملوك‌ وذكر الملوك‌ السابقين‌ وتأريخ‌ كلّ منهم‌) التي‌ هي‌ من‌ تصحيح‌ العلاّمة‌ جلال‌ الدين‌ همائي‌؛ وعبارة‌ الغزّالي‌ّ كما يلي‌:

 والسلطان‌ في‌ الحقيقة‌ هو الذي‌ يعدل‌ بين‌ عباده‌، ولا يقوم‌ بالجور والفساد، لانَّ السلطان‌ الجائر مشؤوم‌ وأمره‌ إلي‌ الزوال‌، وذلك‌ أنَّ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ عليه‌ قال‌: المُلْكُ يَبْقَي‌ مَعَ الكُفْرِ وَلاَ يَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ.

 وبعد الاطّلاع‌ علي‌ وجود الرواية‌ في‌ كتاب‌ «نصيحة‌ الملوك‌» ومن‌ خلال‌ الفحص‌ مجدّداً، وجدنا هذه‌ العبارة‌ في‌ كتاب‌ «مرصاد العباد» للرازي‌ّ، ص436، الباب‌ الرابع‌، الفصل‌ الثاني‌، طبعة‌ بنگاه‌ ترجمه‌ ونشر كتاب‌، سنة‌ 1352. وقد وردت‌ الرواية‌ في‌ تعليقة‌ ذيل‌ هذه‌ العبارة‌ من‌ المتن‌ «قال‌ الخواجة‌ عليه‌ السلام‌: العَدْلُ وَالمُلْكُ تَوْأَمَانِ.» وهي‌ كما يلي‌: وقال‌ في‌ موضع‌ آخر: المُلْكُ يَبْقَي‌ مَعَ الكُفْرِ وَلاَ يَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ.

 ويقول‌ كذلك‌ في‌ ص‌ 466، الباب‌ الخامس‌، الفصل‌ الثالث‌ (الذي‌ هو في‌ بيان‌ سلوك‌ الوزراء وأصحاب‌ القلم‌ والنوّاب‌: ومن‌ هنا قال‌ الخواجة‌ عليه‌ السلام‌: المُلْكُ يَبْقَي‌ مَعَ الكُفْرِ وَلاَيَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ.

 وممّن‌ زعم‌ أنَّ هذه‌ الرواية‌ هي‌ من‌ إنشاءات‌ العلاّمة‌ المجلسي‌ّ العالِم‌ المعاصر اللبناني‌ّ ـمفخرة‌ الشيعة‌، بما تحمّله‌ من‌ مشقّات‌ ثمينة‌ وقام‌ به‌ من‌ تأليفات‌ ممتعة‌ وتصنيفات‌ نفيسةالشيخ‌ محمّد جواد مغنيّة‌ قدّس‌ الله‌ سرّه‌، حيث‌ يقول‌ في‌ كتاب‌ «الشيعة‌ في‌ الميزان‌» ï ïص399، الطبعة‌ الاُولي‌ لدار التعارف‌ للمطبوعات‌، بيروت‌، تحت‌ عنوان‌: نَحْنُ أعْداءُ الظُّلْم‌: المُلْكُ يَبْقَي‌ مَعَ ا لكُفْرِ وَلاَ يَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ. نَطَقَ بِهَذِهِ الحِكْمَةِ العَلاّمَةُ المَجْلِسِي‌ُّ في‌ كِتابِهِ «بحار الانوار» وَهُوَ أحَدُ أئِمَّةِ الدِّينِ الاءسلامي‌ّ.

 ثمّ يستفيد من‌ شواهد التأريخ‌ لاءثبات‌ هذا القانون‌، أي‌ بقاء الحكم‌ مع‌ الكفر وعدم‌بقائه‌ مع‌ الظلم‌؛ وذكر الملك‌ فاروق‌ شاهداً علي‌ ذلك‌، فمع‌ كون‌ فاروق‌ مسلماً، ومن‌ أبوين‌ مسلمين‌، وأقرّ بالشهادتين‌، ومن‌ سلالة‌ الملوك‌ والاُمراء، وكان‌ يحضر المساجد للصلاة‌، ويقيم‌ موائد الاءفطار في‌ شهر رمضان‌ للصائمين‌، ويستمع‌ لتلاوة‌ القرآن‌ الكريم‌. فمع‌ هذا كلّه‌ فإنَّ حكومته‌ لم‌ تكن‌ علي‌ أساس‌ الثقة‌ بالشعب‌ والاعتماد عليه‌. ولذا فقد اقتُلِعَ ولم‌يبق‌ له‌ الآن‌ أي‌ّ أثر.

[5] «نهج‌ البلاغة‌» الرسالة‌ 53؛ وطبعة‌ المطبعة‌ المصريّة‌ بتعليقة‌ الشيخ‌ محمّد عبده‌ ج2، ص102.

[6] ـ ـ «النهاية‌» ج‌ 1، ص‌ 190.

[7] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 275، من‌ السورة‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[8] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 1، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[9] ـ «عوائد الايّام‌» ص‌ 186، حديث‌ 11، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[10] ـ وذكرها ابن‌ أبي‌ الحديد في‌ آخر «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌» ج‌ 20، ص‌ 304، رقم‌ 484، طبعة‌ دار إحياء الكتب‌ العربيّة‌، من‌ الالف‌ كلمة‌ من‌ الكلمات‌ القصار من‌ حِكَم‌ ومواعظ‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌؛ وقال‌ الملاّ محسن‌ الفيض‌ الكاشاني‌ّ في‌ «المحجّة‌ البيضاء» ج‌ 1، ص‌ 34، كتاب‌ العلم‌: وَمِمّا ذَكَرَهُ في‌ الآثارِ: قالَ أبو الاَسْوَدِ الدُّئِلي‌ِّ: لَيْسَ شَي‌ءٌ أَعَزَّ مِنَ العِلْمِ؛ المُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَي‌ النَّاسِ، وَالعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَي‌ المُلُوكِ.

[11] ـ «كتاب‌ الحجّ» ج‌ 3، ص‌ 350 و 351؛ تقرير الشيخ‌ محمّد إبراهيم‌ الجنّاتي‌ّ.

[12] ـ «عوائد الايّام‌» ص‌ 187، حديث‌ 17.

[13] ـ «عوائد الايّام‌» ص‌ 186، حديث‌ 6.

[14] ـ «عوائد الايّام‌» ص‌ 186، حديث‌ 7؛ و «جامع‌ الاخبار» ص‌ 11، طبعة‌ مؤسّسة‌ آل‌ البيت‌.

[15] ـ «عوائد الايّام‌» ص‌ 186، حديث‌ 8.

[16] ـ «عوائد الايّام‌» ص‌ 186، حديث‌ 9.

[17] ـ «عوائد الايّام‌» ص‌ 186، حديث‌ 10.

[18] ـ «مستند الشيعة‌» ج‌ 2، ص‌ 516، كتاب‌ القضاء، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[19] ـ الآية‌ 43، من‌ السورة‌ 19: مريم‌.

[20] ـ «فروع‌ الكافي‌» ج‌ 7، ص‌ 407، كتاب‌ القضاء.

[21] ـ «التهذيب‌» ج‌ 6، ص‌ 218، كتاب‌ القضاء، طبعة‌ النجف‌.

[22] ـ «من‌ لا يحضره‌ الفقيه‌» كتاب‌ القضاء، ص‌ 3، طبعة‌ النجف‌.

[23] ـ «الخصال‌» ص‌ 118، الطبعة‌ الحجريّة‌.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com